انهيار العمق العربي لإسرائيل... بقلم : د. عبدالستار قاسم

انهيار العمق العربي لإسرائيل... بقلم : د. عبدالستار قاسم

السبت 19 فبراير 2011

انهيار العمق العربي لإسرائيل
د. عبدالستار قاسم

كم من المعاناة كنت أجد في جدلي مع أكاديميين ومثقفين وطلاب وأناس عاديين حول الدعم الذي تتلقاه إسرائيل من العديد من الأنظمة العربية على مختلف المستويات، وكم كنت أشعر أحيانا أنني أكلم نفسي لأنه كان يتولد شعور لدي بأن الطرف المستمع يظن بي المغالاة والخروج عن المنطق والمنهجية العلمية.

هناك من يرى أن إسرائيل تتلقى دعما من أنظمة عربية، ولديهم فكرة غامضة عن ذلك، لكن الكثيرين لم يكونوا يرون ما كنت أرى، وكانت وسائل إعلام الأنظمة تصنع غشاوات وأوهاما تعمي البصيرة والبصائر.

وقد صارحني أحد طلابي في الدراسات العليا عندما قال لي بأن وصفي قبل عدة سنوات في غرفة الدرس لانهيار أنظمة عربية قد أثار استغرابا كبيرا لدى الطلبة، وظن أغلبهم أن الأستاذ يهيم في تفكير التمني.

تتكشف علاقة الأنظمة العربية بالكيان الصهيوني مع تهاوي هذه الأنظمة، مثلما تكشفت علاقة شاه إيران مع هذا الكيان عقب سقوطه.

تحدثت وسائل إعلام كثيرة حول علاقة زين العابدين الحميمة مع إسرائيل، وسنرى مستقبلا سيلا من الوثائق حول علاقة نظام مبارك معه، والذي عمل كمركز إستراتيجي للأمن القومي الأميركي في المنطقة، وكمدافع أول عن مصالح إسرائيل الأمنية والعسكرية. وسنقرأ عن دور النظام الأردني في ضرب صفوف المقاومة والتآمر على المصالح القومية العربية، وهكذا.

الأبعاد الإستراتيجية لقوة إسرائيل

تستند إسرائيل في قوتها العسكرية والأمنية إلى عدد من العوامل الإستراتيجية وهي:

أولا: الاعتماد على الذات. لا يثق اليهود من ناحية العقيدة اليهودية بأي أحد حتى لو بدا حليفا في مرحلة من المراحل. يعتبر اليهود أنفسهم شعب الرب الوحيد، ولا شعب لهذا الرب غيرهم، وذلك وفق نص التوراة التي بين أيديهم القائل: "أنتم شعبي الوحيد" باقي الأمم والشعوب عبارة عن نجس، وهي عبارة عن عبيد على صورة بشر، ولم يخلقها الرب إلا لسببين وهما معاقبة بني إسرائيل بهم عندما يكون بنو إسرائيل في معصية الرب، والتلذذ بالانتصار على هؤلاء العبيد عندما يكون شعب الرب في طاعته. الرب لا يجيز التعامل مع الشعوب الأخرى إلا بالقتل أو الطرد أو الاستعباد لأنها شعوب قذرة تعمل دائما على إغواء اليهود وإبعادهم عن وصايا الرب العظيمة.

على ذات النمط، لا تثق إسرائيل إلا بنفسها، وتنص عقيدتها الأمنية على أن عليها تطوير ما تحتاجه من أسلحة ومعدات حتى لا تقع تحت رحمة أحد من صناع السلاح. ولهذا عملت إسرائيل على تطوير القنبلة الذرية، ومختلف أنواع المعدات الصاروخية والإلكترونية لكي تحقق استقلالها في تسليح جيوشها البرية والبحرية والجوية والفضائية والدفاع الجوي.

ولم تتوقف إسرائيل عن تطوير طائرة ليفي المقاتلة إلا بعدما قدمت لها الولايات المتحدة مختلف أنواع الضمانات حول تزويدها بآخر ما في الترسانة الأميركية من طائرات حربية. وما من شك أن إسرائيل قد حققت إنجازات ضخمة في هذا المجال، ولديها من العلماء والمختبرات والإرادات ما يمكنها من الاستمرار في التطوير بخاصة في مجالات التسليح الإلكتروني.

ثانيا: تطوير اقتصادها بحيث لا تبقى صاحبة يد سفلى تستعطي من هنا وهناك. وقد تطور اقتصادها إلى درجة أنها تفوقت في مجالات عدة منها الصناعات الإلكترونية والهندسة الوراثية والمجوهرات. صحيح أن إسرائيل تحصل على مساعدات مالية من الولايات المتحدة الأميركية، ومن جمعيات يهودية، لكن ذلك من قبيل زيادة الخير، وليس لأنها غير قادرة اقتصاديا.

ثالثا: يتطلب التسليح والتطوير الاقتصادي البنية المعرفية والعلمية، وإسرائيل تحرص دائما على البحث العلمي، وعلى المساهمة في المعرفة العالمية وليس فقط الاستفادة من هذه المعرفة.

رابعا: الدعم الغربي، بخاصة دعم الولايات المتحدة لها في كافة المجالات الأمنية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية والاقتصادية والمالية والعلمية... إلخ. لقد حازت إسرائيل، وما زالت على الدعم الغربي إلى درجة أنها أصبحت تعرف كقطعة من العالم الغربي المتمثل بأوروبا الغربية والولايات المتحدة، أو كأنها الربيبة المدللة التي يهبون لنجدتها والوقوف معها في السراء والضراء.

خامسا: العمق الإستراتيجي العربي والذي يعتبر أهم هذه الأبعاد بالنسبة لإسرائيل وأكثرها خطورة على الفلسطينيين والعرب. لقد وفرت الأنظمة العربية على مدى عشرات السنوات الأجواء المناسبة لكي يبقى العرب ضعفاء أمام إسرائيل، ولتلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى على أيدي عسكر الصهاينة، ذلك لكي يصل الجمهور العربي في النهاية إلى نتيجة مفادها أنه لا أمل في قتال إسرائيل، وعلى العرب والفلسطينيين أن يستسلموا لإرادتها ويقبلوا بها ويرتضوا بما تقدمه لهم من خير أو ضرر.

من الممكن لأي دولة تملك الإرادة أن تطور الكثير من أجل مواجهة العدو، لكن أن تضمن تعاون عدوها معها، فهذا أمر لا يعرفه التاريخ. تصنيع السلاح، وتطوير الاقتصاد، والحرص على المنهجية العلمية والتطوير العلمي، والإصرار على البناء الذاتي ليست أمورا تعجيزية لا تقدر عليها الأمم، لكن المعجز أن تصنع عدوا يعمل سمسارا على شعبه لصالحك.

تطور العمق العربي لإسرائيل

تولد العمق العربي لإسرائيل تدريجيا مع الزمن، وابتدأ مع توقيع الأمير فيصل بن الحسين على وثيقة تمنح اليهود حق الهجرة إلى فلسطين، ومع الأمير عبد الله بن الحسين الذي أخذ يستقبل قادة الحركة الصهيونية المهاجرة إلى فلسطين ويسهل لها عملها في شراء الأراضي في الضفتين الشرقية والغربية.

ويبدو أن الأمير كان سعيدا بالهدايا التي أغدقتها عليه الحركة الصهيونية، ودون أن يقارن بين ثمن الهدايا وثمن الوطن. واستمر التطور مع ظهور قيادات فلسطينية تعمل مع الانتداب البريطاني أو تهادنة، والتي عملت على كبح الثورة والثوار، واعتمدت بصورة أساسية على بريطانيا لوقف هجرة الصهاينة وتسريب الأراضي الفلسطينية لليهود. أغلب هذه القيادات الفلسطينية باعت أراضي لليهود، وما زالت الوثائق التي تتحدث عن هذا الدور تظهر تدريجيا حتى الآن.

ظهر الدور الرسمي العربي على حقيقته في حرب عام 1948 عندما تآمرت الأنظمة على جيوشها وخرجت من الحرب مهزومة. لقد حققت جيوش مصر والعراق والأردن إنجازات كبيرة في الجولة الأولى من الحرب، وسيطرت على أجزاء لا بأس بها من الأرض التي خصصتها الأمم المتحدة لدولة اليهود وفق تقسيم عام 1948.

لكن الحرب توقفت فجأة، وقبلت الأنظمة الهدنة المؤقتة التي أتاحت لها تغيير القيادات العسكرية العربية الميدانية واستبدالها بضباط يحملون أوامر عسكرية جديدة، وأتاحت للدول الغربية تقديم المزيد من الدعم العسكري لإسرائيل.

وحين نشبت الحرب من جديد، وجدنا الجيش العراقي يخلي أماكنه العسكرية في منطقتي حيفا وطولكرم ليأخذ مواقع جديدة له في منطقة جنين، والجيش الأردني يخلي منطقتي اللد والرملة والقدس غرب، والجيش المصري يقع تحت الحصار بسبب الأسلحة الفاسدة التي أرسلها له ملك مصر. ضاعت فلسطين وقامت إسرائيل بفضل خيانة الأنظمة العربية.

ظهر عبد الناصر، وأقام سدا غير حصين أمام الأنظمة العربية المتعاملة مع إسرائيل، وكانت هزيمته عام 1967 بمثابة خروج للأنظمة من محنة السرية المتشددة في التعاون مع إسرائيل. مع وفاة عبد الناصر، انطلقت الماسونية ناشطة في أغلب البلدان العربية بدون رادع، وازداد النفوذ الأميركي في المنطقة العربية الإسلامية، وتوالت الهزائم السياسية والدبلوماسية والتطبيعية.

كانت حرب عام 1973 نصرا مؤقتا أو مفصلا وهميا أمام العرب لأن السادات فتح الأبواب واسعة أمام قبول إسرائيل والتعاون معها. انفرط العقد في عهد السادات، وأخذت إسرائيل تشهد عصرها الذهبي في علاقاتها السرية وغير السرية مع الأنظمة العربية بمن فيها منظمة التحرير الفلسطينية التي أدخلت الفلسطينيين في متاهات الدبلوماسية والصراعات الداخلية والتحالفات المتموجة مع أنظمة عربية.

وبلغ الأمر إلى حد التعاون الأمني العلني مع إسرائيل، وخير دليل على ذلك تعاون أنظمة مع إسرائيل ضد حزب الله وضد غزة، وتعاون السلطة الفلسطينية الأمني مع إسرائيل.

تكوين العمق العربي لإسرائيل

تكون العمق العربي لإسرائيل لسبب وحيد وهو أن أغلب الأنظمة العربية ليست منبثقة من الشعب ولا تعبر عن إرادة الشعب، وهي ذاتها لا تملك إرادة حرة. عدد من الأنظمة العربية عبارة عن قبائل نصبها الاستعمار الغربي ومكنها في أرض العرب لتخدم مصالحه، وهي ليست أكثر من مجرد إدارة تأتمر بأوامر أهل الغرب.

عدد آخر منها لا يستطيع صرف رواتب آخر الشهر إلا بمساعدات مالية غربية، وعدد آخر لا يستطيع الاستمرار إلا بحماية أمنية وعسكرية غربية. وهنا أذكر أنظمة الإقطاعيات العربية التالية: الأردن، والسعودية، وقطر، والبحرين، والإمارات العربية، وعُمان، واليمن، والمغرب، وجمهورية القمر، والكويت، وجيبوتي، والسلطة الفلسطينية، وكانت تونس ومصر.

يبقى من هذه الإقطاعيات التالية: سوريا وهي صامدة وشبه محاصرة بسبب مواقفها، والسودان والصومال تتعرضان للتمزيق، وليبيا ويكفيها زعيمها، والعراق وموريتانيا مشغولتان بالهموم الداخلية. أما لبنان فصامدة دون أن تبرأ من الانقسامات الداخلية.

إذا كانت أغلب الأنظمة العربية تدين بوجودها واستمرارها للاستعمار الغربي، فإنها لا تستطيع إلا تنفيذ الأوامر التي يلقيها أهل الغرب، وإن كان لأحدها أن يتمرد فإنه يواجه عصا الاستبدال أو القتل.

أميركا أزاحت الحبيب بورقيبة عندما انتهى دوره، وأتت بزين العابدين، وقتلت الملك فيصل بن عبد العزيز. أما بريطانيا فأزاحت الملك طلال ملك الأردن بحجة الجنون وأتت بابنه حسين ليجلس على إقطاعية الأردن عشرات السنين.

لا مانع لدى الاستعمار الغربي أن تتحدث هذه الأنظمة بالوطنية، وأن تخطب ضد إسرائيل، وأن تقدم معونات مالية واقتصادية للأشقاء الفلسطينيين، إنما إلى الدرجة التي لا تلحق أذى بإسرائيل، ولا تؤثر سلبا على نشاطات إسرائيل الاستخبارية والأمنية في البلدان العربية.

لا مانع من مؤتمرات قمة تدين إسرائيل ما دامت أنظمة العرب تقوم بوظيفة المدافع عن الأمن الإسرائيلي. وقد سبق للمخابرات الإسرائيلية أن مررت معلومات للأنظمة عن انقلابات عسكرية محتملة، وأنقذت أنظمة من الزوال. وسبق أيضا أن دافعت إسرائيل عسكريا عن الأردن عندما قام الجيش السوري بدخول شمال الأردن إبان حرب أيلول عام 1970.

أمن النظام أم أمن الأمة؟

بما أن أغلب أنظمة العرب موجودة بفضل الأجنبي المعادي أصلا للأمة العربية وحارس تمزقها وناهب ثرواتها، فإن هناك فصلا حادا بين أمن النظام وأمن الأمة. يكمن أمن نظام الحكم العربي في تعريض أمن الأمة للخطر، وهو يدرك أنه سيطرد إن لم يفعل ذلك.

هو محروس ليس من قبل شعبه، وإنما من قبل إسرائيل والاستعمار الغربي، وأمنه ومصالحه مرتبطة بهؤلاء الأعداء. أمنه يتعرض للخطر إن هو عادى إسرائيل فعلا، أو إن شعر بغيرة على الثروات العربية، أو إن دفع بجد نحو الوحدة العربية، أو إن خاض حربا لا تخدم مصالح إسرائيل وأميركا.

هناك تناقض بين أمن النظام وأمن الأمة لأن أمن الأمة يتطلب الاستعداد العسكري والأمني، وتوظيف الأموال لعملية البناء الاقتصادي الحقيقي والبناء العلمي، والاعتماد على الذات غذائيا وتقنيا... إلخ. كل هذه العوامل التي تعتبر من أركان أمن الأمة غير مسموح بها لا إسرائيليا ولا غربيا، وعلى الحاكم العربي أن يصر على ضعف شعبه وأمته، ويطمئن إلى أن أحذية أعدائها فوق رقابها.

ولهذا يجند الحاكم العربي أجهزة أمنه وأدوات قمعه ضد شعبه وليس ضد أعداء شعبه. العربي لا يستطيع النوم ذعرا من أجهزة الشرطة الفاسدة والمخابرات التي من المفروض أن توفر له الأمن والحماية.

عمق عربي يتهاوى

استطاعت جهات عربية أن تقف صلبة عبر السنين في وجه السياسة الغربية في المنطقة، ورفضت أن تكون أداة بيد إسرائيل. سوريا تقف على رأس القائمة، وكذلك بعض فصائل المقاومة مثل حزب الله اللبناني وحماس والجهاد الإسلامي، وبعض عناصر حركة فتح والقيادة العامة.

لكن الأهم هو أن الشعوب العربية بقيت أبية رافضة التطويع والتطبيع والامتطاء، وهي ما زالت تصر على الحرية والاستقلال، والسير في درب العزة والإباء. عمل قادة وأنظمة كثر على تذليل الشعوب وإخضاعها، لكنها أبت، وأطلت برأسها العظيم في تونس لتطيح بطاغية سمسر على شعبه، وتبع شعب مصر العظيم الذي أعاد الأنفاس إلى صدور الأمة العربية. والخير قادم بإذن الله.

ورطة إسرائيل

ستستمر إسرائيل بمراكمة القوة، لكن ذلك الضعف العربي الذي حماها وراهنت عليه قد أفل، أو أن طريق أفوله ليس طويلا. لقد واجهت إسرائيل مقاومة عربية شديدة في لبنان وفلسطين غزة، وبدت عليها الحيرة والتخبط، فماذا هي فاعلة إذا كانت الخيانة العربية في طريقها إلى التقلص والزوال؟ عهد الضعف العربي قد ولى، ومعه انهار العمق العربي الإستراتيجي لإسرائيل.
جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية