أسباب خفوت الهمة وتراجع الحماسة لإقامة الدولة الإسلامية(3-5)
سري سمّور
3) تجربة السودان:ثورة الإنقاذ الوطني سنة 1989م أطاحت بحكومة الصادق المهدي وتولى مجلس عسكري الحكم، وبعد فترة وجيزة رأينا حالة من الشراكة والتعاون بين الرئيس الفريق عمر البشير والمفكر الإسلامي وزعيم أكبر الحركات الإسلامية السودانية د.حسن الترابي مما أعاد الأمل وبثّ الروح من جديد في استئناف المشروع الإسلامي الذي تعثر، وسادت حالة تأييد وحماسة للوضع السوداني الجديد عند عموم الإسلاميين، وأتذكر كيف كان أئمة مساجد مقربين من الحركة الإسلامية يتحدثون عن السودان، وطعموا حديثهم بما يشبه الخوارق والمعجزات التي تتمتع بها قيادته، القائمة على التقوى والورع، والإدارة السليمة، ومحاربة الفساد وتطبيق الشريعة...إلخ، ومما أنعش الأمل كون السودان سلة غذاء كبيرة، وهو بلد يتمتع بثروات طبيعية هائلة، وهو أكبر بلد عربي من حيث المساحة(2.5 مليون كم2). ولكن تجربة السودان لم تسلم من الخلل؛ فالتعايش بين البشير والترابي انتهى إلى درجة اعتقال الترابي، والأخير أخذ ينسق مع جون جارانج، كما أن العسكر لم يتصرفوا على طريقة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، بحيث يتركون السلطة، ولو تدريجيا، ويسلمونها لحكومة مدنية منتخبة، وأخذت حكومة الإنقاذ تحاول استرضاء الغرب بطرق مختلفة، تارة بإخراج أسامة بن لادن من البلاد، وهو الذي نفذ العديد من المشروعات الحيوية في السودان، خاصة في مجال الشوارع الكبيرة، وتارة أخرى بتسليم كارلوس إلى فرنسا، بل حتى الضغط على حماس للقبول ببرنامج منظمة التحرير، مثلما ينوّه م.إبراهيم غوشة في مذكراته، ولكن الغرب وخاصة أمريكا، وعاملها المخلوع مبارك، كما هي العادة لم يكتفوا، وبقي الابتزاز يمارس ضد الخرطوم، وكلما كان هناك تنازل أتبعوه بآخر، وأخيرا تم فصل جنوب السودان، وهي عملية كان مهندسها عمر سليمان وجاءت إثر تراكمات سياسية وعسكرية واقتصادية عدة.
ومع أن د.حسن الترابي يعتبر أن حدود وخريطة السودان قبل مئتي سنة لم تكن كما كانت عشية التقسيم، ولكن هناك مسئولية أخلاقية ووطنية تتمثل في الحفاظ على الدولة مثلما تسلمتها الإنقاذ، والأدهى والأمر أن مخططات التقسيم لم تتوقف، وهناك أزمة دارفور، وكردفان وغيرها من الأزمات التي توشك أن تحيل السودان إلى مجموعة دول وكيانات على أسس مناطقية أو عرقية...ولم تتحسن معدلات التنمية في السودان، حتى بعد انتهاء أزمة الجنوب، ولم تحدث في البلد نهضة حقيقية...فأضيفت تجربة السودان عاملا جديدا من عوامل الإحباط من قيام دولة إسلامية ناجحة.
ثانيا:التسرع وعدم إحسان قراءة الواقع الجيوسياسي:-
ينقص العرب عموما، والإسلاميون خصوصا، مراكز دراسات وأبحاث تعنى بشئون الغرب، وسياساته، ومع أن هناك الكثير من المراكز التي تزعم أنها تختص في هذا المجال، إلا أن الحقيقة أنها عبارة عن مراكز ترجمة ونقل، وما يصدر عنها هو صدى لما يصدر عن مراكز أمريكية أو أوروبية، والقائمين عليها غالبا تحكمهم خلفية ذهنية تؤثر على قراءة واقعية للواقع الجيوسياسي بعيدا عن التهويل أو التهوين، وأحيانا يهمهم التمويل أكثر من منهجية البحث...ويضاف لهذا الفهم المغلوط للتوكل، والإسراف في التفسير الغيبي للواقع، عند عموم الإسلاميين، مع أن الإيمان بالسببية لا يتناقض مع الإيمان بالغيب.
فما معنى أن يكون الحكم على إيران بثنائية الخير المطلق، أو الشر المستطير، بغض النظر عن المنطلق لأي من الحكمين؟ كان يجب أن تكون النظرة لإيران، أنها في ظل الثورة خير من نظام الشاه، ولكنها ليست الأنموذج المرجو، ويفضل عدم العداء معها، ومحاولة التلاقي، والحذر من مطامعها، دون اعتبارها، أشد خطرا من الكيان الصهيوني، وهي تجربة غير قابلة للاستنساخ في مكان آخر نظرا لعدة عوامل. والأهم هو التفكير بما يكيده الغرب وخاصة أمريكا؛ فأمريكا ما كان لها أن تسمح بامتداد التجربة، وتعلمت من درس الشاه، ولهذا نلحظ أن بين سقوط الشاه وسقوط أول دكتاتور عربي 32 سنة، وهي فترة ولد وشب فيها جيل جديد، فكان على المتفائلين ألا يفرطوا بتفاؤلهم حتى لا يصيبهم الإحباط وهم يرون أن إيران دولة فارسية شيعية، أكثر منها دولة إسلامية جامعة.
أما أفغانستان، فيعلم من جاهدوا فيها، وبشرونا أنها نواة المشروع الإسلامي، أن نسبة الأمية فيها أكثر من 85%، وتحكمها عادات وتقاليد أكثر من الدين، والقبلية والعرقية من أسس ثقافة تلك البلد الشعبية، فكيف أقيم مشروعا إسلاميا انطلاقا من بلد هذه أوضاعه الداخلية؟ ناهيك عن موقع الدولة الأفغانية، حيث أنه لا يوجد لها أي منفذ على أي بحر من بحار الأرض، وتحيطها دول مختلفة لها حساباتها وارتباطاتها ومطامعها، وربما كان التعويل على بأس الشعب الأفغاني المشهود له في مقارعة الغزاة، ولكن المشروع الإسلامي ليس مشروعا عسكريا بحتا، وحتى هذه فإننا رأينا أمريكا تتغلغل داخل القبائل بالأوراق الخضراء لتدفع القبائل إلى تسليم من تشتبه بهم أمريكا لا سيما من العرب، وصنعت أمريكا لنفسها عملاء، وأيضا هناك من ليس لها عميلا ولكنه ليس مع طالبان مثلا، وقد رأينا أن الأفغان حينما يرحل الغازي عنهم ينهشون بعضهم.
والسودان بلد أفريقي جار لأكبر عملاء إسرائيل وأمريكا وهو حسني مبارك، ناهيك عن دول فيها قبائل أفريقية مخترقة صهيونيا، ومعلوم الدعم الصهيوني لجارانج، وأيضا من الطبيعي أن من يتسلم السلطة يهمه تثبيت أركان حكمه والحفاظ عليه وهو يعلم يقينا حجم التحديات الخارجية، وهذا يقينا سيكون على حساب أحلام وتطلعات من هم خارج حدود دولته، وأيضا سيلجأ إلى التخلي عن كثير من شعارات آمن بها، أو على الأقل تأجيلها تحت عنوان التكتيك!
على كل لو أن الواقع جرت قراءته بمنطق أن القوى العظمى وخاصة أمريكا لديها أدوات ضغط كثيرة، ومنها قدرتها على فرض عقوبات مؤلمة(إيران والسودان تخضعان لعقوبات بدعوى دعم الإرهاب) وقدرتها على تجنيد أناس في الداخل، ودول مجاورة تربك المشروع الإسلامي، ولا ينفع هنا اللجوء إلى الطمأنة باستحضار نصوص قرآنية، فحتى رسولنا الكريم وصحبه قد حفروا خندقا استعدادا للغزو.
لقد كان التفكير بأي تجربة إسلامية طفوليا ساذجا، نسي أصحابه أن العالم تحكمه شبكة مصالح تعتبر أن منطقتنا حيوية، وأنه لن يسمح أمريكيا بنجاح مشروع إسلامي حقيقي بسهولة، وأن الأفضل ليس مساومة الغرب، ولا تحديه دون أدوات كافية، بل اللعب بين هذين القطبين حتى انتزاع ما يمكن انتزاعه
سري سمّور
3) تجربة السودان:ثورة الإنقاذ الوطني سنة 1989م أطاحت بحكومة الصادق المهدي وتولى مجلس عسكري الحكم، وبعد فترة وجيزة رأينا حالة من الشراكة والتعاون بين الرئيس الفريق عمر البشير والمفكر الإسلامي وزعيم أكبر الحركات الإسلامية السودانية د.حسن الترابي مما أعاد الأمل وبثّ الروح من جديد في استئناف المشروع الإسلامي الذي تعثر، وسادت حالة تأييد وحماسة للوضع السوداني الجديد عند عموم الإسلاميين، وأتذكر كيف كان أئمة مساجد مقربين من الحركة الإسلامية يتحدثون عن السودان، وطعموا حديثهم بما يشبه الخوارق والمعجزات التي تتمتع بها قيادته، القائمة على التقوى والورع، والإدارة السليمة، ومحاربة الفساد وتطبيق الشريعة...إلخ، ومما أنعش الأمل كون السودان سلة غذاء كبيرة، وهو بلد يتمتع بثروات طبيعية هائلة، وهو أكبر بلد عربي من حيث المساحة(2.5 مليون كم2). ولكن تجربة السودان لم تسلم من الخلل؛ فالتعايش بين البشير والترابي انتهى إلى درجة اعتقال الترابي، والأخير أخذ ينسق مع جون جارانج، كما أن العسكر لم يتصرفوا على طريقة المشير عبد الرحمن سوار الذهب، بحيث يتركون السلطة، ولو تدريجيا، ويسلمونها لحكومة مدنية منتخبة، وأخذت حكومة الإنقاذ تحاول استرضاء الغرب بطرق مختلفة، تارة بإخراج أسامة بن لادن من البلاد، وهو الذي نفذ العديد من المشروعات الحيوية في السودان، خاصة في مجال الشوارع الكبيرة، وتارة أخرى بتسليم كارلوس إلى فرنسا، بل حتى الضغط على حماس للقبول ببرنامج منظمة التحرير، مثلما ينوّه م.إبراهيم غوشة في مذكراته، ولكن الغرب وخاصة أمريكا، وعاملها المخلوع مبارك، كما هي العادة لم يكتفوا، وبقي الابتزاز يمارس ضد الخرطوم، وكلما كان هناك تنازل أتبعوه بآخر، وأخيرا تم فصل جنوب السودان، وهي عملية كان مهندسها عمر سليمان وجاءت إثر تراكمات سياسية وعسكرية واقتصادية عدة.
ومع أن د.حسن الترابي يعتبر أن حدود وخريطة السودان قبل مئتي سنة لم تكن كما كانت عشية التقسيم، ولكن هناك مسئولية أخلاقية ووطنية تتمثل في الحفاظ على الدولة مثلما تسلمتها الإنقاذ، والأدهى والأمر أن مخططات التقسيم لم تتوقف، وهناك أزمة دارفور، وكردفان وغيرها من الأزمات التي توشك أن تحيل السودان إلى مجموعة دول وكيانات على أسس مناطقية أو عرقية...ولم تتحسن معدلات التنمية في السودان، حتى بعد انتهاء أزمة الجنوب، ولم تحدث في البلد نهضة حقيقية...فأضيفت تجربة السودان عاملا جديدا من عوامل الإحباط من قيام دولة إسلامية ناجحة.
ثانيا:التسرع وعدم إحسان قراءة الواقع الجيوسياسي:-
ينقص العرب عموما، والإسلاميون خصوصا، مراكز دراسات وأبحاث تعنى بشئون الغرب، وسياساته، ومع أن هناك الكثير من المراكز التي تزعم أنها تختص في هذا المجال، إلا أن الحقيقة أنها عبارة عن مراكز ترجمة ونقل، وما يصدر عنها هو صدى لما يصدر عن مراكز أمريكية أو أوروبية، والقائمين عليها غالبا تحكمهم خلفية ذهنية تؤثر على قراءة واقعية للواقع الجيوسياسي بعيدا عن التهويل أو التهوين، وأحيانا يهمهم التمويل أكثر من منهجية البحث...ويضاف لهذا الفهم المغلوط للتوكل، والإسراف في التفسير الغيبي للواقع، عند عموم الإسلاميين، مع أن الإيمان بالسببية لا يتناقض مع الإيمان بالغيب.
فما معنى أن يكون الحكم على إيران بثنائية الخير المطلق، أو الشر المستطير، بغض النظر عن المنطلق لأي من الحكمين؟ كان يجب أن تكون النظرة لإيران، أنها في ظل الثورة خير من نظام الشاه، ولكنها ليست الأنموذج المرجو، ويفضل عدم العداء معها، ومحاولة التلاقي، والحذر من مطامعها، دون اعتبارها، أشد خطرا من الكيان الصهيوني، وهي تجربة غير قابلة للاستنساخ في مكان آخر نظرا لعدة عوامل. والأهم هو التفكير بما يكيده الغرب وخاصة أمريكا؛ فأمريكا ما كان لها أن تسمح بامتداد التجربة، وتعلمت من درس الشاه، ولهذا نلحظ أن بين سقوط الشاه وسقوط أول دكتاتور عربي 32 سنة، وهي فترة ولد وشب فيها جيل جديد، فكان على المتفائلين ألا يفرطوا بتفاؤلهم حتى لا يصيبهم الإحباط وهم يرون أن إيران دولة فارسية شيعية، أكثر منها دولة إسلامية جامعة.
أما أفغانستان، فيعلم من جاهدوا فيها، وبشرونا أنها نواة المشروع الإسلامي، أن نسبة الأمية فيها أكثر من 85%، وتحكمها عادات وتقاليد أكثر من الدين، والقبلية والعرقية من أسس ثقافة تلك البلد الشعبية، فكيف أقيم مشروعا إسلاميا انطلاقا من بلد هذه أوضاعه الداخلية؟ ناهيك عن موقع الدولة الأفغانية، حيث أنه لا يوجد لها أي منفذ على أي بحر من بحار الأرض، وتحيطها دول مختلفة لها حساباتها وارتباطاتها ومطامعها، وربما كان التعويل على بأس الشعب الأفغاني المشهود له في مقارعة الغزاة، ولكن المشروع الإسلامي ليس مشروعا عسكريا بحتا، وحتى هذه فإننا رأينا أمريكا تتغلغل داخل القبائل بالأوراق الخضراء لتدفع القبائل إلى تسليم من تشتبه بهم أمريكا لا سيما من العرب، وصنعت أمريكا لنفسها عملاء، وأيضا هناك من ليس لها عميلا ولكنه ليس مع طالبان مثلا، وقد رأينا أن الأفغان حينما يرحل الغازي عنهم ينهشون بعضهم.
والسودان بلد أفريقي جار لأكبر عملاء إسرائيل وأمريكا وهو حسني مبارك، ناهيك عن دول فيها قبائل أفريقية مخترقة صهيونيا، ومعلوم الدعم الصهيوني لجارانج، وأيضا من الطبيعي أن من يتسلم السلطة يهمه تثبيت أركان حكمه والحفاظ عليه وهو يعلم يقينا حجم التحديات الخارجية، وهذا يقينا سيكون على حساب أحلام وتطلعات من هم خارج حدود دولته، وأيضا سيلجأ إلى التخلي عن كثير من شعارات آمن بها، أو على الأقل تأجيلها تحت عنوان التكتيك!
على كل لو أن الواقع جرت قراءته بمنطق أن القوى العظمى وخاصة أمريكا لديها أدوات ضغط كثيرة، ومنها قدرتها على فرض عقوبات مؤلمة(إيران والسودان تخضعان لعقوبات بدعوى دعم الإرهاب) وقدرتها على تجنيد أناس في الداخل، ودول مجاورة تربك المشروع الإسلامي، ولا ينفع هنا اللجوء إلى الطمأنة باستحضار نصوص قرآنية، فحتى رسولنا الكريم وصحبه قد حفروا خندقا استعدادا للغزو.
لقد كان التفكير بأي تجربة إسلامية طفوليا ساذجا، نسي أصحابه أن العالم تحكمه شبكة مصالح تعتبر أن منطقتنا حيوية، وأنه لن يسمح أمريكيا بنجاح مشروع إسلامي حقيقي بسهولة، وأن الأفضل ليس مساومة الغرب، ولا تحديه دون أدوات كافية، بل اللعب بين هذين القطبين حتى انتزاع ما يمكن انتزاعه
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية