علي حسن الجابر.. في الخالدين
خير المطالع تسليم على الشهدا أزكى الصلاة على أرواحهم أبدا
فلتنحن إلهاماً إجلالاً وتكرمة لكل حر عن الأوطان مات فدى
وهكذا ننشد قصيد الشعر الواثب للأجيال مع الشاعر القروي سليم الخوري الذي حباه الله آخر حياته التعرف على حقيقة الإسلام فدخل فيه سراً قبل أن يموت وكان قد أكد ذلك شيخنا العالم المربي محمد المبارك عميد كلية الشريعة في دمشق آنذاك في حديث له مع الشاعر الكبير، أجل إنه من أبرع الاستهلال ما أتى به فيض القريض في شأن الشهداء لأنهم بلا ريب أكرم منا جميعاً، وكيف لا وهم مهوى تنزل الملائكة على أرواحهم التي تصعد لخير لقاء كما ذكر أبو عبد الله محمد الحنبلي في كتابه تسلية أهل المصائب "305-306"، حيث إن الله مع ملائكته يشهدون لهم بالجنة لأنهم قاموا بشهادة الحق حتى قتلوا ولأنهم يشهدون ما أعد الله لهم من الكرامة بالقتل ولسقوطهم على الأرض التي تشهد لهم ويشهد دمهم على ذلك أقول ولعل أخانا وحبيبنا بل حبيب الملايين اليوم ممن رزقهم الله هذا الحظ السعيد فاتخذهم واختارهم إلى جواره في الخالدين (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)، "آل عمران: 169"، فيا سعادته بما يلقى من فضل هذه الشهادة عند ربه تعالى، جاء في صحيح البخاري "رقم 1037" قول رسول الله : "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة".
ويكفيه مرافقة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين في نعيم الجنة، كما أنه يشفع في سبعين من أهل بيته كما جاء عن رسول الله وخرجه أبو داود في سننه "2/479"، فهنيئاً لك أخي الأثير الصالح علي حسن الجابر هذه البشائر من الله ورسوله.
وأقول للقراء الكرام إن هذا الرجل كان في حياته سليم النية والطوية والفطرة النقية من جلس معه أحبه ومن عاشره عشق صحبته، وقد لمست هذا حقا إذ كانت معرفتي به رحمه الله هنا في الدوحة لدى حضورنا أحد المؤتمرات الثقافية وكنت قد علقت على حديث أحد المحاضرين في فعاليات المؤتمر، ولدى جلوسنا على الغداء بعد ذلك تعرفت عليه وسألته عن عمله فقال إنه مصور فقلت هل أنت تعمل في هذا العمل فعلا إذ تخيلت أن المصورين غالبا ما يكونون في مقتبل العمر لا في الخمسينيات قال أجل إنني والله أحب هذه المهنة لأوثق الحقائق وأنقل للمشاهدين ما تعكسه الصورة بأمانة في أي ميدان نبيل كانت، قلت إذن أنت على ثغرة من ثغرات الإسلام بارك الله فيك، والذي كنت أشعر به حيال هذا الإنسان المتواضع البسيط الفكه منذ ذلك الوقت أنه من محبي خدمة الدين والحقيقة والكرامة وأن عنده تقدما ومبادأة ومبادرة ربما لا تكون عند سواه من المصورين وهو بصمته أقوى منه تأثيرا فهو صاحب حال لا مقال، كما يقولون وكم نحن بأمس الحاجة إلى مثل هؤلاء الرجال، لقد دخلت إلى بيتي أمس بعد العشاء وإذا بقناة الجزيرة تبث خبر استشهاد مصور وجرح آخر ثم أعيد الخبر مع الصورة فإذا به حبيبنا السيد علي حسن الجابر وصديقه ناصر الهدار الذي جرح، كان علي رئيساً لقسم التصوير في القناة وشاءت إرادة الله تعالى أن يقضى في الميدان الليبي، حيث الصراع بين معسكر الحق والباطل، لقد هب رحمه الله نصرة لإخوانه في ليبيا المكلومة وما يدري وهو يحمل الكاميرا أو يحركها أن القدر منه على مسافة قريبة ولكن حس الشهيد يتكلم فقد ذكر مرافقوه أنه قبل تعرضهم للكمين الغادر من كتائب القذافي كان يقول لهم: لا تخافوا اطمأنوا ويمكن أن نموت في كل مكان أجل كما قال تعالى (وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)، "لقمان: 34".
لقد اختلطت دماء شهيد مسلم قطري بدماء الشهداء الليبيين، وعلى أرضهم تلك فما أقواها من وشيجة وما أكرمها من خلة عند الله والمؤمنين من كان يدري أن عشرات الآلاف في ليبيا يشيعون علي الجابر ومن كان يدري أنه سيكون من المصطفين الأخيار بهذه الميتة الشريفة في خضم الثورة والثوار، وأن أحرار العالم من كل مكان، فضلاً عن بلده قطر أخذوا يؤدون حق العزاء، والله إن للشهيد منزلة لا يعلم قيمتها إلا الله تعالى وعلى سبيل المثال فقد أطلقت جامعة عمر المختار في ليبيا اسم علي على رواقها ومدرجها الخاص بالمؤتمرات.
إن هذا التفاعل الفريد من إخوتنا هناك والذي ضجت به الحناجر بعد القلوب تأثراً على الفقيد واستنكاراً لهذا الاعتداء الإجرامي الغادر لموقف لا يستطيع التاريخ أن يمحوه من الذاكرة أبداً حقاً لقد تقدم مصورنا علي العلي والحسن والجابر ليقول لكل حر هذا هو الطريق مفروش بالشوك والعوسج والدم لا الورود والزهور فتقدموا واصنعوا الثورة ضد الظالمين كما حرض عمر أبو ريشة:
تقضي البطولة أن نمد جسومنا جسراً فقل لرفاقنا أن يعبروا
أليس الجود بالنفس أقصى غاية الجود وهكذا فإن المجد لا يبنى إلا على رؤوس الضحايا وإن أرواح الشهداء تباركنا وتنعش أرواحنا وتقوينا على الجهاد كما قال كاريل إن اسمك يا علي قد غدا أخلد الأسماء لأنك عرفت حقاً أن أول عناوين الفضيلة التضحية بالنفس كما قال أهل الحكمة، لقد ضحيت من قبل فلم تدع ميدان صراع ونزال في بلاد العرب والمسلمين إلا وثبت إليه معطياً للإعلام دوره في الحياة وتنازع البقاء كنت صاحب واجب لا وظيفة ولا رزق عيش أديت الرسالة وحفظت الأمانة في أفغانستان في البوسنة والهرسك في حرب الكويت في غزة وها أنت فارس تترجل ثم تتمدد شهيداً في أرض عمر المختار الذي علمنا أننا لا نستسلم وننتصر أو نموت وعلمنا كذلك أن من أخذ الناس بالمكر كوفئ بالغدر طالباً منا أن نقتص من هؤلاء المجرمين الضالين، لقد شاء الله لك أن تزور مدينة صغيرة اسمها سنوب فيها ضريح عمر المختار لتغطية أحداث مظاهرات مؤيدة للثوار هناك، ولدى العودة مع رفاق الدرب كان الكمين وهبت رياح الجنة عليك كما هبت من قبل على عمر المختار وصحبه، رحمك الله يا علي فقد كنت مدرسة أخلاق كاملة في السلم والحرب خدمت الأمة وسرت في الطريق الصحيح غير مكترث بالمخاطر فالإخلاص رائدك الأول نصرا لمبدأ واجبك الأصيل، وكما قال مرافقك مراسل قناة الجزيرة الذي كان برفقتك في بنغازي بيبه ولد أمهادي إن استشهادك نصر على القذافي وزبانيته وكل من يريد إخفاء الحقيقة، إن دمك لن يذهب هباء وستنتقل بسمتك العذبة إلى وجوه الملايين وكما تغلغلت جوالات الهواتف باسمك ستدخل قلوب الملايين أيها الحبيب الغائب لقد مررت في الدنيا ولم تذهب وإن الكاميرا التي حملتها وحركتها في العالم رسمت الحق الذي لا يوجد إلا فيها كأخيك الشهيد طارق أيوب رحمه الله وغيره، أما صاحبنا العقيد الذي يظن أنه يركب الشعب إلى يوم القيامة ولا يشيخ وأنه سيدفنهم قبل أن يدفنوه، فإلى زوال.. إلى زوال.. إلى زوال
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية