أدلجة المعرفة وتسييسها
أحمد أبو رتيمة
تمارس الجماعات والأنظمة أسلوب التحشيد الجماهيري والتعبئة الإيديولوجية والتوعية الانتقائية بهدف توظيف المعرفة لتحقيق أهداف سياسية فتستحضر من الحقائق ما يؤكد رؤيتها الإيديولوجية والسياسية بينما تسقط أو تخفي المعرفة التي لا تخدم هذه الأهداف.. هذا الأسلوب تتورط فيه أيضاً أنظمة ديمقراطية حيث تسخر أدواتها الإعلامية في صياغة الوعي الجماهيري في الاتجاه الذي تريده فتضخم التركيز مثلاً على جرائم أحد الأنظمة الدكتاتورية لتبرير اتخاذ موقف سياسي ضده بينما تتغاضى عن جرائم لا تقل وحشيةً يرتكبها نظام آخر لأن مصلحتها السياسية تقتضي السكوت عليه...
أسلوب استحضار النصوص والشواهد بشكل انتقائي لا يتضمن إيذاءً مباشراً للشعوب التي يمارس عليها لأنه يستند إلى الإقناع الفكري والتأثير العاطفي وغالباً ما يقدم حقائق صادقةً لكنه مع ذلك أسلوب غير إنساني لأنه يفرض على الشعوب وصايةً فكريةً ويحول بينها وبين المعرفة الشاملة و يحرمها من رؤية الصورة الكاملة بكل أجزائها ولا يقدم لها فرصاً متكافئةً تتيح لها اختيار الرأي الذي ترتئيه مبنياً على معطيات كافية بل ترسم لها مسارات محددةً يتحتم عليها السير فيها في ضوء عدم القدرة على رؤية مسارات أخرى..
أسلوب التضخيم الإعلامي الانتقائي هو سحر بالمصطلح القرآني فحقيقة السحر الذي كان يمارسه فرعون ليثبت به دعائم عرشه كان الاعتماد على قوة الإيحاء والتأثير في وعي الجماهير: " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى"... السحر هو التأثير على وعي الناس لإخضاع إرادتهم واسترهابهم: " وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم".. وهذا الدور تحديداً هو ما تقوم به ماكنات الإعلام الأمريكية ضد شعبها كما فصل في ذلك المفكر الأمريكي نوعام تشومسكي في كتابه "السيطرة على الإعلام" فهذا الإعلام يستعبد الناس ليس بالشكل المباشر المستفز لكرامتهم والمحرض لهم على الثورة إنما بتشكيل وعيهم في الاتجاه الذي تريده النخبة الحاكمة فتوهمهم أنهم أحرار يختارون رأيهم بأنفسهم لكنهم لا يتفطنون إلى أن المصادر التي تشكل وعيهم تنتقيها لهم شبكات مصالح وأن هذه المصادر لا تتيح لهم حرية الفكر إلا في اتجاهات مرسومة...
توظيف المعرفة في التحشيد السياسي والتعبئة الأيديولوجية هو ضرب من الوصاية على الناس لأنه يفترض أنهم أقل وعياً وأنه لا يوثق باختياراتهم في الحياة فوجب أن يكون هناك من يقرر لهم طريقهم كما أن هذا التسييس للمعرفة يعطي إشارةً على اهتزاز الثقة بالأساس الأخلاقي الذي نستند إليه فنحن نريد للناس أن يظلوا بين جدران مغلقة لأننا نخشى إن خرجوا إلى ضوء الشمس الساطع وحصلوا على معلومات أخرى أن يهتز إيمانهم وانتماؤهم وأن تدفعهم هذه المعرفة الجديدة إلى اعتناق موقف سياسي مناقض لمصالحنا..
من حيث المبدأ فإن التوظيف السياسي للمعرفة واستحضارها بانتقائية هو خيانة لأمانة العلم ولكلمة الحق لأن العالم لا يهمه شيء سوى الاهتداء إلى الحقيقة سواءً كان ذلك في مختبر الأحياء والفيزياء أو في حقول العلوم الإنسانية مثل النفس والاجتماع والتاريخ وغيرها.. إن العالم الحق يستعصي على الأدلجة والاحتواء وليس من وظيفته حين تتبين له حقيقة علمية أن يراعي الفريق الذي ستنفعه هذه الحقيقة والفريق الذي ستضره وأن يتنبأ كيف سيتم توظيف هذه الحقيقة.. وظيفته تتمثل في تبيان هذه الحقيقة المجردة: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه" فمن حرف هذه الحقيقة عن مواضعها وطوعها لهواه من بعد ذلك فإنما إثمه على الذين يبدلونه..
تحدث الله عن مرض إنساني أصاب بني إسرائيل وهو مرض عام يصيب أي قوم آخرين وهو الاستحضار الانتقائي للعلم وأدلجته وتسييسه بما يخدم الأهواء: " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًاً "..
ضرر أدلجة العلم ليس روحياً وحسب بل له ضرر سياسي أيضاً لأنه يحكم على أبناء المجتمع بالبقاء رهن طريقة واحدة في التفكير وبرؤية جزء من الحقيقة فقط وبذلك تحرم المجتمعات نفسها من الرؤية الشاملة التي يبنى عليها قرارات صحيحة وتظل هذه المجتمعات مخادعةً لنفسها تعيش على الوهم المريح فالمعرفة الانتقائية تعني استحضار الشواهد على فضائل الذات وميزاتها وفي المقابل استحضار كل الشواهد التي تعزز شيطنة الأعداء ويؤدي هذا بالضرورة إلى الغفلة عن أخطاء الذات مما يعني تفاقمها كما سيؤدي إلى بخس الأعداء أشياءهم والتهوين من عناصر قوتهم مما سيحرمنا من تقدير قوتهم والاستعداد الكافي لهم، وهذا التفكير الرغائبي الذي يشبه ما يسميه القرآن اتباعاً للأهواء: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ" يصرفنا عن الدراسة الموضوعية للواقع وينتج مواقف عاطفيةً لا تستند إلى معطيات صحيحة..
كتبت ذات مرة عن إيجابيات المجتمع الإسرائيلي مثل العدالة الداخلية، والتداول السلمي للسلطة والتقدم العلمي فرد أحد الإخوة أن الحديث عن محاسن لإسرائيل ليس مثمراً وأنه لا يخدم فكرة التحشيد ضدها، لكن رأيي كان هو أن المعرفة مطلوبة لذاتها والحشد يجب أن ينطلق من رؤية صحيحة متكاملة حتى لا تستغرقنا العواطف ونحرم أنفسنا من القراءة الصحيحة للواقع فتصدمنا النتائج، والتحشيد المبني على العاطفة خطر على العقل والحكمة ونحن نريد أمةً مفكرةً قائدةً لا أمةً مقادةً، والمعرفة يتكامل بعضها ببعض ويصحح بعضها بعضاً فالمشكلة ليست في أن نعرف إيجابيات أعدائنا بل في ألا نرى الصورة كاملةً وأن نتوقف عند معلومة مجتزأة وألا نواصل سعينا الدائب للحقيقة المقدسة...
أحمد أبو رتيمة
تمارس الجماعات والأنظمة أسلوب التحشيد الجماهيري والتعبئة الإيديولوجية والتوعية الانتقائية بهدف توظيف المعرفة لتحقيق أهداف سياسية فتستحضر من الحقائق ما يؤكد رؤيتها الإيديولوجية والسياسية بينما تسقط أو تخفي المعرفة التي لا تخدم هذه الأهداف.. هذا الأسلوب تتورط فيه أيضاً أنظمة ديمقراطية حيث تسخر أدواتها الإعلامية في صياغة الوعي الجماهيري في الاتجاه الذي تريده فتضخم التركيز مثلاً على جرائم أحد الأنظمة الدكتاتورية لتبرير اتخاذ موقف سياسي ضده بينما تتغاضى عن جرائم لا تقل وحشيةً يرتكبها نظام آخر لأن مصلحتها السياسية تقتضي السكوت عليه...
أسلوب استحضار النصوص والشواهد بشكل انتقائي لا يتضمن إيذاءً مباشراً للشعوب التي يمارس عليها لأنه يستند إلى الإقناع الفكري والتأثير العاطفي وغالباً ما يقدم حقائق صادقةً لكنه مع ذلك أسلوب غير إنساني لأنه يفرض على الشعوب وصايةً فكريةً ويحول بينها وبين المعرفة الشاملة و يحرمها من رؤية الصورة الكاملة بكل أجزائها ولا يقدم لها فرصاً متكافئةً تتيح لها اختيار الرأي الذي ترتئيه مبنياً على معطيات كافية بل ترسم لها مسارات محددةً يتحتم عليها السير فيها في ضوء عدم القدرة على رؤية مسارات أخرى..
أسلوب التضخيم الإعلامي الانتقائي هو سحر بالمصطلح القرآني فحقيقة السحر الذي كان يمارسه فرعون ليثبت به دعائم عرشه كان الاعتماد على قوة الإيحاء والتأثير في وعي الجماهير: " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى"... السحر هو التأثير على وعي الناس لإخضاع إرادتهم واسترهابهم: " وسحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم".. وهذا الدور تحديداً هو ما تقوم به ماكنات الإعلام الأمريكية ضد شعبها كما فصل في ذلك المفكر الأمريكي نوعام تشومسكي في كتابه "السيطرة على الإعلام" فهذا الإعلام يستعبد الناس ليس بالشكل المباشر المستفز لكرامتهم والمحرض لهم على الثورة إنما بتشكيل وعيهم في الاتجاه الذي تريده النخبة الحاكمة فتوهمهم أنهم أحرار يختارون رأيهم بأنفسهم لكنهم لا يتفطنون إلى أن المصادر التي تشكل وعيهم تنتقيها لهم شبكات مصالح وأن هذه المصادر لا تتيح لهم حرية الفكر إلا في اتجاهات مرسومة...
توظيف المعرفة في التحشيد السياسي والتعبئة الأيديولوجية هو ضرب من الوصاية على الناس لأنه يفترض أنهم أقل وعياً وأنه لا يوثق باختياراتهم في الحياة فوجب أن يكون هناك من يقرر لهم طريقهم كما أن هذا التسييس للمعرفة يعطي إشارةً على اهتزاز الثقة بالأساس الأخلاقي الذي نستند إليه فنحن نريد للناس أن يظلوا بين جدران مغلقة لأننا نخشى إن خرجوا إلى ضوء الشمس الساطع وحصلوا على معلومات أخرى أن يهتز إيمانهم وانتماؤهم وأن تدفعهم هذه المعرفة الجديدة إلى اعتناق موقف سياسي مناقض لمصالحنا..
من حيث المبدأ فإن التوظيف السياسي للمعرفة واستحضارها بانتقائية هو خيانة لأمانة العلم ولكلمة الحق لأن العالم لا يهمه شيء سوى الاهتداء إلى الحقيقة سواءً كان ذلك في مختبر الأحياء والفيزياء أو في حقول العلوم الإنسانية مثل النفس والاجتماع والتاريخ وغيرها.. إن العالم الحق يستعصي على الأدلجة والاحتواء وليس من وظيفته حين تتبين له حقيقة علمية أن يراعي الفريق الذي ستنفعه هذه الحقيقة والفريق الذي ستضره وأن يتنبأ كيف سيتم توظيف هذه الحقيقة.. وظيفته تتمثل في تبيان هذه الحقيقة المجردة: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه" فمن حرف هذه الحقيقة عن مواضعها وطوعها لهواه من بعد ذلك فإنما إثمه على الذين يبدلونه..
تحدث الله عن مرض إنساني أصاب بني إسرائيل وهو مرض عام يصيب أي قوم آخرين وهو الاستحضار الانتقائي للعلم وأدلجته وتسييسه بما يخدم الأهواء: " تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًاً "..
ضرر أدلجة العلم ليس روحياً وحسب بل له ضرر سياسي أيضاً لأنه يحكم على أبناء المجتمع بالبقاء رهن طريقة واحدة في التفكير وبرؤية جزء من الحقيقة فقط وبذلك تحرم المجتمعات نفسها من الرؤية الشاملة التي يبنى عليها قرارات صحيحة وتظل هذه المجتمعات مخادعةً لنفسها تعيش على الوهم المريح فالمعرفة الانتقائية تعني استحضار الشواهد على فضائل الذات وميزاتها وفي المقابل استحضار كل الشواهد التي تعزز شيطنة الأعداء ويؤدي هذا بالضرورة إلى الغفلة عن أخطاء الذات مما يعني تفاقمها كما سيؤدي إلى بخس الأعداء أشياءهم والتهوين من عناصر قوتهم مما سيحرمنا من تقدير قوتهم والاستعداد الكافي لهم، وهذا التفكير الرغائبي الذي يشبه ما يسميه القرآن اتباعاً للأهواء: " وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ" يصرفنا عن الدراسة الموضوعية للواقع وينتج مواقف عاطفيةً لا تستند إلى معطيات صحيحة..
كتبت ذات مرة عن إيجابيات المجتمع الإسرائيلي مثل العدالة الداخلية، والتداول السلمي للسلطة والتقدم العلمي فرد أحد الإخوة أن الحديث عن محاسن لإسرائيل ليس مثمراً وأنه لا يخدم فكرة التحشيد ضدها، لكن رأيي كان هو أن المعرفة مطلوبة لذاتها والحشد يجب أن ينطلق من رؤية صحيحة متكاملة حتى لا تستغرقنا العواطف ونحرم أنفسنا من القراءة الصحيحة للواقع فتصدمنا النتائج، والتحشيد المبني على العاطفة خطر على العقل والحكمة ونحن نريد أمةً مفكرةً قائدةً لا أمةً مقادةً، والمعرفة يتكامل بعضها ببعض ويصحح بعضها بعضاً فالمشكلة ليست في أن نعرف إيجابيات أعدائنا بل في ألا نرى الصورة كاملةً وأن نتوقف عند معلومة مجتزأة وألا نواصل سعينا الدائب للحقيقة المقدسة...
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية