لمى خاطر
ما زلتُ أراه متمدداً في كلّ تفاصيلنا الكبيرة والصغيرة ومعلّقاً على أهداب حزننا غير المرئي؛ وأراقبه وهو يمكث في نفوسنا كما يطيل بقاءه في أرضنا، ويمعن في تجريد عزائمنا من بقايا عنفوانها، ويتسلق القامات المتعبة، ويعشعش في زوايا القلوب المنكسرة أمام شراسة حضوره!
يعود حين يرحل الرصاص، وتحلّ لغته وثقافته مكان تلك الساطعة تمرّدا.. يدهشنا بقدرته على الفتك بطموحنا وتقزيم حلمنا ومصادرة آمالنا، وندهشه حين نستبقيه بقدر ما يسكن سواعدنا من وهن، وما تعجّ به آفاقنا من ضباب!
إنه عام الرمادة الفلسطيني؛ لا يغزو الأرض المحتلة مرة في العمر وحسب، ولا يكتفي بعام واحد فقط، بل يجدد نفسه مع كل إيماءة للهوان، وكل انصراف عن همّ التحرير، وكل زهد بالضياء.. إنه صورة استكانتنا النفسية قبل أن يكون مرحلة مأزومة تقتات على صبرنا وتنهش صمودنا، وهو مرآة البنادق الخاوية من الرصاص، وصدى الهتاف غير الغاضب، ولون الملامح غير الأصيلة!
إنه احتباس الغيث، وعويل غيومه المثقلة حين تجوب الديار المقيّدة بالجدب ولا تظفر بساحة تنهمر عليها، وهو جهلنا بحاجتنا لتجدد الغيث حتى وإن كانت آبارنا طافحة بمياه أعوام خلت، وحتى وإن استشعرنا غياب الظمأ عن عروقنا.
في عام الرمادة الفلسطيني الذي تجاوز الثلاثمئة وخمسة وستين يوما؛ تجمد الدم في عروق الجياد، فتحوّلت عن مهمتها الأولى وصارت تزيّن الساحات وتتبختر في المناسبات غير الوطنية، بعد أن اعتلاها اللصوص وجيّروا صهيلها لينطق بغير لغة ضادها الأصيلة، وما عاد الرائي اختلاط المشهد من بعيد قادراً على تمييز مفرداته وعناصر صورته، فتهيّب من الاقتراب وظلّ منشغلاً بحاله، وامتهن الهجاء كما غيره من الجالسين في مقاعد المراقبة!
أن يكون عندنا يقين بانتهاء عام الرمادة يعني أن يكون لدينا جمر مشتعل تحت الرماد، ينتظر ساعة الولادة لينير المساحات الغائمة ويلسع الضمائر الباردة.. ويعني أن نراهن على الجياد الرابحة التي ما سوّد الهوان مواضع تحجيلها، ولا أطلقت ساقيها للريح يوم طلبها الميدان وصنع لها لجاماً من إقدام.. ويعني أن نستعيد حلمنا من مخابئه المثقوبة، وأن نهذي به في كلّ حين، وألا نسمح لأعداء الكرامة بتليين سيفه أو تطويع هامته أو استلاب إرادته.. ويعني ألا نكلّ من التنقيب عن معادننا الأصيلة، وألا ننخدع بالزائف منها أو نتخذه رمزاً لأي موقف، ويعني أن نقتصد في جدال دقات الحرب حين تطرق أبواب ركوننا إلى الحياة، وألا نردّها خائبة إذا ما حان موعد ما هو مستحقّ علينا من زكاة أعمارنا وراحتنا، بعد اكتمال نصابها!
إلى أن ينحسر عام الرمادة الطويل هذا؛ لا بد من إعداد العدة لاستقبال ما يليه من رخاء، لأنه رخاء ذو ثمن، فقوامه العزائم وزاد دوامه الإصرار، وملامحه مروءة وتفانٍ وانبعاث من غيابة الجب، نحو آفاق الانطلاق وأجواء اليقين بدنوّ ساعة الإشراق الأخيرة، ونصر الله غير المؤجل
إلى أن ينحسر عام الرمادة الطويل هذا؛ لا بد من إعداد العدة لاستقبال ما يليه من رخاء، لأنه رخاء ذو ثمن، فقوامه العزائم وزاد دوامه الإصرار، وملامحه مروءة وتفانٍ وانبعاث من غيابة الجب، نحو آفاق الانطلاق وأجواء اليقين بدنوّ ساعة الإشراق الأخيرة، ونصر الله غير المؤجل
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية