ذكرى أوسلو...مراجعة لا بد منها للجميع
سري سمّور
في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر سنة 1993م وقع اتـفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية من جهة والكيان العبري من جهة أخرى في حدائق البيت الأبيض، وهو ما عرف باتـفاق أوسلو بين الطرفين ذلك أن هذا التوقيع جاء تتويجا لمفاوضات ثنائية استمرت شهورا في العاصمة النرويجية أوسلو باركتها أمريكا.
ومن ولد آنذاك أصبح اليوم شابا فتيا ربما على مقعد الجامعة، ومن كان عمره تسعة عشر عاما مثل العبد الفقير أصبح على عتبة الأربعين من عمره وله بنين وبنات؛ ومنذ ذلك الوقت وحتى اللحظة عصفت بالمنطقة والعالم أحداث جسام، وتغيرت سياسات وصعدت دول وهبطت دول، واختفى أناس كان لهم دور في صناعة الأحداث قسرا أو طوعا، ولكن أوسلو بـقي دون الإعلان عن إلغائه، مع أن إلغاء فعليا طاله عبر ممارسات إسرائيلية مدروسة؛ ويحضرني هنا كلام للراحل هاني الحسن على شاشة إحدى محطات التلفزة المحلية أثناء أزمة مستوطنة جبل أبو غنيم(وكان نتنياهو آنذاك رئيسا لوزراء الكيان) حيث قال ما معناه:لم أر كائنا أو مخلوقا أو شيئا يموت ثم يعاد إحياؤه من جديد إلا أوسلو فقد مات عدة مرات وذكر حادثة النفق وقال بأن المستوطنة على جبل أبو غنيم قتلته لكن سيعاد إحياؤه من جديد!
ومنا من عارض الاتـفاق ومنا من قبله، ومنا من كان بين بين منذ البداية لكن كثيرا من المعارضين والمؤيدين لم يقرؤوا الاتـفاق، وهذه معضلة من معضلاتنا مع الأسف؛ وأتذكر محاضرا جامعيا سأل الطلبة والطالبات في قاعة كبيرة:من مع اتـفاق أوسلو؟ فرفع المؤيدون أيديهم؛ ثم سأل:من ضد الاتـفاق؟فرفع المعارضون أيديهم؛ ثم سأل بتحد مًن مِن المؤيدين أو المعارضين قرأ الاتـفاق ولو سريعا؟فكانت النتيجة المتوقعة هي أن خمسة أو أقل ممن يفترض أنهم طبقة متعلمة ومثقفة قد اطلعوا على الاتـفاق...وقد كنت وقتها شابا يمتلئ حيوية ورغبة في الإلمام بالشأن السياسي، ولعل هذا من خبز الفقراء في زمني؛ فقرأت الاتـفاق وما كتب عنه وحضرت ندوات ومناظرات تناولته من الجوانب الفقهية والسياسية والقانونية شارك فيها مؤيدون ومعارضون ومن يؤيد ويظهر المعارضة وبالعكس، وكتبت ما لم يكن يمكنني بحكم ضيق وسائل النشر أن أنشره وصدعت برأيي وأقل ما قيل فيه أنني متشائم جدا؛ وقد تبين أنني كنت على درجة كبيرة من التفاؤل جرّاء التداعيات المتواصلة منذ ذاك التاريخ!
حالة الاستقطاب الحادة بين المؤيدين والمعارضين لدينا لم تؤد إلى اقتتال راهن عليه الاحتلال، وبشّر به مثقفو نظام مبارك وغيرهم، الاقتتال حدث بعد سنين طويلة من توقيع الاتـفاق وفي ظروف مختلفة تماما، إلا أن الاستقطاب لدى الجانب الصهيوني أدى إلى اغتيال المقتول القاتل رابين؛ وبعد حوالي عشر سنوات من اغتيال رابين كتب نبيل عمرو مقالا اعتبر فيه أن عملية السلام انتهت فعليا بذلك الاغتيال الذي طال رابين..لكن أوسلو بقي حتى مع ترنحه وانتقائية إسرائيل...بقي أوسلو وبقيت ملحقاته مثل اتـفاقية باريس والاعتراف بالكيان وغير ذلك، والأدهى والأمر أن الكيان لم يلتزم بأوسلو على عوراته ومثالبه وظل يماطل وحوّل الاتفاق الذي كان يفترض أن يكون انتقاليا إلى حالة دائمة واحتلال ديلوكس!
حدث تغيير ثـقافي فلسطينيا وعربيا فاختفت مصطلحات «العدو أو الكيان الصهيوني» لتحل محلها عبارة «الطرف الآخر» أما عندهم فلم تختف عبارات مثل «يهودا والسامرة» ورفضوا كلمة «الوطنية» في وصف السلطة في الخطابات والوثائق الرسمية، وجنحوا أكثر فأكثر نحو أقصى اليمين وما زالوا...مع أنهم نالوا اعترافا فلسطينيا أدى إلى اتـفاقيات سلام أو علاقات مع كثير من الدول العربية؛ فلولا أوسلو ما كانت وادي عربة، ولا كانت العلاقات ولا البعثات الدبلوماسية أو التجارية؛ وقد يرى البعض أن هذه العلاقات بين العرب والصهاينة كانت مخفية إلا أنها طفت على السطح، وهذا لا ينفي الفكرة بل يمكن القول أن الأمر أشبه بمن كان يفطر في رمضان متخفيا وأصبح مجاهرا، أو كمن يفعل الفاحشة في الشارع العام بعد أن اعتاد الحرص على التخفي، ثم إن الأمور أخذت طابعا قانونيا موثـقا وملزما ومعلنا، بعد أن كانت علاقات سرية محدودة قابلة للقطع.
ومرة دار نـقاش بيني وبين أحد الإخوة العائدين فطرحت له ما ثبت عن حقيقة القوم بأنهم لا يلتزمون بعهد أو اتـفاق «أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم» فأكمل محاوري الآية بل ضرب أمثلة عدة من التاريخ وقال لي:نحن نعرفهم فقد غدروا بالأنبياء وقتلوا الرسل وأفسدوا، هذه حقائق نعلمها جيدا، ولكن نحن لا نعتمد عليهم وعلى ذمتهم المهترئة في تـنـفيذ بنود العملية السياسية بل إن هناك دول ترعى هذه الاتـفاقيات مثل أمريكا وروسيا وأوربا، وحين حدثته عن انحياز هذه الدول التام والمطلق إلى الكيان أكد بأن العالم يريد تبريد أو إنهاء كل بؤر التوتر وجبهات الصراع في الكون بما فيها الصراع في منطقتنا واستشهد بأمثلة كالبوسنة وإيرلندا ومحاولات-كانت تجري- لحلحلة مسألة قبرص والكوريتين...ولكن الأيام أثبتت أن إسرائيل «بنت الداية» وأن الوسيط الأمريكي ليس وسيطا بل عدو لدود متصهين أكثر من عتاة يمينهم، بل ذكرت تـقارير بأن اللعين دينيس روس كان يلبس قلنسوة الحاخامات أثناء جلسات التفاوض ويؤدي طقوسا يهودية مع الوفد الإسرائيلي المفاوض، وبسبب مواقفه الكثيرة المتكررة المشابهة أثار غضب الرئيس عرفات فامتنع عن لقائه في إحدى زياراته المشئومة للمنطقة.
وكان من المفترض أن يكون أوسلو خطوة أو مرحلة انتقالية تنتهي بتاريخ 4/5/1999م كحد أقصى، بحيث يصبح لنا دولة فلسطينية تضم الضفة الغربية (بما فيها شرقي القدس) وقطاع غزة، وهو أقل شيء يمكن القبول به مع أنه مجحف وظالم؛ لكن إسرائيل نجحت في تحويل الانتقالي إلى دائم، بل إن السيادة النسبية التي تمتعت بها المدن الرئيسية المصنّـفة كمناطق «أ» بحيث تكون السيادة الأمنية والإدارية عليها للجانب الفلسطيني قد انتهت وباتت دوريات الاحتلال تصول وتجول ولم يسلم منها حتى مقر الرئيس في رام الله؛ أما على الصعيد الاقتصادي فقد كان الشعار المرفوع المكتوب على يافطات في أماكن بارزة بخط كبير «فلسطين فيتنام اليوم ويابان(أو سنغافورة) الغد» إلا أن الأوضاع الاقتصادية لم تتحسن إلا ظاهريا ومؤقتا وارتـفعت نسبة البطالة...أما القضايا التي حسب الاتـفاق يؤجل البت فيها إلى المرحلة النهائية كالقدس والمستوطنات فإن الكيان فرض سياسة الأمر الواقع مستندا إلى قوته العسكرية المتفوقة وتواطؤ العالم المنافق معه، وانشغالنا بخلافاتنا الداخلية؛ فقد تضاعف الاستيطان خلال السنوات الماضية وباتت القدس تحت سكين التهويد والمسجد الأقصى ننام ونصحو وقلوبنا تخفق خوفا من خبر يفيد بانهياره جرّاء الحفريات والاعتداءات المتواصلة.
لا مجال لاستعراض كل ما جرى منذ أوسلو وحتى الآن، ولكن ما هو مؤكد أن الشعب الفلسطيني اليوم بكافة قواه وأطيافه ونخبه وجماهيره يقف أمام استحقاق مراجعة دقيقة وشاملة لحقبة أوسلو وما أدت إليه؛ ولعل أكثر قوتين مطلوب منهما المراجعة ذاتيا وثنائيا ثم جماعيا هما فتح وحماس؛ ففتح هي التي قادت هذه العملية وتحملت معظم تبعاتها، وهي الخاسر الأكبر كتنظيم شعبي تحرري، حتى ولو بدا لها أو لبعض منها أنها كسبت مكاسب هنا وهناك؛ إلا أن تدقيقا سريعا من مخلصيها كفيل بأن يوضح أنها خسرت بأوسلو أضعاف أضعاف ما ربحته، على اعتبار وجود أرباح، وانعكست الخسائر الفادحة على مجمل الشعب وقضيته العادلة؛ وأما حماس فقد قبلت الدخول في اللعبة السياسية بهدف تحصين وحماية المقاومة مثلما أعلنت؛ ولكن تبين بأن الجمع أو المزاوجة بين السلطة والمقاومة في الحالة الفلسطينية أمر شبه مستحيل؛ وقد اضطرت حماس إلى تجميد وتعليق المقاومة تحت مبررات وحجج قد تـقنع البعض ويسخر منها أو ينتقدها البعض الآخر، لكن النتيجة المرئية هي أن المقاومة معلّقة، بما في ذلك ما توافقت عليه مع فتح أي المقاومة الشعبية السلمية وأظن أن كلاهما(فتح وحماس) توافقتا على ذلك هروبا من الواقع والاستحقاق ليس إلا، وقد أصبحت حماس مسئولة عن إطعام وتشغيل وإنارة بيوت نحو 1.8 مليون نسمة، وسواء نجحت في هذا أم لا فإن برنامجها المقاوم إما أن يتراجع أو أن يبقى مكانه!
فالأمر يتطلب وقفة جادة ومسئولة من الجميع، وعدم الانشغال بالمناكفات؛ فحالنا أصبح يرثى له، ولن ينفع فصائلنا التغني بالبطولات والشهداء والمجاهدين والمناضلين، لأنهم ليس لأجل ما نحن فيه ضحوا وقاتلوا؛ فبدل أن نتنافس في مقاومة الاحتلال نتصارع على سلطة تحت الاحتلال وعلى شرعية التمثيل ونسينا أن معركتنا وقضيتنا هي الأرض ثم الأرض ثم الأرض...والوقت يمر بسرعة البرق، وهناك فرصة بأن نستفيد ونوظف ما جرى ويجري في البلاد العربية لصالح شعبنا وقضيتنا أو أن ينقلب سلبا علينا، وهذا بأيدينا نحن فقط وليس بيد كائن من كان في هذا العالم...فهلاّ راجعنا أنـفسنا وخياراتنا منذ أوسلو حتى الآن وخرجنا برؤية مشتركة؟أسأل الله ذلك.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية