أسئلة الحرب والانتفاضة: العوالم التي يكتنزها الرجال الثلاثة
ساري عرابي
في الأعوام ٩١ و٩٢ من القرن الماضي، اختفى ثلاثة رجال. في الحقيقة كانت السنوات الأولى في ذلك العقد من القرن الماضي هي سنوات الاختفاء المقدس، الأسطوري، الساحر، ولأن هذا الوطن مقدس ولأن أكثر الرجال الذين دخلوا طقس الاختفاء المقدس ارتقوا في حالة أسمى من القداسة وهي الشهادة، فإن سحرهم الذي نثروه على الوطن تبارك بصدقهم وصعودهم الخالد، فبقي سحرهم من خلفهم حقيقة وأصلاً ثابتًا يؤكد على زيف كل ما سواه، وما أن ينتفش الزيف ويتمدد، حتى تظهر بقية هؤلاء المباركين تدافع عن الحقيقة والجمال والمعرفة الصحيحة والإنسانية الحقة.
في تلك السنوات؛ صار الحديث عن مؤتمر دولي للسلام أمرًا واقعًا، وتضخم هذا الواقع من مدريد إلى أوسلو، ليجثم على أنفاس الانتفاضة الأولى، لكن عددًا من الرجال، قرروا الاختفاء، وأسدلوا الليل على حضورهم، وما دل عليهم إلا نورهم الذي كانوا يشقون به ظلمات الواقع الثقيل، وذلك السحر الذي كان ينتثر منهم، حيثما كانوا، وكيفما ارتحلوا.
عرف من هؤلاء الرجال؛ ياسر الحسنات، ياسر النمروطي، طارق دخان، عماد عقل، حاتم المحتسب، جميل وادي، ماهر أبو سرور، محمد عزيز رشدي، خالد الزير، عبد المنعم أبو حميد، جهاد غلمة، يحيى عياش، وغيرهم.. ولكل واحد من هؤلاء حكايات تكتنز معرفة خاصة، لم يُنقل منها إلا القليل، وبقي أكثره مما تضيق به اللغة ولا تصلح له الكتب ولا يعرف إلا بالتجربة، إلا أن بقية من خلفهم، ممن شاركوهم لحظات الاختفاء الأولى، طال طقسهم أكثر من عقدين فراكموا تلك المعرفة، دون ثرثرة، وبلا تدوين، ولكن نورهم كان يفيض على الوجود، وهم يتحركون خلف ذلك الإسدال الذي يحجبهم عن العالم ولا يحجب عن العالم نورهم.
في الأعوام ٩١، ٩٢ من القرن الماضي، اختفى محمد أبو شمالة، ومحمد برهوم، ورائد العطار، وفي ذات السنوات التي كان يَعِدُ فيها القوم باسترجاع بعض من فلسطين بالمفاوضات ونبذ "العنف" والتعري من ماضي العنف المشرف. لكن هؤلاء الرجال؛ لم يصدقوا ذلك، وأحبوا البندقية بشغف، ويمكن لنا أن نتخيل أن البندقية الوحيدة التي كانت تنثر سحرها على مدن القطاع ثم مدن الضفة الغربية، كانت قطعة من قلوبهم، كما أنهم كانوا أصحاء نفسيين، أحبوا هذا العنف كما أحبوا تلك البندقية، ولم يقعوا ضحية المازوخية، والتلذذ بالألم الذي يوقعه عليهم العدو، وهو مرض من تعبيراته مقولات "اللا عنف"، أي أن تقابل العدو بمزيد من التعري من أدوات القوة، وفوق ذلك بمزيد من قهر الذات.
وهؤلاء الرجال الثلاثة، ومن بقي معهم داخل طقس الاختفاء المستمر، كقائدهم العام محمد الضيف، كانت علاقتهم ببندقيتهم مركبة من اقتناع عقلي يفيد بجدوى هذه البندقية وإمكانية تطويرها والمراكمة عليها، وإيمان صادق يفيد بضرورة القيام بالواجب والالتصاق الشغوف بالبندقية مهما تكتل الزيف في طريقها، فما جاوز الزيف حدّه في سنوات القهر والفجيعة من بعد أوسلو، وبقي برانيًا عنهم لم يطل دواخلهم، ولا مس شغفهم، ولا عبث بإيمانهم، وإن خيّل أنه قوي مقيم، لكنه ظهر لإيمانهم كما هو كاذبًا مخادعًا بقوة عابرة مؤقتة لا تطغى على الأصل، فأخذوا بندقيتهم بقوة يمسّكون بها، كما أخذوا كتابهم بقوة يمسّكون به، فعبروا بحماس من حيرتها، وحلوا لها معضلاتها، وباركوا فيها، بإيمانهم الصادق وأخذهم القوي وتمسكهم بهذه البندقية، بعدما ألقت سنوات أوسلو بكل زيفها وخداعها على الكثيرين فتخبطوا وما عصمتهم إلا بندقية هؤلاء الرجال الأخفياء.
فما انقطع في سنوات أوسلو، بقي مستمرًا في هؤلاء الرجال، حبلاً متينًا من إيمان امتد من سنوات الانتفاضة الأولى، إلى الانتفاضة الثانية، حتى أسفر الإيمان عن إرادة ومعرفة راكما خبرة هائلة من العمل والتجربة والمحاولة، فتكاثرت البنادق كما تكاثرت الخنادق، وتحولت غزة إلى مصنع كبير، حوّل الخيال إلى وقائع، وجعل سحر الواقع أكثر أخذًا من سحر الخيال.
استمر العمل، وإنتاج المعرفة، والتجريب، حتى مع انتهاء الانتفاضة الثانية، وهذا تطلب بالتأكيد الحفاظ على مكتسبات تلك الانتفاضة، والمراكمة عليها، بيد أن المراكمة على أرضية ناجزة وقوية لا يقل صعوبة وقسوة عن البناء من العدم، والحفاظ على المكتسب لا يقل في تحديه عن بناء المكتسب، ولأن التحدي تضخم بعد وجود هذه الأرضية، ولأن القلة من الأخفياء صارت جيشًا من المقاتلين، والبندقية الواحدة صار منها الآلاف في أيدي المقاتلين، صبّ الاحتلال تفكيره ونيرانه على غزة، وفرض عليها الحصار المطبق والحروب المتوالية.
وحتى كانت حرب "العصف المأكول"، وأسفرت عن بعض من نتائج سنوات الإعداد والتجريب والتخطيط، وكيف يمكن لجيش صغير العدد مسلح بالإيمان والبنادق الخفيفة ومحاصر من الجهات الأربع، أن يثبط جيشًا مدججًا ويحبط تكنلوجيا فائقة، وكيف يمكن لمجموعات صغيرة من هذا الجيش الصغير أن تبيد ألوية النخبة في الدولة التي تفوقت على العرب مجتمعين ونهبت منهم أرضهم وتاريخهم وحاضرهم.
كيف قاتل هؤلاء الرجال؟ وكيف حولوا المستحيل إلى ممكن؟ وكيف انتقلوا من فكرة القيام بالواجب إلى تحقيق الإمكان؟ وهل يمكن حقًا تصوير هذه التجربة بكل إمكانات التصوير المتاحة؟ وهل وفيناهم حقهم؟! وبأي شيء نفتخر إن لم نفتخر بهم؟!
في هذه الحرب؛ قتل الشهداء الثلاثة، وتركوا من خلفهم إرثهم ونورهم ومعرفتهم التي لا يمكننا تصويرها كما هي، ولكن الذين من خلفهم وشاركوهم إنتاجها سيطورنها بدورهم، وبعد ذلك ستبقى مشكلة "إسرائيل" مع حماس في ذلك الإيمان، وتلك البندقية، وهؤلاء الرجال.. وحسب..
ساري عرابي
في الأعوام ٩١ و٩٢ من القرن الماضي، اختفى ثلاثة رجال. في الحقيقة كانت السنوات الأولى في ذلك العقد من القرن الماضي هي سنوات الاختفاء المقدس، الأسطوري، الساحر، ولأن هذا الوطن مقدس ولأن أكثر الرجال الذين دخلوا طقس الاختفاء المقدس ارتقوا في حالة أسمى من القداسة وهي الشهادة، فإن سحرهم الذي نثروه على الوطن تبارك بصدقهم وصعودهم الخالد، فبقي سحرهم من خلفهم حقيقة وأصلاً ثابتًا يؤكد على زيف كل ما سواه، وما أن ينتفش الزيف ويتمدد، حتى تظهر بقية هؤلاء المباركين تدافع عن الحقيقة والجمال والمعرفة الصحيحة والإنسانية الحقة.
في تلك السنوات؛ صار الحديث عن مؤتمر دولي للسلام أمرًا واقعًا، وتضخم هذا الواقع من مدريد إلى أوسلو، ليجثم على أنفاس الانتفاضة الأولى، لكن عددًا من الرجال، قرروا الاختفاء، وأسدلوا الليل على حضورهم، وما دل عليهم إلا نورهم الذي كانوا يشقون به ظلمات الواقع الثقيل، وذلك السحر الذي كان ينتثر منهم، حيثما كانوا، وكيفما ارتحلوا.
عرف من هؤلاء الرجال؛ ياسر الحسنات، ياسر النمروطي، طارق دخان، عماد عقل، حاتم المحتسب، جميل وادي، ماهر أبو سرور، محمد عزيز رشدي، خالد الزير، عبد المنعم أبو حميد، جهاد غلمة، يحيى عياش، وغيرهم.. ولكل واحد من هؤلاء حكايات تكتنز معرفة خاصة، لم يُنقل منها إلا القليل، وبقي أكثره مما تضيق به اللغة ولا تصلح له الكتب ولا يعرف إلا بالتجربة، إلا أن بقية من خلفهم، ممن شاركوهم لحظات الاختفاء الأولى، طال طقسهم أكثر من عقدين فراكموا تلك المعرفة، دون ثرثرة، وبلا تدوين، ولكن نورهم كان يفيض على الوجود، وهم يتحركون خلف ذلك الإسدال الذي يحجبهم عن العالم ولا يحجب عن العالم نورهم.
في الأعوام ٩١، ٩٢ من القرن الماضي، اختفى محمد أبو شمالة، ومحمد برهوم، ورائد العطار، وفي ذات السنوات التي كان يَعِدُ فيها القوم باسترجاع بعض من فلسطين بالمفاوضات ونبذ "العنف" والتعري من ماضي العنف المشرف. لكن هؤلاء الرجال؛ لم يصدقوا ذلك، وأحبوا البندقية بشغف، ويمكن لنا أن نتخيل أن البندقية الوحيدة التي كانت تنثر سحرها على مدن القطاع ثم مدن الضفة الغربية، كانت قطعة من قلوبهم، كما أنهم كانوا أصحاء نفسيين، أحبوا هذا العنف كما أحبوا تلك البندقية، ولم يقعوا ضحية المازوخية، والتلذذ بالألم الذي يوقعه عليهم العدو، وهو مرض من تعبيراته مقولات "اللا عنف"، أي أن تقابل العدو بمزيد من التعري من أدوات القوة، وفوق ذلك بمزيد من قهر الذات.
وهؤلاء الرجال الثلاثة، ومن بقي معهم داخل طقس الاختفاء المستمر، كقائدهم العام محمد الضيف، كانت علاقتهم ببندقيتهم مركبة من اقتناع عقلي يفيد بجدوى هذه البندقية وإمكانية تطويرها والمراكمة عليها، وإيمان صادق يفيد بضرورة القيام بالواجب والالتصاق الشغوف بالبندقية مهما تكتل الزيف في طريقها، فما جاوز الزيف حدّه في سنوات القهر والفجيعة من بعد أوسلو، وبقي برانيًا عنهم لم يطل دواخلهم، ولا مس شغفهم، ولا عبث بإيمانهم، وإن خيّل أنه قوي مقيم، لكنه ظهر لإيمانهم كما هو كاذبًا مخادعًا بقوة عابرة مؤقتة لا تطغى على الأصل، فأخذوا بندقيتهم بقوة يمسّكون بها، كما أخذوا كتابهم بقوة يمسّكون به، فعبروا بحماس من حيرتها، وحلوا لها معضلاتها، وباركوا فيها، بإيمانهم الصادق وأخذهم القوي وتمسكهم بهذه البندقية، بعدما ألقت سنوات أوسلو بكل زيفها وخداعها على الكثيرين فتخبطوا وما عصمتهم إلا بندقية هؤلاء الرجال الأخفياء.
فما انقطع في سنوات أوسلو، بقي مستمرًا في هؤلاء الرجال، حبلاً متينًا من إيمان امتد من سنوات الانتفاضة الأولى، إلى الانتفاضة الثانية، حتى أسفر الإيمان عن إرادة ومعرفة راكما خبرة هائلة من العمل والتجربة والمحاولة، فتكاثرت البنادق كما تكاثرت الخنادق، وتحولت غزة إلى مصنع كبير، حوّل الخيال إلى وقائع، وجعل سحر الواقع أكثر أخذًا من سحر الخيال.
استمر العمل، وإنتاج المعرفة، والتجريب، حتى مع انتهاء الانتفاضة الثانية، وهذا تطلب بالتأكيد الحفاظ على مكتسبات تلك الانتفاضة، والمراكمة عليها، بيد أن المراكمة على أرضية ناجزة وقوية لا يقل صعوبة وقسوة عن البناء من العدم، والحفاظ على المكتسب لا يقل في تحديه عن بناء المكتسب، ولأن التحدي تضخم بعد وجود هذه الأرضية، ولأن القلة من الأخفياء صارت جيشًا من المقاتلين، والبندقية الواحدة صار منها الآلاف في أيدي المقاتلين، صبّ الاحتلال تفكيره ونيرانه على غزة، وفرض عليها الحصار المطبق والحروب المتوالية.
وحتى كانت حرب "العصف المأكول"، وأسفرت عن بعض من نتائج سنوات الإعداد والتجريب والتخطيط، وكيف يمكن لجيش صغير العدد مسلح بالإيمان والبنادق الخفيفة ومحاصر من الجهات الأربع، أن يثبط جيشًا مدججًا ويحبط تكنلوجيا فائقة، وكيف يمكن لمجموعات صغيرة من هذا الجيش الصغير أن تبيد ألوية النخبة في الدولة التي تفوقت على العرب مجتمعين ونهبت منهم أرضهم وتاريخهم وحاضرهم.
كيف قاتل هؤلاء الرجال؟ وكيف حولوا المستحيل إلى ممكن؟ وكيف انتقلوا من فكرة القيام بالواجب إلى تحقيق الإمكان؟ وهل يمكن حقًا تصوير هذه التجربة بكل إمكانات التصوير المتاحة؟ وهل وفيناهم حقهم؟! وبأي شيء نفتخر إن لم نفتخر بهم؟!
في هذه الحرب؛ قتل الشهداء الثلاثة، وتركوا من خلفهم إرثهم ونورهم ومعرفتهم التي لا يمكننا تصويرها كما هي، ولكن الذين من خلفهم وشاركوهم إنتاجها سيطورنها بدورهم، وبعد ذلك ستبقى مشكلة "إسرائيل" مع حماس في ذلك الإيمان، وتلك البندقية، وهؤلاء الرجال.. وحسب..
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية