حرب خفية على الكلمة الحرة في الضفة!
لمى خاطر
سبق أن أشرت في مقالات فائتة إلى أن سلطة فتح في الضفة -وتحديداً رئيس حكومتها فياض- تجتهد في إظهار وجه حضاري وديمقراطي لها لتبديد معالم أخاديد القمع المحفورة في وجهها، ففياض لا يفتأ بمناسبة وبدون مناسبة يؤكد على أن الضفة واحة للحريات وللعمل الإعلامي الحر، وأن الصحافة تعيش عصراً ذهبياً في عهده، لدرجة أن غير العارفين ببواطن الأمور قد تسلب ألبابهم وعود الرجل وحديثه الواثق عن القانون والنزاهة والمصداقية ومشتقاتها من مقومات الحكم الصالح، وفتح من جهتها لا يتوقف ناطقوها عن ترديد أسطوانة التنظير إياها حول حكمهم المشرق مقابل حكم حماس (الظلامي) في غزة، بينما نجد الناطق باسم الأجهزة الأمنية يقدم للإعلام تبريراً معلباً لكل حادثة اعتقال سياسي؛ فالناشطون في المجالات الإغاثية تنسب لهم تهم تبييض الأموال حتى لو كانت مبالغ زهيدة لا تتردد الأجهزة الأمنية في مصادرتها، والمقاومون توجه لهم تهم حيازة سلاح غير شرعي ( بطبيعة الحال فالسلاح الشرعي المقصود هنا هو فقط المرخص من قبل إسرائيل)، أما الإعلاميون والأكاديميون وأئمة المساجد وطلبة الجامعات فتوجه لهم تهم من طراز: (مناهضة السياسات العامة للسلطة).. وفي النهاية يخرج كل قادة السلطة ليقسموا بأنهم لا يتعقلون أحداً على خلفية سياسية أو بسبب رأيه وفكره.
لا أود هنا البحث في خلفيات هذه الهجمة المسعورة المستمرة منذ أكثر من ثلاثة أعوام والتي تطال كل نشاط أو صوت لا يغرد مع سرب فتح وسياساتها، فالأنظمة الهشة التي تستمد قوتها ومقومات وجودها من الخارج وتفتقد لعوامل الاستمرار الذاتية من الطبيعي أن تكون مناوئة لشعبها بقدر ما هي موالية لأعدائه.
لكنني أود التوقف عند بعض حالات الانتهاك الأخيرة لتبيان النسق التصاعدي لعمليات القمع بمختلف أشكاله، وكيف تتفنن وتبدع سلطة فتح وأجهزتها في إخماد أي صوت معارض لها حتى لو تطلب ذلك أن تتجاوز الأجهزة صلاحياتها وتمس بالنواب المنتخبين فتحظر عليهم إلقاء المواعظ الدينية في مساجد الضفة كما حصل مع النائب الدكتور ناصر عبد الجواد مؤخراً، ومنع الشيخ حامد البيتاوي من الخطابة بأمر من وزير أوقاف فتح، وهنا تستغل الأجهزة سطوتها للمساس بالنواب دون أن يظهر أنها تقوم بذلك بشكل مباشر، بل تلجأ للتضييق على النواب عبر تهديد القريبين منهم أو العاملين معهم، وترغم أئمة المساجد الموظفين لدى السلطة بأن يمنعوا بأنفسهم النواب من إلقاء الخطب والمواعظ الدينية حتى لو كانت ذات صبغة دعوية صرفة.
ثمة حالة خطيرة تحدثت عنها بعض التقارير الإعلامية مؤخراً، واستغربتُ كيف صرفت وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية النظر عنها كل هذه المدة، وهي حالة المختطف لدى أجهزة فتح (ساري عرابي) الذي اختطف قبل أكثر من عام كما ذكرت التقارير ومورس بحقه تعذيب قاسٍ أورثه عدة أمراض، ثم حكم بعدها بالسجن لمدة ثلاثة أعوام، والتهمة: كتابة مقالات تمس بهيبة الدولة! ولست أدري أية هيبة وأية دولة تلك التي تخشى سلطة رام الله عليها من مقال؟ فهل أبقيتم لسلطتكم هيبة في وعي الناس؟ وهل امتلكتم أدنى مقومات الدولة لكي تنكلوا بأسير محرر قضى شطراً كبيراً من عمره في سجون الاحتلال بجريرة كتابته مقالاً معارضا؟!
وأي صمم هذا الذي يصيب منظمات حقوق الإنسان هنا إزاء حالات مساس خطيرة بحرية التعبير من هذا الطراز وبذلك القدر! وهي التي لا تتوقف عن إصدار بيانات إدانة للحكومة في غزة بمناسبة وبدون مناسبة ولا تفوتها شاردة ولا واردة من دقائق تفاصيل الممارسات الأمنية هناك حتى لو كانت موجهة لتأديب العملاء والجواسيس، بل إن حوادث الجرائم العادية التي قد تحدث داخل المجتمع يحمل وزرها للحكومة في غزة! (وهذا لا يعني أنني أبرر أي تجاوز فعلي لحقوق الإنسان والحريات يصدر عن أجهزة أمن غزة).
أما الحالة الأحدث فهي اعتقال الكاتب (صلاح حميدة) من رام الله على خلفية كتاباته السياسية أيضا، على الرغم من أن الكاتب متوازن جداً في طرحه وأفكاره، وأسلوبه في التحليل عقلاني وراقٍ ويستند إلى أدلة وحجج واضحة، ولكن يبدو أن الأجهزة الأمنية ترى أن تجرؤ أي كان على التعبير عن رأي معارض لسلطتها في الضفة يعدّ مؤشراً على إخفاقها في إرهاب النفوس وتكميم الأفواه، ودليلاً على تقصيرها في حربها الشاملة على وعي الناس، وفشلها في تطويعه ليناسب مقاساتها وحسب، بل يبدو أن ضيق الأفق يذهب بها للاعتقاد أن عموم الناس لا ترى إلا من خلال منظارها ولا تتابع سوى إعلامها المفتقد لأدنى درجات المصداقية، مع أن ما يقوله الناس العاديون في مجالسهم العامة وحتى ما يتندرون به حول خصائص هذه السلطة يفوق بدرجات ما يكتبه أي ناقد سياسي يكتب علناً أو يتحدث عبر الإعلام!
سيتذرع كثيرون بأن الوضع في غزة ليس أحسن حالاً على هذا الصعيد، مع أن ذلك مجافٍ للواقع، إذ إن قِسماً كبيراً من الكتاب في صحف فتح الرسمية يعيشون في غزة، وبعضهم يكتب بحدة مبالغ فيها تصل حدّ التشهير الشخصي بمخالفيهم، كما حدث مؤخراً خلال الحملة التي استهدفت الكاتب الدكتور فايز أبو شمالة والتي تعيب عليه إنصافه لحماس خصوصاً وأنه ليس منتمياً لها، بينما هنا في الضفة لا يتجاوز عدد الذين يكتبون بأسمائهم الصريحة وينتقدون سياسات السلطة أصابع اليد الواحدة، وكلهم بلا استثناء تعرضوا لأشكال مختلفة من الانتهاك المادي والمعنوي.
ليس متوقعاً أبداً أن يطرأ أي تحسن على حالة الحريات في الضفة وتحديداً حرية التعبير، ولا أن تتراجع سلطتها عن سياساتها القمعية الشاملة حتى لو بلغ سيل وعودها الكاذبة الزبى، لكنها ستظل حرباً تُدار في الخفاء ما أمكن وبعيداً عن وسائل الإعلام وعن مؤسسات حقوق الإنسان المحلية المتغافلة أصلاً عن متابعة هذه القضايا وإصدار مطالبات بشأنها، لكن الوجه البشع لكل تلك السياسات القمعية لن تجمله التصريحات الجوفاء، ولن تقلل من وقعه التهم الباطلة التي تلفق للإعلاميين ولأصحاب الفكر الحر بهدف تغييبهم عن الواقع وتحييدهم عنه، وكسر هممهم والنيل من شخوصهم!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية