أيها الشهيد، يا دكتور عبد العزيز الرنتيسي، هل تسمعني؟
د.فايز أبو شمالة
من أنت يا عبد العزيز؟!، كيف اشتعلتَ، وأضأتَ السماء والأرض وأنتَ من حمأةٍ وطين؟!، ومن أي ثدي للمجد رضعتَ؟، ومن أي نبع مقدس عذب النطق والتفكير شربتَ؟!، وبأي كف رقيقة تلمستَ الحقيقة؟!، وبأي عشق للإنسان الصادق الطاهر النقي درجْتَ، ومشيتَ، وركضتَ، وقفزتَ في الفضاء دون تعثرٍ، واندفعتَ تحمحم للمواجهة، حتى ارتفعتَ إلى حدود الشهادة، فحلَّقتَ، وسموتَ، واتسعتَ، ثم انتشرتَ أفقاً ومدى؟!
لقد نبتَ العشب الأخضر تحتَ وقع خطاك يا عبد العزيز، وأبرقتْ السماء مبشرة بالمطر، وها نحن نستعد للاغتسال بشمس الحرية تحتَ قباب تضحياتك، نتطهر بسحب وفائك، ونتوضأ لصلاة الشكر بماء الكرامة والكبرياء.
وأنتَ ما كنتَ نبيّاً يا عبد العزيز، ولا كان يوحى إليك، عندما قلت لقادة شعبك ذاتَ صباحٍ في لقاء مع إذاعة لندن سنة 2002م: "أعطوني خمس سنوات فقط؛ لأحرر لكم الأراضي الفلسطينية المحتلة"، لم تكتمل السنوات الخمس التي طلبتها يا عبد العزيز، لقد مضتْ أربع سنوات فقط على الانتفاضة، ليقرر شارون الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، لقد نجحت بتفوق يا رجلُ، وأوفيت بوعدك وأنت شهيدٌ، وعجز شانئك شارون الذي طلب من بني قومه بعد انتخابات مارس 2001م مائة يومٍ ليحقق لهم الأمن والاستقرار، وتصفية الانتفاضة، ولكن شارون (أبا عمري) خسئ فأله، ولم يوفِ بوعده، وأنت يا أبا محمد يا عبد العزيز أوفيت، وشفيتَ صدر المؤمنين، فمن منكما الحي يا ترى؟، ومن منكما الميت؟
ولكن، قل لي _يا أيها الشهيدُ_: كيف قرأتَ المستقبل، واخترقتَ الزمن (رحمك الله)؟!، على ماذا اعتمدتَ في تقديرك وأنت بشرٌ مثلنا، لك طاقة التفكير المحدودة بحجم المعرفة المتداولة بين الناس؟!، أم هل سَمحتْ لك سنواتُ السجن تحتَ حراب الأعداء، وانصياع الأصدقاء بالإبحار في التجربة الفلسطينية الحديثة التي انطلقت سنة 1965م، فدرستَ مقومات بقائها، وثغراتِ ضعفها، واستطعتَ أن تنسج الثوب الفكري الواقي من رصاص التآمر والضعف؟، أم هو الإيمان الراسخ بعدالة القضية التي تمثلها أعطاك سره، وكشف عنك الحجاب، فعرفت الجواب؟، أم هو تقديرك الصحيح لطاقة شعبنا، ومكتنز قدراته التي أسهمتَ أنتَ في تفجيرها، فكانتْ عاملاً حاسماً في تحديد زمن الانتصار؟، أم هو اكتشافك وهم وزيف أعدائك، وضعف إيمانهم، وعدم تحملهم تتالي ضرباتك، وباطل فكرتهم في مواجهة الإرادة الصلدة لشعبك، وتشتت رأيهم مع ما يبدو عليهم من تماسك؟
فكيف لو لم يُكمم فمُك، وتُقيد قدمُك، ويُحصى عليك نفسُك؟!، كيف لو أُطلقتْ يدُك دون محاولات الكسر والحشر وتجسيد الإعاقة، ومحاولات الالتفاف والاستخفاف والاحتراز من العراقة؟!، لقد أدرك شارون أبعاد خطرك، وبُعدَ نظرك، فاجتهد شخصيّاً على التحديق في صورتك، وقرر تصفيتك، ولكنك سبقته، وقررت تصفية جيوب الخوف، والوهم، والفزع، والتردد والوجل، والتشكك، والمستحيل من بين صفوف الشعب الذي وثق بك، وأحبك، والتف من حولك، وافترش مبادئك، وتلحف بأهدافك، يتتبع خطاك، ويتنسم عبير مشوارك.
اليوم بعد عام على استشهادك تدهمني الذاكرة، فينتشلني الواقع من حالة الذهول، وأنا أرى، وأسمع، وأتلمس طيفك في تصريحات شارون عن الانسحاب مهزوماً من غزة، وفي حضورك _يا عبد العزيز_ في مؤتمر الحوار في القاهرة، وفي حضور صورتك البائن حتى يومنا هذا في شوارع المنصورة، والزقازيق، والإسكندرية، وكل المدن المصرية، والعربية والإسلامية، شاهداً ورمزاً، وأنت تعانق رأس الشيخ أحمد ياسين، إن تلك الصورة المعلقة على جدران القلوب لتشهد أن أريج أنفاسكم سيظل يعبق بالشرف في كل بلاد المسلمين، وأن عدوى مواقفكم الرجولية قد أصابت الشرق، وأن صدى إرادتكم يدوي في الأرض كلها، فتهتز له الآفاق، هنيئاً لك يا عبد العزيز، ما سبقتنا إليه من رضا ووفاق.
نشرت هذا المقال سنة 2005م، قبل عشر سنوات بالضبط.
د.فايز أبو شمالة
من أنت يا عبد العزيز؟!، كيف اشتعلتَ، وأضأتَ السماء والأرض وأنتَ من حمأةٍ وطين؟!، ومن أي ثدي للمجد رضعتَ؟، ومن أي نبع مقدس عذب النطق والتفكير شربتَ؟!، وبأي كف رقيقة تلمستَ الحقيقة؟!، وبأي عشق للإنسان الصادق الطاهر النقي درجْتَ، ومشيتَ، وركضتَ، وقفزتَ في الفضاء دون تعثرٍ، واندفعتَ تحمحم للمواجهة، حتى ارتفعتَ إلى حدود الشهادة، فحلَّقتَ، وسموتَ، واتسعتَ، ثم انتشرتَ أفقاً ومدى؟!
لقد نبتَ العشب الأخضر تحتَ وقع خطاك يا عبد العزيز، وأبرقتْ السماء مبشرة بالمطر، وها نحن نستعد للاغتسال بشمس الحرية تحتَ قباب تضحياتك، نتطهر بسحب وفائك، ونتوضأ لصلاة الشكر بماء الكرامة والكبرياء.
وأنتَ ما كنتَ نبيّاً يا عبد العزيز، ولا كان يوحى إليك، عندما قلت لقادة شعبك ذاتَ صباحٍ في لقاء مع إذاعة لندن سنة 2002م: "أعطوني خمس سنوات فقط؛ لأحرر لكم الأراضي الفلسطينية المحتلة"، لم تكتمل السنوات الخمس التي طلبتها يا عبد العزيز، لقد مضتْ أربع سنوات فقط على الانتفاضة، ليقرر شارون الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، لقد نجحت بتفوق يا رجلُ، وأوفيت بوعدك وأنت شهيدٌ، وعجز شانئك شارون الذي طلب من بني قومه بعد انتخابات مارس 2001م مائة يومٍ ليحقق لهم الأمن والاستقرار، وتصفية الانتفاضة، ولكن شارون (أبا عمري) خسئ فأله، ولم يوفِ بوعده، وأنت يا أبا محمد يا عبد العزيز أوفيت، وشفيتَ صدر المؤمنين، فمن منكما الحي يا ترى؟، ومن منكما الميت؟
ولكن، قل لي _يا أيها الشهيدُ_: كيف قرأتَ المستقبل، واخترقتَ الزمن (رحمك الله)؟!، على ماذا اعتمدتَ في تقديرك وأنت بشرٌ مثلنا، لك طاقة التفكير المحدودة بحجم المعرفة المتداولة بين الناس؟!، أم هل سَمحتْ لك سنواتُ السجن تحتَ حراب الأعداء، وانصياع الأصدقاء بالإبحار في التجربة الفلسطينية الحديثة التي انطلقت سنة 1965م، فدرستَ مقومات بقائها، وثغراتِ ضعفها، واستطعتَ أن تنسج الثوب الفكري الواقي من رصاص التآمر والضعف؟، أم هو الإيمان الراسخ بعدالة القضية التي تمثلها أعطاك سره، وكشف عنك الحجاب، فعرفت الجواب؟، أم هو تقديرك الصحيح لطاقة شعبنا، ومكتنز قدراته التي أسهمتَ أنتَ في تفجيرها، فكانتْ عاملاً حاسماً في تحديد زمن الانتصار؟، أم هو اكتشافك وهم وزيف أعدائك، وضعف إيمانهم، وعدم تحملهم تتالي ضرباتك، وباطل فكرتهم في مواجهة الإرادة الصلدة لشعبك، وتشتت رأيهم مع ما يبدو عليهم من تماسك؟
فكيف لو لم يُكمم فمُك، وتُقيد قدمُك، ويُحصى عليك نفسُك؟!، كيف لو أُطلقتْ يدُك دون محاولات الكسر والحشر وتجسيد الإعاقة، ومحاولات الالتفاف والاستخفاف والاحتراز من العراقة؟!، لقد أدرك شارون أبعاد خطرك، وبُعدَ نظرك، فاجتهد شخصيّاً على التحديق في صورتك، وقرر تصفيتك، ولكنك سبقته، وقررت تصفية جيوب الخوف، والوهم، والفزع، والتردد والوجل، والتشكك، والمستحيل من بين صفوف الشعب الذي وثق بك، وأحبك، والتف من حولك، وافترش مبادئك، وتلحف بأهدافك، يتتبع خطاك، ويتنسم عبير مشوارك.
اليوم بعد عام على استشهادك تدهمني الذاكرة، فينتشلني الواقع من حالة الذهول، وأنا أرى، وأسمع، وأتلمس طيفك في تصريحات شارون عن الانسحاب مهزوماً من غزة، وفي حضورك _يا عبد العزيز_ في مؤتمر الحوار في القاهرة، وفي حضور صورتك البائن حتى يومنا هذا في شوارع المنصورة، والزقازيق، والإسكندرية، وكل المدن المصرية، والعربية والإسلامية، شاهداً ورمزاً، وأنت تعانق رأس الشيخ أحمد ياسين، إن تلك الصورة المعلقة على جدران القلوب لتشهد أن أريج أنفاسكم سيظل يعبق بالشرف في كل بلاد المسلمين، وأن عدوى مواقفكم الرجولية قد أصابت الشرق، وأن صدى إرادتكم يدوي في الأرض كلها، فتهتز له الآفاق، هنيئاً لك يا عبد العزيز، ما سبقتنا إليه من رضا ووفاق.
نشرت هذا المقال سنة 2005م، قبل عشر سنوات بالضبط.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية