فارس عربي ترجل
عوني فرسخ
شيعت العاصمة الأردنية عمان في جنازة شعبية مهيبة جثمان المناضل الكبير بهجت أبو غربية بعد أن بلغ الخامسة والتسعين. ولقد شب في بيئة متدينة كان لها تأثيرها به. فهو يقول في مقدمة مذكراته: "كان الدين الإسلامي من أكبر المقومات التي بنيت عليها شخصيتي وتركيبي الذهني والنفسي من الناحيتين الأخلاقية والنضالية".
وحين بلغ التاسعة التحق بفريق الكشافة ليشارك بمخيمات كشفية عدة، ما أكسبه خبرات ومهارات قيّمة، كالصبر في الشدائد، والاعتماد على النفس، والروح القيادية. كما اعتاد منذ صغره ممارسة الألعاب الرياضية، فيما كان للأناشيد الوطنية آثار ملموسة في تربية جيله وشحن نفوسهم بروح قومية تحرّرية.
وفي العام 1934 شكّل ورفاقه في القدس مجموعة ثورية مسلحة، وعلى مدى السبع والسبعين سنة التالية كان فارساً في ميدان الكفاح المسلح والنضال السياسي. وشغل مناصب قيادية في العمل الوطني. ففي ربيع العام 1936، شارك صديق صباه سامي إبراهيم الأنصاري في اغتيال قائد شرطة القدس آلن سيكرست، شديد العداء للعرب، حيث استشهد صاحبه.
وبتفجر الثورة التحق عدد من عناصر المجموعة بالثوار في الجبال وبقي وآخرون في القدس يتابعون نشاطهم ضد الإنجليز والمستوطنين الصهاينة. وحين قدم القاوقجي من العراق يرافقه مئتا مناضل من العراق وسوريا وشرقي الأردن التحق بقوات القاوقجي، وراح يتنقل معها في قرى مثلث نابلس وطولكرم وجنين، وظل مقاتلاً في الثورة حتى انحسارها العام 1939.
وعندما شكل تنظيم "الجهاد المقدس" بقيادة عبدالقادر الحسيني في ديسمبر/كانون الأول 1947، كلف قيادة القطاع الشمالي من مدينة القدس، ويذكر له دوره في الدفاع عن البلدة القديمة، والحيلولة دون سقوطها في مايو/أيار 1948 برغم توالي هجمات الهاغاناه لاقتحامها.
وحين عهد مؤتمر القمة العربي الأول لأحمد الشقيري بتشكيل كيان فلسطيني، كان بهجت أبو غربية من أوائل المختارين لعضوية المجلس الوطني الفلسطيني الأول في ربيع 1964، وأسهم في صياغة الميثاق القومي "لمنظمة التحرير الفلسطينية"، كما اختير لعضوية "اللجنة التنفيذية" الأولى.
ومنذ العام 1949، وعلى مدى السنوات التالية كان الفارس الراحل فاعلاً نشطاً في الحراك الوطني الأردني، بل وغدا مرجعاً وطنياً يستشار ويؤخذ برأيه، لما عرف به من موضوعية ووضوح رؤية والتزام قومي. فضلاً عن تميزه بالانفتاح الواعي على مختلف ألوان الطيف السياسي الوطني مع التزامه الواضح بالفكر والعمل القومي العربي. ولم تفسده السياسة في ما أفسدت بعد احتلال الثروة المقام الذي كان للثورة في خمسينات وستينات القرن العشرين.
وبقي يعتاش من كسب يمينه متخذاً من "مطبعة التوفيق" مصدراً للكسب غير المستغل. وحين قرر التقاعد في السنوات الأخيرة من عمره تنازل لشريكه في المطبعة عن حصته فيها من دون مقابل. وكل من قدر له وزار بيته المتواضع في ضاحية "طبربور"، يدرك كيف أنه لم تشغله شؤونه الخاصة عن الشأن العام.
ولقد أثرى المكتبة العربية بمذكرات كانت وبحق شهادة مناضل ومثقف موضوعي على العطاء الوطني الفلسطيني، والإسهام الرسمي والشعبي العربي، في صراع الأمة الممتد مع الإمبريالية وأداتها الصهيونية. ففي الجزء الأول، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية سنة 1993 بعنوان: "في خضم النضال العربي الفلسطيني"، أرّخَ لسنوات 1916 – 1949، وفي الجزء الثاني الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2004 بعنوان "من النكبة إلى الانتفاضة" أرّخ لسنوات 1949 - 2000. ومن شهادة فارس فلسطين وشيخ مناضليها، أقف في ذكراه العطرة مع موقفين:
* الأول، عندما تفجرت انتفاضة البراق سنة 1929 شهدت مدينة الخليل الصدام الأكثر دموية. وهو يذكر: "إن هجوم الأهالي على الحي اليهودي استهدف الصهاينة، أما اليهود القدامى فقد أجارهم جيرانهم العرب وحموهم في بيوتهم. وهذا ما لم تذكره سلطة الانتداب والوكالة اليهودية اللتان غالتا في اتهام مواطني الخليل بالعنصرية والبربرية".
* الثاني، أمام إدراكه عجز قواته المحدودة العدد والعتاد عن حماية حي المصرارة، وتحسباً من اتهامه مستقبلاً بالتقصير، تقدم باستقالته من الجهاد المقدس. وبعدها توجه لبيرزيت لمقابلة عبدالقادر الحسيني الذي بادره قائلاً: "يا أخي بهجت دول العالم الكبرى وافقت على التقسيم الذي هو في حقيقته قرار بإقامة دولة يهودية صهيونية توسعية على أرض فلسطين. والحكومات العربية وافقت على ذلك سراً، وإذا دخلت جيوشها فلسطين فستقف عند حدود التقسيم، وستفرض السيطرة على جيوشها، مع أن الضباط والجنود العرب على استعداد للموت فداء فلسطين. أما نحن فهم لا يستطيعون السيطرة علينا ولذلك يمنعون عنا السلاح والعتاد. ليست القضية قضية التقسيم، القضية قضية إقامة قاعدة صهيونية لدولة عنصرية استيطانية توسعية من الفرات إلى النيل. إنهم يعلنون أنهم سيرحلون 240 ألف عربي من الجليل وحده. ولن نستسلم لهذا المخطط الاستعماري الصهيوني. سنقاتل دفاعاً عن بلادنا حتى الموت مهما قل السلاح والعتاد، ونحمي من خلفنا البلاد العربية وننبههم لخطورة الهجمة الصهيونية الأمريكية عليهم".
وبعد شهر ونصف الشهر استشهد عبدالقادر الحسيني بعد أن رفضت اللجنة العسكرية لجامعة الدول العربية ومركزها آنذاك دمشق، تزويده بالسلاح الذي طلبه ليحسم معركة القدس، وعاش الفارس ليقدم شهادة حق للأجيال من بعده.
صحيفة الخليج الإماراتية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية