خارج السرب، عكس التيار
لمى خاطر
يصعب القول إنه خيار مريح، وغير مكلف، ومحفوف بالورود.. فأن تكون مغرداً خارج سرب أي نهج بوليسي، وأن تعيش حياتك سابحاً عكس التيار المُجاري للرداءة وطأطأة الرؤوس، يعني أن تقتطع مساحة وافرة من راحتك واستقرارك وأمنك، ومعك الدائرة المحيطة بك من الأهل والمقرّبين.
لكنه في المقابل ليس خياراً مستحيلاً ولا بطولة استثنائية، إذ يسعُ المرء أن يعيش حرّا حتى لو كان بحكم الجغرافيا يخضع لاحتلال أو اثنين، ويسعه أن يكون قوياً حتى لو جُرّد من سلاحه، هذا قراره وحده، ينجح بتنفيذه بقدر علوّ قيمة الكرامة والحرية في روحه، وبقدر انحيازه لرسالته والتصاقه بها، وتجرّده من تجاذبات الدنيا واعتباراتها رخيصة القيمة.
لكن ما يحصل في العادة، وفقاً لنمط الانصياع المهيمن على مساحة واسعة من أذهاننا، أننا نحن الذين نمنح المستبد تأشيرة العبور إلى عزائمنا لهتك حرماتها والإمعان في إذلالنا، نحن الذين نستأجر ذلك الرقيب الذاتي ليرافقنا كظلّنا ويحصي علينا كلماتنا أو يمنعنا من إطلاقها، كما ينصب لنا الحواجز قبل اتخاذ المواقف المشرّفة التي تصون كرامتنا أو تصدّ محاولات امتهاننا، ونحن الذين نتملّق للمستبدين أملاً في كفّ شرّهم أو استجلاب رضاهم أو إقناعهم بسلامة نوايانا تجاههم، ونحن الذين نهاجم نزعة العنفوان فينا حتى نطفئ جذوتها، وتقنعها بأن العلو عن سقف المجموع أو الأغلبية الصامتة المستكينة هو دأب المتهورين ومن تعوزهم الحكمة.
كلّ من يختار أن يكون نسخة عن الأغلبية المنكسرة سيصنع لضميره مئات المبررات والمسوّغات التي تتحوّل مع الوقت إلى أصنام من وهم يجتهد المرء في تقديم فروض الطاعة والولاء لها، وكلّ من ينحاز للأقلية المتقدّمة على الدرب حاملةً مشاعل التغيير سيكافح نداء الضعف والتراجع داخله، لأن لسع المسؤولية يظلّ حاضراً في دمه، كما هو إدراك حساسية المكان الذي يشغله والقيم التي يمثّلها أو ينظّر لها.
والحرية؛ تلك القيمة الغالية النادرة، لا يكون دائماً ثمنها الموت، ذلك أن مسيرة الحياة الشاقة في سبيل اكتسابها تبدو أكثر إجهاداً في بعض الأحيان من بذل ثمن كبير مرة واحدة أو في جولة مؤقتة، فأن تعيش لفكرة وأن تخوض لجّة الحياة فيما شراعك لا ينفكّ يقاوم حركة الموج العاتية أمر يكافئ أن تبذل روحك في سبيل تلك الفكرة مرة واحدة، غير أن الخيار الأول يتطلّب عيوناً دائمة التطلع للأعلى ونحو الأمام، دون ملل أو سأم، ودون استجابة لنداءات الضعف البشرية المغرية بالانسحاب إلى أواسط الصفوف أو أواخرها.
ومثلما أن هناك نفوساً تتآلف مع المهانة وتستطيب مذاقها وتدمن عليه، فإن هناك نفوساً تألف العزّة إذا عاينت طعمها، واغترفت من معينها، فصار ماؤها جزءاً من تشكيل ذاتها وملامحها وسماتها، فلا يعود ممكناً الارتداد عن خطّها ولا التذرّع بالعجز وقلة الحيلة وانسداد الآفاق، ولا تعزية النفس والتحايل عليها بإملاءات الواقع، أو إقناعها بأن دورها مؤجّل ولم يئِن بعد، وسيحين عند انقضاء كل العواصف.
من تتشبّع روحه بالعزة سيدرك أنه ليس مهمّاً كثيراً الأذى الذي يلحق بالإنسان على صعيد ذاته حين يقف أمام لحظة اختبار المبادئ، وأنه لا قيمة للبحث عن استقرار شخصي في خضمّ معركة واسعة تستهدف اقتلاع جذور النماء وسحق الإرادة وفرض سياسة امتهان المذلّة على المجموع.
إنها سباحة عكس التيار لكنها تقود لشاطئ الإنجاز والتغير والتأثير، أما التجديف الدائم باتجاه الريح فإنه يديم الجمود ويفرض المهادنة حتى تحتلّ العقول وتستوطن الأفئدة، فيبقى الستار منسدلاً على الظلم المتراكم، والقهر غير المرئي.
لمى خاطر
يصعب القول إنه خيار مريح، وغير مكلف، ومحفوف بالورود.. فأن تكون مغرداً خارج سرب أي نهج بوليسي، وأن تعيش حياتك سابحاً عكس التيار المُجاري للرداءة وطأطأة الرؤوس، يعني أن تقتطع مساحة وافرة من راحتك واستقرارك وأمنك، ومعك الدائرة المحيطة بك من الأهل والمقرّبين.
لكنه في المقابل ليس خياراً مستحيلاً ولا بطولة استثنائية، إذ يسعُ المرء أن يعيش حرّا حتى لو كان بحكم الجغرافيا يخضع لاحتلال أو اثنين، ويسعه أن يكون قوياً حتى لو جُرّد من سلاحه، هذا قراره وحده، ينجح بتنفيذه بقدر علوّ قيمة الكرامة والحرية في روحه، وبقدر انحيازه لرسالته والتصاقه بها، وتجرّده من تجاذبات الدنيا واعتباراتها رخيصة القيمة.
لكن ما يحصل في العادة، وفقاً لنمط الانصياع المهيمن على مساحة واسعة من أذهاننا، أننا نحن الذين نمنح المستبد تأشيرة العبور إلى عزائمنا لهتك حرماتها والإمعان في إذلالنا، نحن الذين نستأجر ذلك الرقيب الذاتي ليرافقنا كظلّنا ويحصي علينا كلماتنا أو يمنعنا من إطلاقها، كما ينصب لنا الحواجز قبل اتخاذ المواقف المشرّفة التي تصون كرامتنا أو تصدّ محاولات امتهاننا، ونحن الذين نتملّق للمستبدين أملاً في كفّ شرّهم أو استجلاب رضاهم أو إقناعهم بسلامة نوايانا تجاههم، ونحن الذين نهاجم نزعة العنفوان فينا حتى نطفئ جذوتها، وتقنعها بأن العلو عن سقف المجموع أو الأغلبية الصامتة المستكينة هو دأب المتهورين ومن تعوزهم الحكمة.
كلّ من يختار أن يكون نسخة عن الأغلبية المنكسرة سيصنع لضميره مئات المبررات والمسوّغات التي تتحوّل مع الوقت إلى أصنام من وهم يجتهد المرء في تقديم فروض الطاعة والولاء لها، وكلّ من ينحاز للأقلية المتقدّمة على الدرب حاملةً مشاعل التغيير سيكافح نداء الضعف والتراجع داخله، لأن لسع المسؤولية يظلّ حاضراً في دمه، كما هو إدراك حساسية المكان الذي يشغله والقيم التي يمثّلها أو ينظّر لها.
والحرية؛ تلك القيمة الغالية النادرة، لا يكون دائماً ثمنها الموت، ذلك أن مسيرة الحياة الشاقة في سبيل اكتسابها تبدو أكثر إجهاداً في بعض الأحيان من بذل ثمن كبير مرة واحدة أو في جولة مؤقتة، فأن تعيش لفكرة وأن تخوض لجّة الحياة فيما شراعك لا ينفكّ يقاوم حركة الموج العاتية أمر يكافئ أن تبذل روحك في سبيل تلك الفكرة مرة واحدة، غير أن الخيار الأول يتطلّب عيوناً دائمة التطلع للأعلى ونحو الأمام، دون ملل أو سأم، ودون استجابة لنداءات الضعف البشرية المغرية بالانسحاب إلى أواسط الصفوف أو أواخرها.
ومثلما أن هناك نفوساً تتآلف مع المهانة وتستطيب مذاقها وتدمن عليه، فإن هناك نفوساً تألف العزّة إذا عاينت طعمها، واغترفت من معينها، فصار ماؤها جزءاً من تشكيل ذاتها وملامحها وسماتها، فلا يعود ممكناً الارتداد عن خطّها ولا التذرّع بالعجز وقلة الحيلة وانسداد الآفاق، ولا تعزية النفس والتحايل عليها بإملاءات الواقع، أو إقناعها بأن دورها مؤجّل ولم يئِن بعد، وسيحين عند انقضاء كل العواصف.
من تتشبّع روحه بالعزة سيدرك أنه ليس مهمّاً كثيراً الأذى الذي يلحق بالإنسان على صعيد ذاته حين يقف أمام لحظة اختبار المبادئ، وأنه لا قيمة للبحث عن استقرار شخصي في خضمّ معركة واسعة تستهدف اقتلاع جذور النماء وسحق الإرادة وفرض سياسة امتهان المذلّة على المجموع.
إنها سباحة عكس التيار لكنها تقود لشاطئ الإنجاز والتغير والتأثير، أما التجديف الدائم باتجاه الريح فإنه يديم الجمود ويفرض المهادنة حتى تحتلّ العقول وتستوطن الأفئدة، فيبقى الستار منسدلاً على الظلم المتراكم، والقهر غير المرئي.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية