الجذور القبلية لرفض نتائج الانتخابات الديمقراطية... بقلم : د. عبد الستار قاسم

الجمعة 18 يناير 2013

الجذور القبلية لرفض نتائج الانتخابات الديمقراطية

د. عبد الستار قاسم
من الملاحظ أن بلدانا عربية ترفض نتائج الانتخابات الديمقراطية أو تتمرد عليها أو تعرقل مسيرة الفائزين في الانتخابات على الرغم من تغنّي مختلف الأطراف المتنافسة أو المتخاصمة بالديمقراطية وضرورة سيادتها وعلوّها على أساليب الحكم التقليدية. تفاءل العربي كثيرا بالثورات العربية واستبشر خيرا بالانتخابات بسبب خاصيتها في تداول السلطة وعاقبة من لا يعمل باتجاه السهر على هموم الجمهور، لكن التفاؤل يصطدم بمنازعات متعددة الأشكال في عدد من البلدان العربية الثائرة.

يبدو أن هناك مشكلة حقيقية في القبول بنتائج الانتخابات، وأن عوامل اجتماعية وسياسية أخرى تحول دون الالتزام بمعايير العمل الديموقراطي تؤدي إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار التي تشهدها دول مثل ليبيا ومصر وتونس. وفي الغالب تعود هذه العوامل إلى مقومات المجتمع العربي بخاصة ما يتعلق بعوامل الافتراق الاجتماعي السياسي.

مسلسل رفض نتائج الانتخابات

شاهدت في عدد من البلدان العربية محاولات القفز عن نتائج الانتخابات الديمقراطية في الأطر النقابية والاتحادية الطلابية في الجامعات، ورأيت كيف يتم التنادي إلى انتخابات كمظهر ديمقراطي حضاري، ومن ثم إدارة الظهر لنتائجها كمظهر يتناقض تماما مع كل الادعاءات بالديمقراطية. ساد شبه تقليد عربي بأن يقوم الخائبون في الانتخابات بتشكيل جسم مواز للجسم التمثيلي المنتخب ليمثل جمهورهم الخاص ولو على حساب حسن سير العمل النقابي، وساد تقليد آخر أيضا وهو أن يقوم الفائزون في الانتخابات بخدمة جمهورهم الخاص وبتجاهل شبه تام لمتطلبات جمهور "الآخرين". أي أن نتائج الانتخابات لا تُحترم لا من قبل الفائزين ولا الخائبين.

هذه ظاهرة طالما كانت بارزة في الجامعات العربية حيث يتكون مجلس طلبة رسمي من خلال الانتخابات، لكنه يتشكل مجلس طلبة مواز يمثل الفئات التي لم تفز، أو أجهزة المخابرات إذا كان المنتخبون غير موالين للنظام. ونتيجة لذلك، كانت تستمر الانقسامات والخلافات، وغالبا كان يفشل مجلس الطلبة في أداء مهامه بمهنية وبتحقيق مصالح الطلبة. لم تكن هذه النتيجة تختلف باختلاف الفائزين في الانتخابات، إذ كان الفشل نصيب أهل اليمين، وأهل الشمال.

على المستوى السياسي العام، هناك سجل عربي حافل في رفض نتائج الانتخابات، وفيما يلي عدد من الحالات:

1- تم رفض نتائج الانتخابات المحلية في الجزائر عام 1992، وتدخل الجيش للسيطرة على الأوضاع السياسية، وكانت النتيجة عشرات آلاف القتلى ودمار هائل في الممتلكات الخاصة والعامة.

2- رفضت حركة فتح نتائج الانتخابات في الأرض المحتلة/67، وكانت النتيجة مزيد من التمزق الفلسطيني، والاحتراب الذي أدى إلى قتل مئات الفلسطينيين، وتشكيل حكومتين لشعب يبحث عن تحرير وطنه.

3- هناك همهمة مصرية برفض نتائج الانتخابات من خلال أعمال يصفها قادتها بأنها احتجاجات على قرارات مصيرية بالنسبة لمصر. لكن المراقب يرى أن زخم الاحتجاجات وأسلوبها لا يتناسب مع تطور الوضع السياسي في مصر، ولم يتدرج بطريقة سلسة تفضي إلى التفاهم بهدوء بين الفائزين والخائبين في الانتخابات.

4- هناك أصوات في تونس تتحدث ضد نتائج الانتخابات، وتحاول قلب الطاولة على الفائزين وإجراء انتخابات جديدة قبل أن يحصل الفائزون على فرصتهم في الحكم.

على الرغم من أن التمرد السياسي على نتائج الانتخابات يبدو وكأنه تمرد على الفكرة الإسلامية لأن القوى الإسلامية هي الفائزة في الانتخابات، إلا أن الإسلاميين أيضا يتمردون على نتائج الانتخابات في ليبيا والتي لم يكسبوها.

المنبع التاريخي للديمقراطية

انبثق النظام الديمقراطي عن صراع طويل في أوروبا بين مختلف الطبقات والفئات والأطياف، ولم يكن وليد قرار سياسي وقعه ملك أو امبراطور، أو استنساخ لتجربة أمم غير أوروبية. خاض الأوروبيون صراعا امتد على مدى مئات السنين، واتسم بحروب داخلية دموية قاسية، وبتخريب للمتلكات وتدمير للمنشآت، وحرق للمباني والمزارع والمقرات، واستقروا بعد أن تعلموا الدروس القاسية على نظام يتخطى عوامل الافتراق ليجمعهم ولو بطريقة استاتيكية عددية فيعيشون معا في أمن وهدوء ونهضة يعم خيرها على الجميع.

لم يحصل في التاريخ أن ازدهرت أمة بفكر غيرها، أو أن سارت نحو نهضة بأرجل غير أرجلها. الأمم تستفيد من تجارب بعضها البعض، لكنها لا تستنتسخ هذه التجارب إذا شاءت الاندفاع بقوة إلى الأمام. لم ينجح التقليد في إحراز الإبداع، وابتعد عن النجاح من أغفل تجارب غيره. يبدو أننا نحن العرب نهيم بالتقليد، وعلى مدى سنين يعمل مثقفونا ومفكرونا على التغني بالديمقراطية والنظام الديمقراطي، فأحببنا استنساخه دون المرور بالتجارب التاريخية المريرة التي أنجبته. ربما يقول قائل إنه لا ضرورة للتجارب لأننا نتعلم من غيرنا، وهو يغفل بذلك ان التجارب التي مرّ بها الأوروبيون هي التي أقنعتهم بتخطي عوامل افتراقهم.

ما الذي يقنع العربي أن القبلية التعصبية أو الحزبية التعصبية لن تجلب عليه غير الويلات، وأن عليه أن يحترم أسس النظام الديمقراطي إذا شاء أن ينهض ويتقدم؟ للأسف الويلات نفسها هي أداة الإقناع الرئيسية. بالتأكيد هناك من لديه الاستعداد للاقتناع بدون ويلات، لكن هناك من المتعصبين ما يكفي لإشعال نيران الحروب والاقتتال، ومن الصعب استقرار الأمور بسهولة. المعنى أن المسيرة نحو الاستقرار الديمقراطي لا يمكن أن تتخطى التجارب الأوروبية القاسية، علما أن العرب قد لا يحتاجون إلى مئات السنين حتى يقتنعوا أن الآخر (أي المنافس الداخلي) له متطلبات ومصالح يجب أن تُحترم.

العصبية القبلية

يتسم المجتمع العربي بعوامل افتراق متعددة أثرت تاريخيا على تشكيل مجتمع متماسك وقوي، ويتجه نحو النهضة والبناء والتقدم في مختلف المجالات. تعتبر العصبية القبلية أهم عناصر هذا الافتراق والذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى صراعات دموية وخصومات مزمنة تحول دون التعاون والعمل الجماعي. ويعرف العربي كم جرّت العصبية القبلية على القبائل العربية من غزوات متبادلة وحروب وسفك دماء.

بالخلْق، وفق المعيار الإسلامي، خلق الله سبحانه وتعالى الناس شعوبا وقبائل لتتعارف، وفي هذا الترتيب ما يخدم الناس جميعا لأن في التعارف خيرا يؤدي إلى التعاون والاسترخاء وتحصيل الأمن. وقد رفض الرسول عليه الصلاة والسلام العصبية ووصفها بالمنتنة، وعمل على مؤاخاة مجتمع المؤمنين تقديرا منه أن هذا المجتمع لا ينهض بالعصبية وإنما بالعمل معا وفق أصول ومقتضيات الإيمان. لكن العصبية القبلية تعتدي على هذا الهدف الإلهي النبيل والسيرة النبوية السمحة لتحول الخلْق الاجتماعي إلى نقمة وضيق وشدة.

تتميز العصبية القبلية بعدد من الأمور الخطيرة على تناغم النسيج الاجتماعي وهي: الشعور بالعلو على الآخرين ما يولد تصرفات عنصرية مقيتة؛ الادعاء بمعرفة الحقيقة المطلقة، وأن لا حقيقة إلا تلك التي تحملها القبيلة، والقبيلة على حق وما عداها على باطل؛ تربية الفرد على التبعية، وأن لا كيان له ولا أمن ولا معين خارج القبيلة؛ وتربيته على الشلل الفكري، ولا ضرورة لعقله ما دام هناك عظيم يفكر بالنيابة عنه؛ ورفض الآخر على اعتبار أنه خارج الخيمة، والتعامل معه يجب أن يبقى ضمن دائرة الشك والمؤامرة. والمحصلة القبلية تقول "إما أنا أو لا أحد".

الإفراط في الأنا

بسبب تغذية العقلية القبلية لأفرادها بالاعتزاز المفرط بالذات، والافتخار المزيف والتعالي والتكبر، تتطور لدى الفرد الأنا المفرطة سواء كانت الأنا الفردية التي تستمد أنانيتها من الانتماء القبلي أو التي تذوب بالقبيلة، لتشكل عائقا كبيرا أمام تطوير مفاهيم المجتمع الأوسع والمصلحة العامة والانتماء للأمة والالتزام بتطلعاتها. صاحب الأنا المفرطة له مفاهيمه الخاصة التي يعتبرها المفاهيم العامة التي يجب أن يلتزم بها الجميع، ولا مانع لديه أن ينعزل أو ينفصل أو يحارب من أجل سيادة مفاهيمه. إنه لا يرى المصلحة العامة إلا من خلاله هو، وإذا تناقضت المصلحة العامة مع الخاصة، فالخاصة تبقى عنوانه.

المفرط في الأنا صاحب مكانة وهمية وليس استحقاقية، ويسعى دائما إلى إثبات وجوده وهيبته من خلال المديح الذاتي المتكرر، والافتخار القائم على انتصارات وهمية، وتأكيد الذات من خلال إنجازات لم تحصل. وهو لا يتوانى في الحط من الآخرين من أجل تأكيد ذاته ونفي الآخر. نفسيته نفسية إسقاطية وليس إنجازية، وبدل أن يثبت نفسه من خلال العمل والسهر، يرهق نفسه في ذم الآخرين وتحقيرهم والاستهزاء بمنجزاتهم، وفي هذا ما يضمن تدمير المجتمع.

القبيلة والحزب

انعكست العصبية القبلية على الأحزاب والتنظيمات على اتساع الوطن العربي بحيث بات سلوك المتحزب مشابها إلى حد كبير لسلوك القبلي. المتحزب المتعصب لا يدري بالضرورة عن مبادئ حزبه، ولا ضرورة لأن يدري لأن هناك في القمة من يُفترض أنه يدري أو يعلم أو يدرك، ولا ضرورة لأن يفكر لأن هناك من يفكر عنه ويقرر له ويسوقه. لكل حزب شيخ لا يختلف كثيرا عن شيخ القبيلة إلا ببعض المظاهر، وهو يسوق الناس كأغنام ضالة تنشد خلفه مقولات ممجوجة قد تؤدي إلى ذبحها، فتذهب ضحية ما تظن أنه الواجب والحق، وتقام على نفوسها المهرجانات والأهازيج.

قلة من قادة الحزب هم الذين يعرفون مبادئ الحزب وقيمه أو نظريته الاجتماعية والنضالية والاقتصادية. الغالبية الساحقة من أعضاء الحزب عبارة عن كمّ من الناس لا يعرفون عن ماذا يدافعون ولا إلى ماذا يهدفون. وفي حالتنا العربية، هناك أمثلة ساطعة على ذلك: هناك متعصبون من أهل السنة وأهل الشيعة، ولا يدري كل طرف ماذا يطرح الطرف الآخر إلا عن تلك الأمور التي يرغب القادة في ترويجها من أجل بث الكراهية والفتنة. هناك قوميون يدافعون عن التجزئة العربية، وشيوعيون عن الرأسمالية، ومتدينون عن الوثنية، وديمقراطيون عن الاستبداد، ووطنيون عن التبعية للأجنبي، ووحدويون عن الانفصال. قد لا تجدهم يفعلون ذلك بالقول، إنما بالفعل.

ومن الواضح على الساحة العربية أن الغالبية الساحقة ممن يتسلمون المناصب في الدولة يحولون المؤسسات التي يديرونها إلى مراكز لهم فيوظفون أقاربهم وأصدقاءهم وأبناء بلداتهم وأحزابهم بغض النظر عن كفاءاتهم. وبهذا يهدمون المؤسسة فتعجز عن القيام بدورها المنوط بها. وهكذا يفعلون بالدولة.

الديمقراطية ثقافة

الديمقراطية ثقافة وليست قرارا سياسيا. أهل الغرب يتقنونها لأنها ابنتهم ونتاج تطورهم التاريخي، أما نحن فلنا تجارب تارخية مختلفة. ربما نحسن صنعا لو عملنا على تطوير نظام سياسي خاص بنا نحن كعرب وكمسلمين يقيم العدل بين الناس وينهض بالأمة جمعاء في مختلف الميادين. لكن هل من الممكن تطوير نظام تاريخي بدون معاناة؟ الإجابة نعم إذا طغى العقل على القبيلة.

جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية