إسرائيل مرتاحة.. ولكن
بلال الحسن
لا بأس أن نكرر ونؤكد، أن "إسرائيل" مرتاحة. فلا ضغوط تتعرض لها، ولا تهديدات على الأرض لأمنها، وحتى المفاوضات معها لم تعد موجودة.
"إسرائيل" هي احتلال الأرض (1948)، واغتصاب الأرض (1967).. وكان هناك نضال فلسطيني مسلح، دفعها ودفع العالم للضغط عليها من أجل التفاوض حول الانسحاب من الأرض التي احتلتها عام 1967. أما الآن، فقد تلاشى الكفاح المسلح، وتلاشت حتى الضغوط الدبلوماسية من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات. فما هي الأسباب وراء ذلك، وهل يمكن لهذا الوضع أن يستمر؟
بالنسبة إلى "إسرائيل"، فهذا أفضل وضع يمكن أن تمارس فيه سياستها واحتلالها. ولذلك فإن السؤال مطروح فلسطينياً، ولا بد من جواب فلسطيني عليه، وهو حتى الآن جواب ضائع.
لقد تم إيقاف الكفاح المسلح من أجل الدبلوماسية، وها هي الدبلوماسية تتوقف الآن ولكن من أجل لا شيء. هنا تلعب الولايات المتحدة الأميركية دوراً أساسياً في تعطيل حركة الأمر كله. فهي تستنكر الكفاح الفلسطيني المسلح، وهي ترفض أن يصل الفلسطينيون إلى مجلس الأمن لطرح الموضوع على المجتمع الدولي، والفلسطينيون من ناحيتهم مصرون على البقاء ضمن دائرة العمل الدبلوماسي ولا شيء غير ذلك.
عادة.. يحاول الدبلوماسيون سياسة ما، وحين تفشل تلك السياسة يجلسون لاستخلاص الدروس، أما في الوضع الفلسطيني، فإن السياسة تفشل، ولا يقدم أحد على استخلاص الدروس. وأحياناً يتم وضع نظريات لتبرير هذه الحالة، على غرار القول: نريد التفاوض ولا نريد العودة للسلاح. حسناً.. يمكن قبول هذه النظرية حين يكون التفاوض قائماً ونشطاً، ولكن ما هو مبرر الاستمرار في القول، حين يخفت حديث التفاوض، وحين يضعف النشاط السياسي، بل وحين يصل إلى درجة التلاشي؟
السؤال مطروح طبعاً على القيادة الفلسطينية، وهو مطروح بعد تجربة تفاوضية طويلة، ولكن هل يمكن أن يبقى مطروحاً إلى الأبد؟
هناك مؤسسة تقود العمل الفلسطيني الآن اسمها «السلطة الفلسطينية»، وهي التي وصلت إلى الوضع الذي نعيشه. ولكن هناك مؤسسة أخرى أكبر وأشمل، هي منظمة التحرير الفلسطينية، وهي نظرياً قيادة السلطة الفلسطينية، ولكن ما نجده على الأرض هو العكس، تكبر السلطة الفلسطينية، وتصغر منظمة التحرير الفلسطينية، ومن دون الحصول على أي نتائج.
في كل قضية من هذا النوع، لا بد من العودة إلى الأصول. ومركز الأصول هنا هو منظمة التحرير الفلسطينية، والتي يجب تحريكها حتى تعود إلى حجمها الطبيعي الأكبر من السلطة الفلسطينية، لكي تمارس دورها القيادي والموجه.
بكلمات أخرى، لا بد من إحياء مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وأولها المجلس الوطني الفلسطيني، لكي يصبح أساسياً في بحث الأوضاع وفي اتخاذ القرارات، فإذا كان التفاوض قد تعطل، فلا بد من دعوة المجلس الوطني الفلسطيني للاجتماع وبحث الأوضاع وتقرير خطة العمل المستقبلي. فإذا ضعفت السلطة الفلسطينية أو فشلت، فلا يجوز مد هذا الضعف إلى منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، بل يجب العمل في اتجاه معاكس، يؤكد على إحياء منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها.
إن فشل التفاوض الفلسطيني مع "إسرائيل"، يطرح أسئلة عديدة. أول الأسئلة: ماذا بعد فشل التفاوض؟ ومن الأسئلة أيضاً: ما هي الخطوات البديلة؟ ومن الأسئلة أيضاً وأيضاً: ما هو دور النضال المسلح ضد الاحتلال، داخل هذه الصورة الكئيبة؟
أحيانا تجد القيادات نفسها دون أجوبة. ولكن أبأس ما تواجهه القيادات أن لا تكون لديها أسئلة. غياب الأسئلة يعني الجمود والاستكانة للفشل، وهذا ما لا يجوز أبداً في الحالة الفلسطينية.
لقد نجح الشعب الفلسطيني رغم الشتات، أن يبني مؤسسة جامعة، هي منظمة التحرير الفلسطينية، ونجح في أن يكون لهذه المنظمة مجلسها الوطني الذي أصبح عنواناً على وحدة الشعب الفلسطيني السياسية، وحين نواجه فشلاً سياسياً ما، فإن أبسط الإجراءات هي دعوة المؤسسة الأم إلى الاجتماع، وإلى التشاور، وإلى اتخاذ القرارات الجديدة المناسبة.
وبسبب ما وصلت إليه المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية من فشل واضح وكبير، فإن الحاجة ملحة إلى بحث الأمر في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ومن أجل اتخاذ قرار فلسطيني يحترمه الجميع، ويلتزم به الجميع، ويكون تعبيراً عن أفق جديد لعمل جديد.
نقول «عمل جديد»، لأن كل صيغ العمل القديمة لم تنجح مع "إسرائيل"، ولا بد من صيغ جديدة تحرك الماء الراكد حتى لا يصبح آسناً. وفي حالة الاحتلال لشعب ما، فإن مقاومة الاحتلال هي الورقة الوحيدة التي تحرك الماء الآسن. وهذه مسؤولية كبيرة يتحمل فيها العرب دوراً كبيراً
ولكن.. وكما في كل تجربة مشابهة، فإن أصحاب القضية المباشرين هم المحرك الأول، وحين يتحرك أصحاب القضية تتحرك كل العوامل الأخرى المساعدة: تتحرك الضغوط، ويتحرك الحلفاء، وتنشط الدبلوماسية. وقد لجأ أصحاب القضية إلى العمل السياسي وجربوه، وها هو العمل السياسي يتمخض عن لا شيء. بل وعلى العكس، أخذ يتمخض عن رضا إسرائيلي، وعن وجهة نظر إسرائيلية تقول، إذا كان هذا هو الضغط الذي نواجهه، فإننا قادرون على التعايش مع هذا الضغط، ونكسب من خلال هذا التعايش استمرار الاحتلال.
ولهذا لا بد من تحرك فلسطيني جديد. لا بد من رؤية فلسطينية جديدة. رؤية تعود إلى أوليات الصراع، وتقول أبرز آليات الصراع إنه في ظل حالة الاحتلال لا بد من مقاومة الاحتلال، وفي ظل مقاومة الاحتلال فقط، يمكن البحث عن الحلول الأخرى. أما وضع مقاومة الاحتلال جانباً، فإنها حالة لا تؤدي إلا إلى استمرار الاحتلال والتعود عليه.
طبعاً.. تقف في وجه هذه المسألة، وجهة النظر التي تدعو إلى التفاوض، ولكن اللافت للنظر أن أصحاب نظرية التفاوض، أصبحوا من أشد المقاومين لهذا التفاوض. فالولايات المتحدة الأميركية مثلاً ترفض وتقاوم كل دعوة عربية أو فلسطينية لطرح الموضوع للنقاش سياسياً في مجلس الأمن. تريد إبعاد الضغط الدولي عن الاحتلال الإسرائيلي. وتريد تفاوضاً ثنائياً فقط بين "إسرائيل" والفلسطينيين ومن دون أي أفق دولي، حتى يكون هذا التفاوض انعكاساً لتوازن القوى على الأرض، فيكسب الإسرائيليون المحتلون ويخسر الفلسطينيون.
وها نحن نشهد القيادة الإسرائيلية تريد تفاوضاً حول الحدود، أي إنها ترفض التفاوض حول مبدأ الانسحاب، وتريد تفاوضاً حول حدود جديدة، لتكسب أرضاً جديدة. وبذلك يصبح التفاوض مدخلاً لتأجيج الصراع بدلاً من أن يكون مدخلاً لحله.
إنها مرحلة جديدة. تنذر بصراع جديد بدلاً من الحل. وفي وقت أصبحت فيه الصواريخ السلاح الجديد الفعال، الذي سيسيطر على أجواء المرحلة المقبلة، مع ما تعنيه الصواريخ من مواجهة لا يستطيع أحد أن يهرب من نتائجها التدميرية.
صحيفة الشرق الأوسط
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية