الخروج من المآزق الفلسطينية
د. عبد الستار قاسم
وأخيرا ظهر أمام أغلب الناس ما لم يرغبوا بظهوره على مدى سنوات طويلة، فأيقنوا أن من يعتمد على غيره لا يشبع إلا ذلا وانحطاطا، وأن كل الأوهام حول الاستقلال وإقامة دولة بجهود أمريكية غربية قد سقطت. ونرجو الله أن يكون المثقفون الأكاديميون قادة المنظمات غير الحكومية الذين صفقوا للاتفاقيات مع الصهاينة ووضعوا رجاءهم في الأمريكان قد عدلوا عما هم فيه وقرروا العودة إلى المواقع العلمية.
لقد طرحت حلولا لمآزقنا عبر الزمن، لكن الأوساط المعنية لم تكترث ظنا منها أن طريقها آمن ويؤدي إلى نهاية النفق. الآن وبعد أن اتسع إدراكنا جميعا لحجم المهزلة الأخلاقية والسياسية التي وضعنا أنفسنا فيها، أكرر طرحي للخروج مما نحن فيه، وهو طرح يتطلب تضحيات، لكنه يتم بهامة مرفوعة ونفس عزيزة.
من الناحية العملية نحن إما تحت الاحتلال أو تحت حصار يفرضه الاحتلال، ولذلك نحن لسنا بحاجة إلى رئاسة وزراء أو رئاسة سلطة، ولسنا بحاجة إلى كل تلك المسميات الكبيرة الخداعة، ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه. نحن بحاجة إلى حل للمحنة الداخلية التي نعيشها يجنبنا شر أمرين وهما: صراع الفصائل والاتفاقيات مع إسرائيل. الشعب الآن يدفع ثمن صراع الفصائل كما دفعه في السابق، وهو يدفع ثمن اتفاقيات لم تأت إليه إلا بالمزيد من الهموم. النقاط التالية قد تشكل مخرجا:
الوضع الإداري السياسي
أولا: تشكيل هيئة وطنية من الخبراء والمختصين والأكاديميين الفلسطينيين المستقلين لإدارة الحياة المدنية واليومية للشعب الفلسطيني. هذا مختلف عن طروحات صهيونية حول إقامة مجلس إداري لأنه فلسطيني المنشأ والهدف، وهو مؤقت، ولا مفر من إقامته لأننا تورطنا في الكثير من الأعمال المدنية واليومية التي لا بد من تغطيتها مدنيا.
أعرّف المستقل بأنه المعروف بانتمائه الوطني لكنه غير مرتبط بأي فصيل فلسطيني وأي دولة عربية أو غير عربية أو تنظيم عالمي، ولا يتقاضى أموالا من جهات خارجية.
ثانيا: مهمة المجلس إدارية فقط، وليست سياسية، وله صلاحية فرض الأمن المدني. أي أنه يشرف على قوة شرطة لها صلاحية الإشراف على الأمن الداخلي.
ثالثا: لا علاقة لهذا المجلس بالأمن الوطني، وتبقى مهمة الأمن الوطني بيد فصائل المقاومة التي تعمل سرا وبدون التدخل إطلاقا في مجريات الحياة المدنية واليومية الفلسطينية.
رابعا: على كل الفصائل الفلسطينية أن تدعم إدارة هذا المجلس إذا طلب الدعم، دون أن يكون لها حق الاعتراض. من شاء منها أن يقاتل فالعدو أمامنا، ومن لم يشأ فله النشاط الاجتماعي.
خامسا: يحضّر المجلس بعد استتباب الأوضاع المدنية الفلسطينية لعمل انتخابات إدارية.
سادسا: الجهاز الأمني الوحيد المسموح بوجوده هو جهاز الشرطة التابع مباشرة للمجلس الإداري. نحن لسنا بحاجة إلى أجهزة أمن أو قوة تنفيذية، ومن الممكن استيعاب أفرادها في مرافق أخرى.
سابعا: ينشط المجلس مع مختلف قوى الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارج فلسطين لإعادة ترتيب منظمة التحرير الفلسطينية بطريقة يتمثل فيها الجميع وفق ميثاق تجمع عليه مختلف القوى، والتي تتولى بعد ذلك الإشراف على شؤون الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج بما في ذلك الشأن السياسي.
كيف يتشكل المجلس
يتم تخويل فصائل غير مشاركة بالقتال الداخلي تشكيل هذا المجلس، واختصارا للجهد وتقليلا للصخب، أقترح أن يتولى فصيل إسلامي وآخر وطني غير فتح وحماس هذه المهمة بموافقة صريحة وعلنية من قبل مختلف الفصائل وعلى رأسها حماس وفتح.
الوضع الاقتصادي
السؤال الأول الذي يتم طرحه: من أين الأموال إذا سرنا في طريق لا يعجب الدول المانحة؟ إذا كنا سنبقى معتمدين على الدول المانحة في لقمة الخبز، فبالتأكيد نحن لا نبحث عن دولة حقيقية أو حل مشرّف للقضية الفلسطينية. وما أراه الآن من مطالب شعبية يكرس فكرة التسول والمزيد من التورط في غياهب التبعية الاقتصادية والمالية. من الممكن تخطي عقبة الأموال إذا اتبعنا الخطوات التالية:
أولا: لا مفر من تطوير عقلية الاعتماد على الذات، وترجمة ذلك سلوكيا.
ثانيا: الطلب من الاقتصاديين الفلسطينيين التفكير في بناء اقتصاد فلسطيني ما أمكن بطريقة تتناسب مع تطلعاتنا نحو التحرير.
ثالثا: التخلي عن الكثير من البضائع الإسرائيلية، والتوقف عن استيراد بضائع يمكن إنتاجها محليا وذلك لتأكيد فكرة الاعتماد على الذات ولتوفير فرص عمل حقيقية للناس.
رابعا: الطلب من الدول العربية التي تعطي أموالها للدول المانحة تحويلها إلى فلسطين مباشرة.
خامسا: من المهم أن نعود إلى أساليب إدخال الأموال القديمة، وليس عبر مؤسسات مالية تخضع بطريقة أو بأخرى للرقابة الإسرائيلية.
سادسا: يجب التركيز على الزراعة.
سابعا: لا مفر أمامنا إلا أن نقبل بمستوى استهلاكي أقل من المستوى القائم حاليا.
ثامنا: التركيز على التحول الثقافي وبطريقة تتناسب مع متطلبات التحرير.
تفاصيل هذه الأمور حاضرة لدي، والمهم أن تكون هناك موافقة مبدأية تشجع على التداول في مختلف التفاصيل.
من الناحية الأمنية
هناك قيادة إسرائيلية واحدة تخطط للعمل العسكري ضد الشعب الفلسطيني وتنسق المهام وتنفذها. أما الشعب الفلسطيني فله قيادات متعددة، وإن حصل تنسيق في العمل العسكري فغالبا يتم بين الشباب الميدانيين الذين لا يعرفون هدفا لهم سوى مقارعة الاحتلال نحو تحرير الوطن. هذه مسألة تعتبر نقطة قوة لصالح إسرائيل ونقطة خلل كبيرة في الترتيبات الداخلية الفلسطينية. يسير الجيش الإسرائيلي وفق استراتيجية عسكرية واضحة ويضع لها التكتيكات الميدانية المناسبة والقابلة للتطوير والتعديل، بينما يسير المقاومون الفلسطينيون وفق تقديرات قد تتباين وتتعدد، وقد تكون غير مبنية على أسس علمية ودراسات دقيقة.
أعتقد أن المقاومين الفلسطينيين يستحقون كل تقدير على ما يبذلونه من جهود في مواجهة العدو الصهيوني وعلى الرغم من قسوة ووحشية الهجمات الصهيونية المكثفة والمستمرة ضد كل ما هو فلسطيني. يوظف الجيش الإسرائيلي قدراته العسكرية الهائلة والمتطورة تقنيا لقتل الناس وتدمير البيوت وحرق الشجر والحجر، وبالرغم من ذلك لا يستطيع أن يمنع أعمال المقاومة التي توقع في صفوفه الخسائر. صحيح أن خسائر الصهاينة أقل بكثير من الخسائر التي تصيب الشعب الفلسطيني، لكنه من المعروف تاريخيا أن ضربات المقاومة المحدودة ذات فاعلية أكبر بكثير من فاعلية الجيوش النظامية. ومن المعروف أيضا أن خسائر قوى الاحتلال الباغية أقل بكثير من خسائر المقاومة.
لكن المشكلة، أو إحدى المشاكل، الهامة التي تعاني منها الساحة الفلسطينية تتمثل في عدم وجود غرفة عمليات مشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية. تعمل فصائل المقاومة مستقلة بدون تنسيق فيما بينها إلا من تنسيق الشباب المقاومين ميدانيا أحيانا فيما بينهم وتبعا لظروف الزمان والمكان. لا توجد هناك استراتيجية مقاومة فلسطينية واحدة، ولا قيادة عسكرية وأمنية موحدة، ولا حتى رؤية نظرية لما يجب أن تكون عليه الأمور فتجتمع حولها مختلف الفصائل التي ترى في المقاومة سبيلا لاسترداد الحقوق الفلسطينية.
لا يوجد فصيل فلسطيني واحد يستطيع وحده القيام بأعباء الدفاع عن الشعب الفلسطيني وطرد الاحتلال واسترداد الحقوق مهما بلغ من القوة وسعة الانتشار الجماهيري. تتطلب القضية الفلسطينية حشد كل الطاقات الفلسطينية والعربية والإسلامية بسبب ضخامة القوى التي تدعم إسرائيل، وإذا لم يتوفر الحشد العربي والإسلامي، فإنه من الأجدر أن يتوفر الحشد الفلسطيني. من المطلوب توظيف الطاقات الفلسطينية الجماهيرية والمهنية والحرفية والنضالية والعلمية والفكرية لتصب جميعها في خانة الخلاص. أي أن التوجه إلى كل الناس هي مسؤولية كل فصيل فلسطيني، ومسؤولية الفصائل الكبيرة على وجه الخصوص. وهنا أخص بالذكر حركة حماس التي تعتبر التنظيم الفلسطيني الأوسع انتشارا والأكثر شعبية. إنها حركة تحمل في عنقها مسؤولية جمع الفصائل الفلسطينية ضمن عمل عسكري- أمني مشترك يرفع من دقة الأداء الفلسطيني.
غرفة العمليات المشتركة لا تعتدي على حق أي فصيل فلسطيني في الاستقطاب الجماهيري. إنه من المعروف أن هناك اختلافات فكرية وآيديولوجية بين الفصائل الفلسطينية، لكن هذا لا علاقة له بالمقاومة الفلسطينية أو بالشؤون العسكرية والأمنية الفلسطينية. لا يختلف فصيل مقاوم مع فصيل آخر بأن المقاومة عبارة عن وسيلة فعالة في مواجهة الاحتلال، ولا تختلف الفصائل في ضرورة ملاحقة العملاء وفي تحصين المجتمع الفلسطيني أمنيا والتدقيق في أحوال المنخرطين في أعمال المقاومة. تعرف الفصائل الفلسطينية أن رصاص الصهاينة لا يفرق بين الفلسطينيين ولا بين الفصائل ولا بين العرب والمسلمين. الصهاينة موجودون في بغداد وكل العراق لأنهم يعتبرون العراق امتدادا لفلسطين كما هي فلسطين امتداد للعراق. وهكذا شأن كل أقطار العرب والمسلمين.
أي أنه ليس من المطلوب من أي فصيل فلسطيني مقاوم أن يتخلى عن فكره أو عقيدته أو آيديولوجيته، لكنه المطلوب توحيد هذا العمل المقاوم الذي هو عماد وسائل التحرير. للدولة جيش واحد يتمتع بمهام أمنية وعسكرية، وفي الدولة أحزاب وجماعات كثيرة. كل حزب يحاول أن يكسب شعبية، لكنه في النهاية يستظل بالأمن الذي يوظفه الجيش.
سيحصد الشعب الفلسطيني الفوائد التالية من غرفة العمليات الفلسطينية المشتركة:
أولا: إنهاء عملية فوضى السلاح التي تظهر أحيانا على الساحة الفلسطينية. هناك استعراضيون فلسطينيون لا يظهر سلاحهم إلا في الأفراح ومواكب تشييع الشهداء، وهناك من يستعمل السلاح لتصفية حسابات أو لابتزاز الناس. غرفة العمليات ستضع معايير واضحة لحمل السلاح الوطني، ومعايير أخرى للسلاح غير الوطني.
ثانيا: سيتوقف العمل العسكري الذي يقوم بمبادرات فصائلية فردية ووفق اجتهادات الميدانيين. بمعنى أن العمل العسكري الموحد هو الذي يضع استراتيجية الإعداد والتنظيم والتهيئة والتنفيذ.
ثالثا: ستتوقف المنافسات الفصائلية التي تتميز برغبة كل فصيل في إبراز نفسه على أنه فاعل على الساحة مما يسبب هموما أمنية إضافية للشعب الفلسطيني. عندها أيضا لن تتنابز الفصائل حول من قام بالعملية وحول انتماء الشهيد السياسي والتنظيمي. العمليات ستصبح فلسطينية، وسيصبح الشهداء فلسطينيين.
رابعا: سيتم وضع استراتيجية لملاحقة العملاء والجواسيس، وبرامج من أجل القضاء على أسباب ظاهرة الخيانة.
خامسا: سيكون الشعب أكثر قدرة على الرد على الاعتداءات الصهيونية وعلى استمرار الاحتلال.
سادسا: ستتحسن صورة العمل المقاوم الفلسطيني والفصائل الفلسطينية أمام العالم بخاصة لدى ظهيرهم من العرب والمسلمين. من المفروض أن يكون الفلسطينيون قدوة مما سيمكنهم من كسب المزيد من الدعم الشعبي المادي والمعنوي.
وعليه فإن الدعوة موجهة إلى حماس والجهاد الإسلامي والقيادة العامة والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية للتفكير جديا بالأمر والتوجه نحو التخطيط لمثل هذا المشروع وتنفيذه. إنه مشروع حيوي ويخدم المصلحة الوطنية الفلسطينية. في التفرق الضعف، وفي الاجتماع قوة. وإذا كان الفلسطينيون يطالبون العرب بالوحدة فالأولى أن يوحدوا صفوفهم أولا، وإذا كانوا يطالبون العرب بالاستقلال وعزة النفس فإن عليهم أن يحرروا إرادتهم من نير الآخرين.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية