انتزاع النجاح من أنياب الحصار والعدوان
د. حسن أبو حشيش
لملمت الحكومة الفلسطينية في قطاع غزة جراحها، وأوقفت نزيف شعبها، ورتبت الأوراق التي بعثرتها ثلاثة أسابيع أُريد لها أن تكون حاسمة وكاسحة ومدمرة للشعب وللفكرة وللحكومة وللمقاومة... فامتشقت سيف الإرادة، وركبت صهوة جواد العمل، ومن رحم الأزمات كانت المبادرة والإخلاص والإبداع لإعادة قطار المسيرة على سكة الحياة.
ستة شهور مضت , خُطط لها أن تكون حربا سياسية ومالية وأمنية واجتماعية ونفسية... لتُكمل تحقيق أهداف الحرب الشاملة وتكون امتدادا لها.
استمر الحصار ميدانيا رغم انكساره ثقافة وفكرا في أجندة شرائح مهمة من المجتمع الدولي .. وتحقق توازن الرعب، وتوقف العدوان، وأدرك الاحتلال أن الألم لم يعد ممكنا أن يشعر به الفلسطينيون وحدهم.
بقي التماسك الاجتماعي والأُسري رغم محاولات حثيثة ومُتكررة لفك العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع الفلسطيني.
بعد ستة شهور من توقف العدوان والحرب والإرهاب المباشر , نؤكد على فشلة وإحباط مخططاته، وعجز العدو عن تحقيق أهدافه المُعلنة وغير المُعلنة.
فغزة باتت أكثر صلابة وتماسكا ووعيا ، والشعب بات صلبا وعنيدا وجبارا، ورغبته تضاعفت في تقديم أغلى ما يملك من أجل ثوابته وحقوقه وخياراته وكرامته ومصيره.
صحيح أن الحصار ما زال جاثما ، والمؤامرة الدولية والإقليمية والمحلية لم تغب عن مسرح التفكير والميدان ، وعملية الاعمار متوقفة , والحاجة للاستقرار ما زالت منشودة ، والحاجة المادية لشرائح كثيرة مُسيطرة، وعملية الانفتاح الاقتصادية والتجارية مشلولة ... كل ذلك صحيح , وواقع ملموس ، وهدفه من قبل الاحتلال وأعوانه واضح ، ولكن غزة أكثر عزة وكرامة رغم التدمير ، أكثر إباء ورفضا للاستسلام رغم الحصار ، أكثر توحدا رغم الدسائس والمؤامرات ، أكثر وعيا وفهما رغم الضغط النفسي والإعلامي والفكري ، أكثر أمنا واطمئنانا رغم محاولات التشويه وإعادة الفلتان الأمني البائد ... لقد نجحت الحكومة بدرجة عالية في الوقوف بجانب الشعب ماديا ومعنويا , وأدارت باقتدار عمليات الإغاثة والمساعدة العاجلة, وسجلت الحكومة نجاحا سريعا في إعادة العمل في كافة الدوائر الحكومية , وقدمت الخدمات للجمهور منذ أول لحظة رغم تدمير البنية التحتية للمؤسسة الحكومية المدنية والأمنية.
وأعادت البسمة والهدوء في الشارع الفلسطيني , فهيأت الأجواء للدراسة في المدارس والجامعات وأشرفت على الامتحانات بتفوق وخاصة امتحانات الثانوية العامة.
وعملت على سيادة القانون في الشوارع والميادين والطرق , وحافظت على البيئة الصحية، وضاعفت من تقديم الخدمات الصحية واستقدام طواقم عالمية لخدمة المريض الفلسطيني، وأدارت بذكاء عال وحكيم ملفات المساعدات الخارجية , ولجان تقصي الحقائق والتحقيق العربية والدولية, والوفود الأجنبية والعربية, وسفن كسر الحصار . وحرصت على وصول المساعدات للمواطن بغض النظر عن وجودها المباشر أم لا, وكان همها المواطن ومصلحته وقدمت الأمر عن كل اعتبار آخر.
ولو تجولت بسيارتك من شاطئ شمال غزة إلى أقصى جنوب رفح ستجد شاطئا وساحلا آمنا وهادئا وحرا، وستجد عشرات الألوف من المصطافين على مدار الأربع والعشرين ساعة، ينامون و يسبحون و يلهون ويلعبون ويأكلون و يسيرون ويصلون ويمارسون كل ما يريدون ... معززين القيم والأخلاق الفلسطينية الوطنية الأصيلة المستمدة من أصول الإسلام العظيم ... وكل ذلك تحت حماية رجل الشرطة الذي مهمته فقط توفير الأمن والأمان والخدمة للمصطافين.
ولو قُدر لك السير في شوارع كل مدن وقرى ومخيمات قطاع غزة ستجد كل ليلة حفلات الزفاف في الميادين والطرق , منها ما هو تراثي ووطني , ومنها ما هو إسلامي , ومنها ما هو دون ذلك، الكل يزف عريسه بطريقته الخاصة بكل أدب دون التعدي على الحقوق العامة والخاصة ، وستجد قوافل السيارات وطبول "الفدعوس" وزفات العرسان تجوب الشوارع لساعات، وصالات الأفراح والفنادق والأماكن المخصصة للأفراح زاخرة بالمواطنين يعبرون عن فرحتهم بأبنائهم كل على طريقته الخاصة.
ولو شئت أن تجلس مع صديق في أحد الفنادق والمطاعم التي هي مكتظة على مدار الأسبوع واليوم ستجد العائلات والأصدقاء يمارسون حياتهم الطبيعية وهم أحرار في ذلك, ولا يُجبرون على زي معين، أو سلوك معين أو وقت معين، ومنهم المتدين ومنهم غير ذلك، ومنهم المفكر والقائد, ومنهم المواطن العادي , ومنهم الرجال ومنهم النساء. وسياج العادات والتقاليد الفلسطينية وقيم الإسلام تلف الجميع بدرجات متفاوتة حسب الحرية الشخصية.
ومن المهم أن نتابع مئات المخيمات الصيفية التي تنظمها الجهات الأهلية والرسمية ووكالة الغوث لعشرات الآلاف من أولادنا وبناتنا، على سواحل غزة وفي مساجدها ومدارسها وأنديتها ومؤسساتها الأهلية في الميادين العامة , وعشرات مخيمات حفظ القرآن الكريم التي تشرف عليها وزارة الأوقاف والشئون الدينية ودار القرآن الكريم والسنة , حيث تسعى إلى تحفيظ الطلاب والطالبات القرآن الكريم في شهرين فقط.
هذه صورة عامة من غزة بعد ستة شهور من توقف العدوان المباشر، إنها صورة وردية وجميلة وحلوة رغم ما بها من مرارة ومن دماء ومن تعكير , لكنه التعالي على الجراح , والصبر على المكاره , والثبات على المواقف.
ولنكون موضوعيين : فإن تفاصيل الحياة اليومية وفي المسيرة الصعبة هناك أخطاء , وهناك اجتهادات خاطئة , وهناك سلوكيات فردية وإن تكررت , تكون غير مرغوبة وليست من قيمنا ولا من أوامرنا ولا من نهجنا، ولكنها طبيعة الحياة والبشر والعمل.
والإنصاف يستوجب الحكم النهائي على السلوك والمنهج العام , وليس على قصة هنا وحدث هناك لم يخل منها مجتمع النبوة ولا مجتمع الصحابة ولا مجتمعات الحضارة والمدنية وإمبراطوريات العالم اليوم المستقرة والتي لا تعاني جوعا ولا خوفا ولا حصارا.
هذا النجاح لإدارة قطاع غزة من قبل الحكومة ما كان له أن يتحقق لولا المتابعة المستمرة والإشراف الدقيق من قبل الحكومة بكافة وزاراتها وعلى رأسهم رئيس الوزراء إسماعيل هنية الذي يشعر المواطنون أنه معهم في كل دقائق أمورهم وفي أفراحهم وأتراحهم ومشاكلهم.
وكذلك قيادة حركة حماس التي أفرزت الحكومة ومن قيادة المجلس التشريعي ونوابه الذين يحاولون معالجة مشاكل المواطنين بالتواصل مع الجهات الرسمية المختصة، ولا ننكر دور المجتمع والأهالي ومؤسسات حقوق الإنسان المنصفة العاملة في قطاع غزة، والتي هي على تماس مباشر مع الحكومة والمسئولين يتبادلون الآراء والتوصيات وكذلك دور أهل الخير من القوى المختلفة وأساتذة الجامعات والشخصيات المجتمعية والشرائح المختلفة.
وبهذا كله ستمضي غزة وشعبها إن شاء الله نحو إعادة الإعمار ورفع الحصار واستكمال البناء العام للشخصية والمجتمع وتوحيد الصف وتعزيز لحمة الوطن والشعب.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية