"حماس" وإدارة الصراع على مسرح العلاقات الدولية ... بقلم : حسام شاكر

الأحد 14 ديسمبر 2014

"حماس" وإدارة الصراع على مسرح العلاقات الدولية

حسام شاكر


نشأت الاتصالات والعلاقات بين الأطراف الدولية وحركة "حماس" من حقيقة أساسية تتمثل في وجود هذه الحركة الفلسطينية الكبرى في صميم المشهد، وحضورها الواضح على الأرض، واتصالها بقضية تقع في صدارة جدول الأعمال الدولي. تمثِّل هذه الحقيقةُ الأرضيةَ التي تنهض عليها الاتصالات والعلاقات. وهكذا باشرت الأطراف الدولية طرق أبواب "حماس" في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، للتعرّف على رؤى الحركة السياسية ومواقفها من مشروعات التسوية وخياراتها، بينما كانت الحركة معنيّة من جانبها بنقل رؤاها ومواقفها إلى العالم، والتعريف بحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته.

البناء على المربّع الأول

كان على أي جهد دبلوماسي فلسطيني حتى نهاية السبعينيات تقريباً أن ينشغل أيضاً بالعناوين الأساسية لقضية فلسطين، مثل تأكيد حضور الشعب الفلسطيني في محاولة إنكار وجوده من دعاية الاحتلال، وكذلك التعريف بالحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرّف. واضح أنّها مرحلة تمّ تجاوزها بفعل نضوج تجربة الشعب الفلسطيني الذي سجّل حضوره المسموع عالمياً عبر عقود متلاحقة من الانتفاضات، والنشاط المقاوم، والجهود السياسية والشعبية. لكنّ استحقاقاً آخر ظلّ يلوح في أفق التواصل السياسي، مع الحاجة إلى إبقاء الحقوق والثوابت الفلسطينية في دائرة الضوء ومخاطر انهماك الفعل السياسي الفلسطيني في المسارات الجانبية والقضايا الجزئية، وهو ما عبّرت عنه "حماس" من خلال ما يمكن تسميته "خطاب الحقوق والثوابت".

فبعد أعوام قليلة من انطلاقة "حماس"؛ كان يجري على المسرح الدولي إنضاج التوجّه إلى "عملية سلام الشرق الأوسط"، التي انطلقت رسمياً في مؤتمر مدريد في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر 1991. ثمّ تطوّر المسار التفاوضي عبر قنوات خلفية بين قيادة منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية لتخرج اتفاقات أوسلو إلى النور بعد سنتين من ذلك.

كان تواصل الأطراف الغربية مع "حماس" يجري آنذاك في عمّان، حيث تتمركز قيادة الحركة في الخارج، علاوة على التواصل مع رموزها في قطاع غزة والضفة الغربية. لكنّ الحركة باشرت نسج حضورها في عدد من بلدان العالم العربي والإسلامي أيضاً، وأعلنت عن ممثلين لها في دول عدّة خاصة بعد أن أبعد الاحتلال بعض قياداتها إلى الخارج، بما أتاح لهم تمثيل الحركة مباشرة.

اعتمدت دبلوماسية "حماس" على ممثليها الرسميين، سواء كانوا مُعلَنين أم غير مُعلَنين، وكذلك على الزيارات والوفود، وعلى المذكّرات والمراسلات مع قادة الدول والحكومات ومؤتمرات القمّة، فضلاً عن أدوار لجهات ثالثة في المشهد السياسي أو المجتمع المدني أو الشخصيات العامّة المتعاطفة مع الحركة.

لقد أتت بعض التطوّرات لتحفِّز حضور "حماس" في المشهد السياسي، ولتفتح نوافذ جديدة للتواصل، مثل ما جرى تحديداً مع واقعة إبعاد سلطات الاحتلال أربعمائة من قادة الحركة ورموزها من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى جنوب لبنان في سنة 1992. وهكذا تحوّل مرج الزهور، وهو المنطقة الواقعة بين فلسطين المحتلة ولبنان حيث مكث المبعدون سنة كاملة في العراء، إلى وجهة للوفود العربية والإسلامية والدولية التي قامت بزيارات تضامنية أو تواصلية، بما أنعش التواصل مع العالم، وقدّم فرصة مثالية أيضاً لقادة الداخل في التواصل مع الخارج.

علاقات في ظروف شائكة

يمكن رسم محطات الصعود والهبوط التي عرفتها اتصالات "حماس" وعلاقاتها الدولية، وبالوسع في المقابل فرز المسارات على المستويات العربية والإسلامية والدولية كل على حدة،وإن لم تكن تلك المسارات معزولة بعضها عن بعض.

والثابت أنّ علاقات "حماس" الإقليمية والدولية واجهت وفرة من العوائق والصعوبات المتعلقة بالسياق الزمني، والظرف الإقليمي، والوضع الدولي، وانعكاسات ذلك كله على القضية الفلسطينية وقواها.

فابتداءً؛ يبدو من اسم "حماس" أنها حركة "مقاومة"، وهي "إسلامية" أيضاً. ويكفي ذلك ليشكِّل حجاباً نفسياً حاجزاً في التواصل السياسي في زمن صعد فيه الدور الأمريكي، وغلبت فيه الأحكام المسبقة على القوى الإسلامية. لكنّ التحدي الأساس لم يكن الصفة الإسلامية في المقام الأول كما قد يتبادر إلى الذهن؛ بل مشروع الحركة في رفض الاحتلال جذرياً ومقاومته ونبذ الاعتراف به خلافاً للتوجّهات الدولية والإقليمية السائدة، وحتى بما يتعارض مع موقف الرسمية الفلسطينية بدءاً من مطلع التسعينيات.

لم تعمل حركة "حماس" في فراغ، بل واجهت في اتصالاتها وعلاقاتها الدولية عوائق حقيقية كانت منها الحملات المنهجية الإسرائيلية لقطع الطريق على حضورها على المسرح، وهي حملات تمّ تجريبها في السابق بمنهجيات مشابهة تقريباً ضد منظمة التحرير خلال السبعينيات والثمانينيات. لقد سجّلت تلك الحملات نجاحها الأكبر في قرار الاتحاد الأوروبي وضع "حماس" على قائمة الإرهاب، لكنّ ذلك لم يُسدِل الستار على فرص التواصل بين الحركة وأوروبا التي بقيت قائمة، وإن بحثت لها عن مسالك أخرى وقنوات خلفية.

أمّا الولايات المتحدة التي قامت بدور راعي "عملية السلام"؛ فصنّفت "حماس" في خانة عدائية، واعتمدت سلسلة من العقوبات والمواقف الصارمة ضدّها، بدءاً من عهد الرئيس بيل كلينتون الذي حشدت إدارته ممثلين عن المجتمع الدولي ودول المنطقة في مؤتمر شرم الشيخ سنة 1996 الذي أعلن حملة ضد الحركة. ولم تكن الحال أفضل منه في عهد خليفته جورج بوش الابن الذي قاد حملته العالمية ضد "الإرهاب"، وبدا أنه يُدرج المقاومة الفلسطينية ضمن هذا المفهوم بالتزامن مع حملة آريئيل شارون الضارية ضد "انتفاضة الأقصى" والمقاومة الفلسطينية وفي صميمها "حماس".

وقد اتضح مع الوقت أنّ الانقسام في البيت السياسي الفلسطيني قد عبّر عن نفسه في أوضح صوره في مسرح العلاقات الدولية أيضاً. تفيد الوقائع أنّ الرسمية الفلسطينية التي تقود السفارات والممثليات الدبلوماسية حول العالم قد تمسّكت بمقولة "وحدانية التمثيل الفلسطيني" في تبرير توجّهها الحثيث لمناهضة تواصل دول العالم مع حركة المقاومة الإسلامية. وقد برزت أزمة التمثيل تلك حتى عندما تقلّدت "حماس" الحكومة الفلسطينية، وشغلت موقع وزارة الخارجية في سنة 2006. وفي بلد مثل جنوب أفريقيا؛ كانت "حماس" تحوز فرصة جيدة للتواصل وبناء العلاقات مع المستوى الرسمي، لكنّ العلاقة العميقة تاريخياً بين نخبة "المؤتمر الوطني الأفريقي" الحاكم مع منظمة التحرير ولاحقاً مع السلطة الفلسطينية، كان لها على الأرجح تأثيرها في سدّ الأبواب والنوافذ. وقد اتضح ذلك جلياً في عرقلة الزيارة التاريخية التي كان الشيخ أحمد ياسين يستعدّ للقيام بها إلى جنوب أفريقيا خلال جولته الخارجية عام 1997 – 1998.

أوجد الافتراق السياسي في الساحة الفلسطينية خطابيْن اثنين على الأقل موجّهين إلى العالم، وبينهما طيف من الخطابات الجزئيّة، وهو ما منح الأطراف الدولية فرصة للتفريق ولاختيار الشركاء، وللّعب على التناقضات الداخلية الفلسطينية أيضاً. لكنّ تلك الحالة من الافتراق كانت تعني أيضاً غياب الإجماع الفلسطيني على الاتفاقات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، وبالتالي الطعن في مشروعيّتها.

تحريك المياه الراكدة

إنّ ستار الدخان الكثيف الذي انطلق من الحملات المناهضة لحركة "حماس" من جانب الولايات المتحدة لم يحجب حرص واشنطن على عدم سدّ منافذ الاتصال بالكامل. وهكذا يمكن الحديث عن اتصالات متفرِّقة سعت الدبلوماسية الأمريكية غير المباشرة للإبقاء عليها من محطة إلى أخرى. وليس بعيداً عن ذلك جاءت الزيارات الشهيرة التي قام بها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر إلى قطاع غزة ودمشق بدءاً من عام 2006 للقاء قادة الحركة حاملاً مضامين سياسية محدّدة، وعائداً برسائل إلى راسمي السياسات في بلاده.

أمّا إدراج "حماس" على قوائم "الإرهاب" في الاتحاد الأوروبي سنة 2005؛ فقد أتاح مجالاً لدول أوروبية ليست عضواً في الاتحاد، مثل سويسرا والنرويج، للقيام بأدوار واتصالات ومبادرات مع الحركة، أو أن تكون فضاء جغرافياً للتواصل الأوروبي معها.

لم يكن ذلك يجري بمعزل عن تطوّرات المشهد. ففوز "حماس" بالأغلبية في الانتخابات البلدية ثمّ التشريعية الفلسطينية في عامي 2005 و2006، كان يحمل رسالة محددة لا تخطئها العين، تتمثّل بعدم جدوى قطع جسور التواصل مع الحركة التي تتصدّر المشهد الفلسطيني. ولولا الخطوة الاستباقية التي تمت بوضع "حماس" على قائمة الإرهاب الأوروبية، لأمكن لعلاقات القارّة الموحدة مع الحركة الفلسطينية الصاعدة أن تمضي قدماً، وقد اتضح بعد الفوز الانتخابي أنّ أوروبا قد كبّلت ذاتها بقرار التصنيف المتسرِّع.

كانت الفرصة في إنضاج علاقة منفتحة مع "حماس" متاحة بوضوح من جانب بعض الدول الأوروبية، كإسبانيا في عهد الحكومة الاشتراكية بقيادة ثاباتيرو، وإيطاليا في عهد حكومة يسار الوسط في عهد برودي، علاوة على النرويج غير المنضوية في الاتحاد الأوروبي والتي لا تسري عليها التزاماته. أمّا فرنسا المعروفة بسياساتها المُبادِرة؛ فكانت تمتلك القدرة على إنجاز تحوّل في مسار العلاقات بين "حماس" والغرب لكنها افتقرت للجرأة في هذا المسار رغم اتصالاتها المتكررة مع "حماس". أمّا بعض الدول الأوروبية فظلّت محتفظة بتصلّبها، خاصة ألمانيا وبريطانيا وهولندا، وبالطبع دول وسط أوروبا وشرقها المنضوية حديثاً في الاتحاد الأوروبي، والتي تتماثل عادة في سياساتها نحو الشرق الأوسط مع المواقف الأمريكية. وحتى في بعض هذه الدول؛ كان الخبراء وأساتذة العلوم السياسية وأصحاب التقديرات في مراكز الفكر يبعثون بملاحظاتهم إلى صانعي السياسات؛ بضرورة صياغة مفهوم جديد لعلاقات الدول الأوروبية مع حركة تقود المشهد الشعبي الفلسطيني وتتصدّر مقاومته، لكنّ تغييراً جوهرياً لم يحدث رغم ذلك.



تغيّر بيئة التحرّك

الواقع الذي يتجلّى عبر المقارنة مع تجارب الساحة الفلسطينية السابقة؛ أنّ "حماس" تواجه مزيداً من الصعوبات في مجال العلاقات الدولية مع افتقارها للظهير الدولي كالذي حظيت به منظمة التحرير خلال الحرب الباردة من خلال المنظومة الاشتراكية، وغياب الاصطفاف الإقليمي الواضح مع الحقوق الفلسطينية، واضمحلال منظومات العمل المشترك الداعمة على غرار الأدوار التي نهضت بها في السابق جامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ودول عدم الانحياز، وحتى المجموعة الأفريقية.

وفي النطاق العربي – الإسلامي؛ وجدت "حماس" نفسها خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إزاء واقع تتجاذبه محاور متعارضة، فبدت أحياناً وكأنها محسوبة على "محور الممانعة" الذي يضمّ إيران وسورية وحزب الله أساساً، وهو الاصطفاف الواقف في مقابل "محور الاعتدال" الذي يضمّ مصر والأردن ودول الخليج أساساً. ثمّ تغيّر مشهد المحاور بدءاً من سنة 2011 مع تقلّب الأوضاع في المنطقة، وتشظِّي الدول والمجتمعات العربية، وتبدّل أولويات العواصم، *** تجد "حماس" أرضاً مستقرّة تقف عليها سوى عواصم قليلة متفرِّقة.

وبالمقارنة مع الأبواب المفتوحة التي كانت تحظى بها منظمة التحرير في دول الخليج حتى سنة 1990؛ شهدت علاقات "حماس" الخليجية مدّاً وجزراً، لكنها لم تنقطع يوماً، لكنّ الخليج ذاته هو الذي تغيّر وتعدّدت وجهاته.

أمّا مصر، ذات الثقل الإقليمي؛ فقد كان للمنطق السياسي المعتمد لديها تأثيرات شاقّة على "حماس"، وعلى قطاع غزة بصفة خاصّة، بما حفّز التوتّر والحصار والحملات المضادة. ثمة عناوين محدّدة للمشكلة، تتمثل في أنّ خيار المقاومة الفلسطيني لا يلقى ترحيباً في القاهرة التي رسّخت اتفاقية السلام مع الجانب الإسرائيلي بكلّ ما يترتّب على ذلك من استحقاقات. ثمّ إنّ حركة المقاومة الإسلامية تعني بالنسبة لمصر نسخة فلسطينية من جماعة الإخوان المسلمين التي تقود مشهد المعارضة السياسية على ضفاف النيل. وسيتمّ التعبير عن أزمة الثقة في علاقات القاهرة و"حماس" بصفة مباشرة في منابر الإعلام المصرية، وكذلك في بوابة معبر رفح التي غالباً ما تبقى مُوصَدة.

وخلافاً لصورة الانسداد التي قد تتشكّل أحياناً من واقع الظروف الضاغطة؛ إلاّ أنّ "حماس" تمتلك رصيداً متراكماً من العلاقات مع عدد من الدول العربية مشرقاً ومغرباً، ويمكن افتراض أنّ فرصتها أكبر لولا التقلبات والأزمات الداخلية المتصاعدة في بعض دول الإقليم. أمّا على المستوى الإسلامي؛ فإنّ نطاق العلاقات القائمة يشمل دولاً ذات ثقل مثل تركيا وإيران وماليزيا وإندونيسيا، بينما ظلّت موسكو بوابة دولية مفتوحة نسبياً في وجه "حماس" في بعض المحطات.

على أنّ المشهد الدولي لا يقتصر على هذه الدول، فهناك وجهات ذات شأن كما عليه الحال في عواصم أمريكا اللاتينية التي أنضجت سلسلة مواقف متقدمة في التفاعل مع القضية الفلسطينية. أمّا الصين والهند فهما مسرحان لتجاذبات استراتيجية مهمّة في الحاضر والمستقبل، ومن الواضح أنّ لغة تأييد النضال الفلسطيني التي غلبت عليهما حتى نهاية الثمانينيات، قد غابت عن مشهدهما السياسي الراهن بينما ينسج الحضور الإسرائيلي أذرعه وشباكه في ساحتيهما.

"حماس" أدركت أنّ عليها اشتقاق خيارات في البحث عن أرضية في المشترك السياسي دون التنازل عن مبادئها


خيارات في الخطاب السياسي
في الإطار الاستراتيجي العام للاتصالات والعلاقات المتبادلة بين الأطراف الدولية و"حماس"؛ لا زالت الولايات المتحدة والدول الأوروبية محتفظة بثوابت مُعلَنة كاشتراطات لإدخال الحركة إلى الرواق السياسي، كما واصلت الحركة تمسّكها بمبادئها وثوابت القضية الفلسطينية، وهو ما يعني للوهلة الأولى انتفاء الأرضية المشتركة التي يمكن أن ينهض عليها اللقاء.

لكنّ "حماس" أدركت أنّ عليها اشتقاق خيارات في البحث عن أرضية في المشترك السياسي دون التنازل عن مبادئها، ومن ذلك، مثلاً، أنها طوّرت عناصر خطاب سياسي يمكن العثور عليه مثلاً في مضامين وثيقة الوفاق الوطني لعام 2006. إنه برنامج الحدّ الأدنى للساحة الفلسطينية برمّتها الذي يمكن لجناح المفاوضات كما لجناح المقاومة أن يلتقيا عليه، ولو في لغة الخطاب.

ما يجدر ذكره أنّ "حماس" عندما صعدت مع انقداح شرارة الانتفاضة الشعبية في أواخر 1987؛ كانت تتوجّه بخطابها في المقام الأوّل إلى المجتمع المحلي الفلسطيني المنتفض ضد الاحتلال، ثمّ إلى شعبها ككلّ وأمّتها إجمالاً. ومع تبلوُر التجربة؛ سرعان ما أعادت الحركة إنتاج خطابها ليستوعب الداخل والخارج، وليخاطب الأمّة والعالم، بما ترتّب على ذلك من عناية بالمفردات وتحسّب لانفلات المدلولات إلى غير مقصدها. وهكذا أجرت الحركة انعطافة واضحة في خطابها بالمقارنة مع سلسلة الوثائق التي أصدرتها حتى منتصف عام 1988 تقريباً، مثل البيانات الأسبوعية و"الميثاق"، وستكون هذه الوثيقة الأخيرة بالذات مرتكزاً لحملات تشويه الحركة في الأفق الدولي عبر اجتزاء نصوص وفقرات منها رغم أنها عملياً لم تعد معبِّرة عن خطاب الحركة، خاصة في التفريق الواضح الذي جرى لاحقاً بين اليهودي والصهيوني.

مهما يكن من أمر؛ يظلّ الواقع هو الأرضية التي تنهض عليها العلاقات الدولية. وما زالت حوافز تطوير علاقات "حماس" الدولية قائمة،



قوّة الأمر الواقع
مهما يكن من أمر؛ يظلّ الواقع هو الأرضية التي تنهض عليها العلاقات الدولية. وما زالت حوافز تطوير علاقات "حماس" الدولية قائمة، انبثاقاً من أنها طرف أساسي في الساحة الفلسطينية سياسياً وشعبياً، وأنها عامل لا يمكن القفز عليه في أي معالجة للقضية الأبرز دولياً. إنّ جانباً من القوّة التي تحوزها "حماس" في تحرّكها على مسرح العلاقات الدولية، أنها تبدو متحرِّرة من عقدة استجلاب الاعتراف الدولي الرسمي بها، فالاعتراف لا يكون لفظياً وحسب؛ بل واقعياً أيضاً.
تدرك الأطراف الإقليمية والدولية أنّ "حماس" تمتلك عدداً من أوراق اللعبة، ومنها المقاومة وقيادة المعركة، والحضور الشعبي والامتداد الجماهيري فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، والقدرة على صناعة الحدث أيضاً. وإن كانت هذه الحركة تمتلك القدرة على عرقلة أي اتفاق تسوية سياسية؛ فإنّ تحييدها يبقى خياراً قبل تنزيله على الأرض، أمّا الخيار الآخر فهو التفاهم معها.

وهناك ما لا تخطئه عيون الأطراف الدولية في توجّهها للتواصل مع "حماس". فالحركة تمثل حالة مستقلّة وناهضة بالنظر إلى علاقة السلطة الفلسطينية الاعتمادية على نظام المانحين الدوليين، وارتباط مشروع السلطة ذاته باتفاقات متعثرة في التطبيق، وانسداد آفاق التسوية السياسية مع حكومات إسرائيلية متصلِّبة، وضمور رصيد عدد من الفصائل الفلسطينية التاريخية. وكما أنّ "حماس" قادت الحكومة الفلسطينية فإنها يمكن أن تعود لقيادتها في أي وقت، علاوة على فرصتها بالفوز في أيِّ اقتراع ديمقراطي قادم.

كما تلحظ الاتصالات والعلاقات الدولية في تفاعلاتها ما يجري على الأرض، وتنتصب جولات العدوان الحربي على قطاع غزة مثالاً واضحاً على ذلك. فمع كلّ جولة يعجز جيش الاحتلال عن حسمها لصالحه تتزايد القناعة برسوخ تجربة "حماس" واستعصاء المقاومة الفلسطينية إجمالاً على محاولات كسرها، وهو ما يلغي أي فرضية تقول بإمكانية استبعادها من المعادلة.

العلاقات وإدارة الصراع
مضى تواصل الأطراف الدولية مع حركة "حماس" عبر ربع قرن من مسيرتها، ضمن قنوات رسمية وشبه رسمية وقنات مستقلّة أيضاً، وذلك عبر طيف يشمل سفارات ووفود ومبتعثين، وساسة وبرلمانيين، ومنظمات غير حكومية ومراكز فكر، وشخصيات عامة ووسطاء ودبلوماسيين سابقين. وللتواصل قنواته المباشرة، أو غير المباشرة عبر أطراف ثالثة رسمية أو شبه رسمية؛ ومنها دول عربية وإسلامية. ويبرهن ذلك بوضوح أنّ إغلاق الباب لا يعني إيصاد النوافذ في عالم يعي أهمية الدبلوماسية ومخاطر الانقطاع.

يبقى أنّ الاتصالات والعلاقات الدولية ليست هدفاً في حد ذاتها، ومن المؤكّد أنّ "حماس" كان بوسعها إنجاز تحوّل نوعي في علاقاتها الدولية لو أعلنت عن تنازلات جوهرية في المشروع السياسي، أو عبّرت عن قبولها بالعناوين الأساسية التي تحملها معظم الأطراف الغربية إليها في العادة.

لا تستغني أي حركة بوزن "حماس" عن العلاقات الدولية، التي يمكن التوجّه إلى إنعاشها عبر جملة من الخيارات التي لم يتمّ طرق بعض أبوابها حتى الآن.


لقد عبّرت عدد من تلك الأطراف عن سعيها لانتزاع مواقف "براغماتية" من "حماس"، ولكنّ ذلك كان سيضع الحركة على المسار ذاته تقريباً الذي سبقت إليه منظمة التحرير دون أن يحقِّق الوعود المعقودة على ناصيته. بل إنّ الانجرار إلى رغبات تلك الأطراف قد يعني في الواقع نقضاً لمشروع الحركة الذي يستمدّ مشروعيته أساساً من المحافظة على حقوق الشعب الفلسطيني والسعي لانتزاعها عبر مقاومة الاحتلال في مفهومها الإجمالي. ولا شكّ أنّ ما آخر ما تنتظره الساحة الفلسطينية من مشروع المقاومة هو إعادة إنتاج تجربة "عملية السلام" التي لم تنجح في تحقيق الحدّ الأدنى من التوقّعات رغم التنازلات السياسية الجوهرية التي تمّ تقديمها على مذبحها.

لا تستغني أي حركة بوزن "حماس" عن العلاقات الدولية، التي يمكن التوجّه إلى إنعاشها عبر جملة من الخيارات التي لم يتمّ طرق بعض أبوابها حتى الآن. لكنّ الخيار الذي لا غنى عنه لحركات التحرّر، هو أن تستصحب العلاقات الدولية في مسيرتها النضالية، وأن تستخدم هذه العلاقات كأحد أدوات إدارة الصراع، مع إدراك أنّ الاتصالات الدولية قد تكون في الوقت ذاته نافذة تمرّ عبرها محاولات ترويضها، واستدراجها، واحتوائها، وصرفها عن المقصد الذي وّجدت حركة التحرّر لأجله.

إنّ الغرض المثالي من إدارة العلاقات الدولية ضمن معادلة الصراع ليس أن يتزحزح الفلسطينيون عن حقوقهم؛ بل أن يتزحزح الاحتلال عن مواضعه. إنها معادلة فائقة الصعوبة، خاصة في فلسطين، لكنها بكلّ تأكيد ليست مستحيلة.
جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية