شارون.. الميراث والفشل .. بقلم : د.صالح النعامي

الخميس 16 يناير 2014

شارون.. الميراث والفشل

د.صالح النعامي

كشفت مضامين برقيات التعزية التي تلقتها الحكومة الإسرائيلية بوفاة رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون قبح وفحش النفاق العالمي، حيث أعطت مضامين هذه البرقيات والكلمات التي ألقيت في تأبينه الانطباع وكأن شارون كان زعيم حركة تحرر وطني، أو قائد ثورة انتهت باستقلال.

قادة دول العالم أطالوا في امتداح "مناقب" شارون، التي لم تكن في الواقع إلا سجلا طويلا ومخزيا من الجرائم والفظائع التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني الأعزل من أجل تكريس وجود هذا الكيان الاحتلالي، في الوقت الذي يشيطن العالم المقاومة الفلسطينية التي انطلقت من أجل نيل الحرية والاستقلال والتخلص من براثن الاحتلال الذي حاول شارون إرساء دعائمه.

إن وفاة شارون تصلح كمناسبة لمناقشة ليس فقط سجل الرجل وتاريخه، بل تمثل فرصة مهمة للوقوف على معالم التراث الذي تركه، والذي على أساسه يمكن الحكم على الكيان الصهيوني، وعلى قوى البغي العالمي التي تواطأت وما تزال معه.

الإجرام كمعيار للاصطفاء

يصعب على المرء أن يعثر في التاريخ الحديث للدول على مثال لعلاقة عمل وثيقة ويومية بين رأس دائرة صنع القرار السياسي في كيان ما وبين ضابط جيش برتبة متدنية نسبيا، حيث إن مثل هذا الضابط يكون مرتبطا بالضباط الذين يعلونه رتبة، لكن في إسرائيل كان الأمر مختلفا.

ففي مطلع خمسينيات القرن الماضي، توثقت علاقة عمل بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون وبين شارون الذي لم يكن سوى ضابط برتبة رائد، بعد أن استمع بن غوريون لشهادات تؤكد حجم التصميم الذي يبديه هذا الضابط المغمور على تنفيذ جرائمه ضد الفلسطينيين والعرب.

تجاوز بن غوريون رئيس أركانه موشيه ديان وقادة الألوية والفرق في الجيش، وأصبح يكلف شارون بشكل يومي بتنفيذ عمليات الانتقام ضد القرى الفلسطينية التي ينطلق منها منفذو العمليات الفدائية.

وبناء على تعليمات بن غوريون، نفذ شارون -الذي شكل لهذا الغرض "وحدة 101" سيئة الصيت- عمليات بشعة ضد القرى في الضفة الغربية، كانت أكثرها وحشية مجزرة "قبية " عام 1953 حيث حرص على تفخيخ المنازل وتدميرها على رؤوس قاطنيها، مما أدى إلى مقتل العشرات.

لقد تجاوز شارون تعليمات بن غوريون في كثير من الأحيان بدافع الرغبة في القتل، مما أحرج القيادة الصهيونية، لكنه في النهاية مثل النموذج المثالي، الذي طمح بن غوريون وقادة إسرائيل من بعده أن يتجسد في كل ضباط جيش الاحتلال.

إن أكثر ما يدلل على "التراث" الإجرامي البائس الذي تركه شارون لا تعكسه مجزرة "قبية" في خمسينيات القرن الماضي، ولا مجازر "صبرا وشاتيلا" عام 1982، بل الفظائع التي ارتكبها في قطاع غزة مطلع سبعينيات القرن الماضي عندما كان قائدا للمنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال.

فبصفته هذه كان شارون مسؤولا عن مواجهة عمليات الفدائيين التي انطلقت من قطاع غزة. يكفي للمرء فقط أن يستمع للشهادات التي يدلي بها المواطنون الفلسطينيون الذين عايشوا هذا الفترة في قطاع غزة، حيث إن شارون كان يأمر جنوده بأن يقضوا على كل من له علاقة بالمقاومة أو يقدم مساعدة لها أو تدور حوله الشبهات عبر قتله بسكين ياباني "مشرط" إمعانا في الوحشية.

ويقدم الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت شهادة ذات دلالة تكشف حجم السادية التي ظلت تعتمل في نفس شارون. ويؤكد بن كاسبيت أن شارون عندما سئل عن السر في إصراره على تعيين مئير دغان رئيسا لجهاز الموساد عام 2004، قال "دغان يجيد فن فصل رأس العربي عن جسده" (معاريف 21-3-2008).

لقد كان دغان في الواقع هو اليد اليمنى لشارون في تنفيذ جرائم القتل البشعة ضد المواطنين الفلسطينيين في غزة في ذلك الوقت، حيث كان يقود فرقة "ريمونيم" التي اضطلعت بدور رئيس في الجرائم التي نفذت ضد أهالي غزة.

ومن المفارقة أن قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية اختارت في فبراير/شباط 2011 دغان رجل العام، بناء على تصويت المشاهدين، حيث قال مقدم الحفل الذي أعلن فيه عن اختياره "دغان الرجل الذي ولد وسكين ياباني في فمه" في إشارة إلى طريقته "المثلى" في قتل الفلسطينيين.

وقد كان شارون هو الذي سن سياسة تدمير المنازل والطرد ضد عوائل المقاومين التي لم يكن لها أية صلة بعمليات المقاومة.

يجد المرء في شارون الكثير من أعراض المرض الذي أصيب به قادة هذا الكيان، فقد كان يتلذذ عندما يسمع أن فلسطينيا آخر قد تم اغتياله.

وقد عرضت قناة التلفزة الإسرائيلية العاشرة مساء السبت 11-1-2014 تقريرا يظهر فيه شارون وهو في سيارته ويقوم بالاتصال بشخص ما ليبشره بقتل فلسطيني آخر في غزة في غمرة انتفاضة الأقصى.

ويفيد مستشاره العسكري الجنرال موشيه كبيلينسكي أن شارون كان يفرح كثيرا عندما "يبشرونه" بقتل شخص ما في غزة.

وكرئيس وزراء في الفترة الفاصلة بين عامي 2001 و2006، أقدم الجيش الإسرائيلي على تنفيذ معظم عمليات الاغتيال، سيما الكبيرة منها، وضمنها تصفية قيادات الحركات الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، مع العلم أن المئات من المدنيين الفلسطينيين قد قتلوا في هذه العمليات.

"بلدوزر" التهويد والاستيطان

كجنرال وسياسي، دفع شارون نحو الشروع في بناء المستوطنات في قطاع غزة والضفة الغربية. وكقائد للمنطقة الجنوبية ضغط شارون على رئيسة الوزراء (وقتها) غولدا مئير للموافقة على بناء مستوطنات في القطاع، وبعد انضمامه لحكومة بيغن عام 1977 عمل على تخصيص موازنات ضخمة لدعم الاستيطان اليهودي في أرجاء الضفة الغربية.

وعلى الرغم من أنه كان عضوا في حكومة يمينية داعمة للاستيطان، فإن شارون كان لا يكتفي بالقرارات التي تتخذها الحكومة لدعم الاستيطان وتجاوزها للقيام بخطوات أكثر وأعمق.

لقد كان شارون لا يتورع عن الكذب على الحكومة للتغطية على سلوكه، الذي فاجأ حتى يمينيا متطرفا مثل بيغن نفسه، عندما تبين له أن شارون يصر على بناء مستوطنات نائية في أطراف الضفة لتعقيد فرص التسوية بشكل نهائي.

ويعتبر شارون صاحب مشروع "القدس الكبرى"، الذي هدف لزيادة عدد اليهود في القدس المحتلة إلى مليون، ومن أجل تحقيق مشروعه أقنع الملياردير اليهودي الأميركي أورفينغ ميسكوفيتش بتمويل عمليات التهويد في قلب البلدة القديمة من القدس، وهذا ما حدث بالفعل، حيث يقدم ميسكوفيتش الأموال، بينما تتولى منظمات "عطيرات كوهنيم" الدينية المتطرفة عمليات البناء.

أبو "فتية التلال"

يغفل الكثيرون عن حقيقة أن شارون -وليس أحدا غيره- هو المؤسس الفعلي لتنظيم "فتية التلال" الإرهابي، الذي يتولى تنفيذ العمليات الإرهابية حاليا في أرجاء الضفة الغربية وداخل فلسطين 48، وضمنها عمليات حرق المساجد والاعتداء على القرى، التي لم يكن آخرها حادث الاعتداء على قرية " قصرة "، بتاريخ 8 يناير/كانون الثاني الجاري.

فعندما عاد من مباحثات "واي بلانتيشين"، التي جمعت ممثلي إسرائيل والسلطة الفلسطينية، استقبله المئات من فتية المستوطنين في المطار، فما كان منه إلا أن طلب منهم أن يتوجهوا على الفور للسيطرة على تلال الضفة الغربية، لتكريس الأمر الواقع، وهذا ما حدث.

وهكذا تشكل تنظيم "فتية التلال"، الذي بدأ أنشطته من خلال بناء نقاط استيطانية فوق أراضٍ فلسطينية خاصة، وبعد ذلك استغلال هؤلاء الفتية (أصبحوا شبابا) والمستوطنات الجديدة للانطلاق في تنفيذ عمليات إرهابية ضد القرويين الفلسطينيين.

بخلاف بقية زعماء إسرائيل الذين حاولوا إخفاء الخلفية العنصرية لمواقفهم تجاه العرب، فقد كانت عنصرية شارون صريحة وفجة.

ويقول يوسي بيلين (سكرتير حكومة "الوحدة الوطنية" التي جمعت حزبي العمل والليكود عام 1984) إن شارون كوزير ورئيس حكومة كان يرفض التمييز بين العرب على أساس انتماءاتهم القُطرية، فالعرب جميعا في نظره غير جديرين بالثقة ولا يمكن تصديقهم (صحيفة إسرائيل اليوم 12-1-2014 ).

وقد رفض شارون أن يأخذ بالاعتبار ردة الفعل العربية المتوقعة على مظاهر سلوكه الاستفزازي، فقد سخر من قادة شرطة الاحتلال الذين حذروه عام 1987 من خطوته الاستفزازية للإقامة في منزل في البلدة القديمة من القدس، ولم يتمكن أحد من صده عن رغبته في تدنيس المسجد الأقصى أواخر سبتمبر/أيلول 2000، وهي الخطوة التي أشعلت شرارة انتفاضة الأقصى.

شارون قصة فشل مدوية

إن نظرة للوراء تدلل على أن نهج شارون فشل فشلا ذريعا في تحقيق رهاناته، حيث لم يفلح التقتيل والقمع في ردع الفلسطينيين عن مواصلة سعيهم في التحرر ونيل الاستقلال.

وقد تحول عناصر لواء المظليين الذين زرعوا الرعب والقتل في غزة في سبعينيات القرن الماضي إلى أهداف للمقاومة الفلسطينية في الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى، مما اضطر شارون مذعنا لتفكيك المستوطنات في غزة التي أصر على بنائها.

لقد اعتقد شارون أن الفلسطينيين يمكن أن يتحولوا إلى نسخة أخرى من الهنود الحمر في أميركا الجنوبية، الذين ذابوا وتلاشوا أمام هجمة المستعمرين الأوروبيين، لكنه اكتشف -وإن متأخرا- خطل حساباته وبؤس رهاناته.

لقد أدرك شارون محدودية تأثير القوة العسكرية في مواجهة شعب يتشبث بحقه في الحياة الكريمة، فأقر قبل شهرين من إصابته بالجلطة الدماغية أنه لا يمكن لإسرائيل مواصلة احتلال شعب آخر، وأنها مطالبة بإحداث تغيير في نمط سلوكها مع الشعب الفلسطيني.

إن ما تقدم يدلل على أهمية تشبث الفلسطينيين بحقهم في مقاومة الاحتلال والتصدي له، هذا النمط من السلوك كفيل ليس فقط بتحرير الأرض والإنسان، وإنما أيضا إقناع قادة الكيان الصهيوني بأنه يستحيل أن يتطبع الفلسطينيون مع واقع الاحتلال.

ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن التشبث بالمقاومة يثير إعجاب قادة الصهاينة وإن لم يكن يصرحوا بذلك في العلن، وقد ذم شارون يوما محمود عباس فقال إنه "الرجل الذي لم يقتل في حياته قط".
جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية