عَوْدة إلى الجدار الحديدي
خيري منصور
حين أصدر أفي شلايم كتابه الشهير والفاضح للعزلة الصهيونية بعنوان "الجدار الحديدي" ووجه باستنكار من العناصر الراديكالية والليكود، لكنه أيضاً وجد صدى لا بأس به لدى من يعترفون من اليهود بأن الصهيونية حولت الدولة العبرية إلى غيتو من طراز جديد، ومنذ ذلك السجال لم ينقطع بعض المثقفين اليهود عن الإلحاح الدرامي على موضوع العزلة، لهذا لا يشذ ما كتبه ناتي شاروني في "معاريف" وهو لواء احتياط عن تلك القاعدة أو ما تحول بمرور الوقت وترسيخ مفاهيم العزلة إلى قاعدة.
وما جاء على لسان ناتي شاروني ليس اعترافاً فقط بالعزلة التي تعيشها تل أبيب على الصعيد السياسي، إنه إدانة لحكومة متطرفة أوصدت الأبواب والنوافذ معاً فشح الهواء في دولة تعيش داخل علبة حديدية، ويبدو أن استراتيجية تصدير الأزمات قد انتهت إلى تكرار عقيم، ولم يعد الوتر الأمني وحده وسياسة الترويع من العرب والمسلمين يستجيب برشاقة للأصابع التي تعزف عليه.
وحسب الكثير من التعليقات التي تنشر في الصحف العبرية عن أزمة نتنياهو الداخلية، فإن افتعاله لحرب أو اجتياح لقطاع غزة مثلاً، لن يكون سوى محاولة يائسة للهروب إلى أمام لأن من شأن أي فرار كهذا أن يضاعف من العزلة الدولية، وبالتالي ترسيخ الصورة القبيحة للاحتلال، فقد بلغ الأمر ببعض المثقفين اليهود حداً يعتبر تحولاً نوعياً في وعي الصراع العربي الصهيوني، وهناك كتّاب مثل عكيفا الدار يرون أن من يعاني من الاحتلال هو اليهودي الأسير في المشروع الصهيوني، فهو يجد نفسه بعد أكثر من ستة عقود حائراً ومحاصراً بأسئلة وجودية أكثر مما هي سياسية حول مستقبل أبنائه. فالدولة التي تحولت بسبب فائض الخوف والإفراط في استخدام الأمن إلى ثكنة واسعة أو مستوطنة كبرى، لن تكون حاضنة نموذجية لأجيال من اليهود، لأنها حولت الخوف إلى ميراث ولشدة ما حذرت اليهود منه، أصبحوا يعانون من خوف آخر هو الخوف من أن يخافوا، وهذا ما عبرت عنه روائياً الكاتبة يائيل دايان في روايتها "طوبى للخائفين".
لكن العزلة التي تزداد كما يصفها "ناتي" لن تتوقف عند حدود معالجة الخطأ بالخطيئة بل سينعدم معها الأفق، ويتفاقم الشعور بالقلق والحيرة إزاء سياسة من طراز إسبارطي عجيب، تعالج الخوف بالهلع والذعر وتعالج العزلة بمزيد من الجدران.
فالأزمات المحلية في الدولة الصهيونية لم تعد قابلة للانفراج ولو مؤقتاً من خلال التصدير أو افتعال حروب واجتياحات خصوصاً بعد أن فقدت تل أبيب ما كانت تتصور أنه بوليصة تأمين ضد الهزيمة سواء في لبنان أو غزة.
لقد سعت حكومة نتنياهو الحالم بريادة ثانية للصهيونية إلى تجميل صورتها في العالم، لكنها سرعان ما عادت إلى قواعدها غير سالمة على الإطلاق، لأنها رأت بأم العين أن صورتها شائهة، وأنها باتت تقترن بآخر احتلال في عالمنا، والدول على اختلاف أنماطها قد تضطر إلى التحول إلى ثكنات لبعض الوقت ولأسباب قاهرة، لكن أن تتحول دولة بكل مكوناتها وشرائحها إلى ثكنة فذلك أمر لابد أن يوصلها إلى أفق مسدود لأنها رهينة أيديولوجيا تحكمها الخرافة، ولا تتغذى من التاريخ أو ترتكز عليه، والمفارقة أن تسليحها بسخاء والانحياز إليها بقوة، كما تفعل الولايات المتحدة قد يكون دفعاً لها إلى الوراء والتقهقر، بحيث تنتحر بما أعدته لنحر الآخرين.
إن الكلام عن عزلة تل أبيب دولياً لم يعد مقتصراً على مقالة هنا أو تعليق هناك فهو الآن مناخ مبثوث في الأجواء، ومن لا يعترف بهذه العزلة صراحة يوحي بها، لأن تجاهلها لم يعد ممكناً، والدولة التي وصفها شلومو برايخ بأنها تركض من نصر عسكري إلى آخر نحو هزيمتها هي ذاتها التي تحاول معالجة الخطأ بالخطيئة.
صحيفة الخليج الإماراتية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية