أما آن للطغاة أن يفهموا؟!
يبدو أن سلوك الطغاة واحد في جميع العصور والأزمنة،لا يؤثر فيه التقدم الإنساني.. ولا يصقله أويهذبه قراءة التاريخ والاطلاع على مصائر أشباههم..فمنذ عاد وإرم وثمود ..والطاغية الأكبر فرعون ..ومدعي الألوهية النمروذ.. والمرابي الجشع قارون ..وغيرهم ممن طوتهم الأيام وسجلهم التاريخ في أسود صفحاته ..كانوا كما يقول المثل العامي "قارئين على شيخ واحد"..وهنا يجدر التحوير قليلاً بأنهم "قارئين على شيطان واحد"..بل كأنما جبلت طباعم من مادة واحدة "ماركة مسجلة"...أساسها اللؤم والعناد وقسوة القلب والغلظة وموت الضمير..فهم يستبدون ويظلمون ويقهرون ويقتلون ويأكلون أموال الناس بالباطل وينتهكون الأعراض ويستحلون دماء الأبرياء ...ثم لا يريدون للمظلوم والمقهور أن يصرخ من الألم..أو أن يطالب بوقف الظلم والقهر..وهذا منطق غريب..وغير مفهوم ..ويحتاج إلى قراءة في نفسية هؤلاء لمعرفة الأسباب الحقيقية لهذا السلوك العجيب..فهم يريدون من الضحية أن تقابل اللطمة بالابتسامة..والقتل بالرضا والتسليم..وهضم الحقوق وسرقة الأموال بالتصفيق والتهليل..وهذا نابع من خيالات وأحلام لدى هؤلاء الطغاة أنهم أصبحوا آلهة لا خيار للشعوب بمعصيتهم أو الخروج عليهم أو حتى انتقاد جرائمهم...لأنهم –حسب اعتقاد الطغاة-لا يستطيعون العيش بدونهم..فالأرزاق والأموال والثروات كلها في قبضتهم وفي خزائنهم ..
وهذا الفهم ليس جديداً فقد كان لدى أسلافهم من العتاة والمفسدين ..ففرعون القديم عبر عن هذا المرض النفسي عندما خاطب قومه "أنا ربكم الأعلى"..وفي موقف آخر "يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري"..فكان إدعاء الألوهية الكاملة بكل مظاهرها ...أما النمروذ فقد ظهرت أعراض مرضه في المناظرة مع نبي الله إبراهيم عليه السلام.."قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت ..قال أنا أحيي وأميت"..فحاول التمسك بأهم مظاهر الألوهية المتمثل بالإحياء والإماتة..أما المرابي الشرس اللئيم قارون الذي كان مهووساً بغناه وأمواله وثرواته فقال لقومه " إنما أوتيته على علم عندي "....فاختص بصفة الرزق وأنه صاحب الفضل بما هو فيه من رفاهية وسطوة..وهذه نماذج بارزة تدلل على وجود قواسم مشتركة بين الطغاة الأوائل والطغاة الجدد..فلإن كان الأسلاف القدامى لهؤلاء يعبرون عن أمراضهم النفسية بسذاجة ووضوح لادعاء الألوهية صراحة..أو الادعاء بالقدرة على الإحياء والإماتة أو جلب الرزق وغيرها.. فإن الأخلاف الجدد قد قاموا بذات الدور ولكن بتحويرات بسيطة غير جوهرية ..ويمكن لمن كان له قسط من علم ودراية أن يميز حقيقة الأمر ويفهم بالضبط النفسية المريضة لهؤلاء.
وهاهم الطغاة الجدد يعيدون تاريخ أسلافهم بشكل فجّ وصارخ..استخفوا بأقوامهم وقتلوهم وقصفوهم بالطائرات والمدافع والدبابات... فهذا طاغية ليبيا لم يكتف بالقتل والقصف ولكنه يجبر فئة من شعبه على الهتاف له بشعار يظهر مدى وعمق مرضه النفسي..ولم يقفز إلى ذهني حينما سمعت هتافهم " الله..معمر ..ليبيا وبس" سوى صورة فرعون وهو يدعي أنه الإله الأوحد..وفي ذات الوقت شعرت بالارتياح لأن مصير الرجل قد تحدد بشكل قاطع..فقد أهلك الله فرعون الأول بمجرد ان تحدى الله تعالى.."فأخذه الله نكال الآخرة والأولى"...هذه هي السنّة..وهذا هو القانون..وهذا هو جوهر العدل...وعدل الله تعالى يقتضي أن يعاقب كل من يحاكي ظلم فرعون..وإفساد فرعون...وطغيان فرعون.. بمثل ما عاقب فرعون ..لذلك فإن مصير طاغية ليبيا بات واضحاً ..ولكنه عدل الله الذي قضى بأن يكون الخزي والفضيحة زيادة.
صحيح أن سلوك الطغاة متشابه..وصحيح أنهم مرضى نفسيون..وصحيح أنهم يقهرون شعوبهم ويظلمونهم..ولكن هنالك فرقا واضحا وكبيرا يميز حقبة الطغاة الجدد عن حقبة الطغاة الأولى ..فالشعوب التي "تفرعن"عليهم فرعون...و"تنمرد " عليهم النمروذ.. كانت شعوباً عاجزة استمرأت الذل..واستكانت للقهر..وهذا ما قرره القرآن الكريم في توضيح سبب طغيان الفرعون.."فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين"..فالشعب الفاسق الفاسد المستكين قد أعطى لهؤلاء قوتهم وسطوتهم..ولم يكن عندهم القابلية للثورة والانتفاض وتغيير الواقع الفاسد..فكانت العناية الإلهية تتدخل للتخلص من الظالم والطاغية..لأن الله تعالى لا يقبل الظلم ولا يطيل عمره..فأغرق فرعون ..وابتلي النمروذ بحالة لا يرتاح منها سوى أن يضرب بالحذاء...وخسف بقارون وكنوزه وثرواته..هذا في القديم..لأن الشعوب كانت عاجزة ..كان رب الناس يتولى أمر الطاغية بحكمه وقدرته وعدله دون تدخل هذه الشعوب ..أما اليوم فإن الشعوب لم تعد مستكينة وخانعة..وأصبح لديها الإمكانات والمهارات والقدرات ..وباتت تعرف حقها في تفويض من يحكمها او سحب هذا التفويض..فأصبحت مؤهلة للقيام بدورها في قلع الظلم والطغيان بيديها ..وانتزاع حقوقها رغم أنف الظالم..فكانت بذلك محققة لعدل الله في هؤلاء بأن تساء وجوههم وينقلبوا صاغرين مفضوحين..
وعلى الطغاة الجدد ان يفهموا هذه الحقيقة ..حقيقة ان الشعوب لم يعد ممكناً أن تضلل أو يستخف بها كما فعل أسلافهم من الطغاة الأول..ولم يعد ينطلي عليها الشعارات الفارغة من الثورية والحرية المزعومة التي كانوا يلهونهم بها..فالشعوب اليوم ستحاسب كل واحد منهم بما اقترف وأجرم..وسيكون الحساب عسيراً ما لم يصح هؤلاء من غفوتهم وأمراضهم النفسية وغرورهم واستكبارهم على خلق الله...
لقد آن الأوان أن يفهم الطغاة الجدد شعوبهم ..وأن يشعروا بآلامهم وآمالهم وحاجاتهم..وأن يتحسسوا مشاكلهم وأحزانهم ..لأنهم إن لم يفعلوا ذلك سيجدون انفسهم خارج التاريخ..وسيكون مآلهم صفحاته السوداء..
"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد"....صدق الله العظيم
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية