فلسطين أمام ربيع العرب وساعة الحقيقة
د. أحمد القديدي
ما من شك في أن التحولات العربية الكبرى منذ يناير 2011 تقض أول ما تقض مضاجع حكام "إسرائيل" لأن الخارطة السياسية للشرق الأوسط باتت تتغير بعمق وسرعة بفضل عودة إرادة الأمة للفعل والتاريخ. ولم يبق عائق أمام انتصار الحق على الباطل سوى الشقاق الأخوي الفلسطيني الداخلي ولا نحسب إلا أنه يسير نحو الحل.
من أي منظور قيمنا الصراع المصيري بين الحق العربي والعدوان الإسرائيلي فلابد من الاعتراف بأنه يشكل المواجهة المصيرية الأكثر حسماً للصراع الدائر في المنطقة منذ ما يقارب القرن. فهو يضع العرب أولاً و بقوة أمام تحدي البقاء أو الفناء، لأن العرب بلغوا اليوم وعبر هذه المعضلة ما يطلق عليه ساعة الحقيقة، فلم يعد من اليسير الهروب إلى الحجج الواهية التي لم تعد تقنع أحداً مثل خيارنا هو السلام أو سنعترف ب"إسرائيل" إذا ما وإذا ما....!
لأن العدوان فاق كل درجات الاحتمال بالنسبة للشعوب العربية وهذه الشعوب بفضل ربيعها تختلف عما كانت عليه عام 1948 إبان النكبة وعام 1956 إبان العدوان الثلاثي وعام 1967 موعد العرب مع الهزيمة وعام 1973 عندما حقق العرب نصف انتصار برفع راية الإسلام وعام 1982 حين واجه لبنان الغزو من أجل محو المقاومة الفلسطينية من الخارطة وعام 2006 حين تعرض لبنان لهجمة رهيبة وعام 2008 - 2009 حين تم تدمير غزة الصامدة، لأن الأمة تعيش ككل أمة في الألفية الثالثة وتتأثر بوسائل الاتصال الراهنة وبشكل مباشر ومتطور.
ثم يأتي التحدي الثاني للعدوان البغيض ليضع الشعب اليهودي الموزع في شتى أصقاع العالم لا الأربعة ملايين يهودي المقيمين في "إسرائيل" فقط أمام مراجعة قاسية واستعجالية لمستقبل "إسرائيل" ذات المواصفات الفريدة والاستثنائية بين الدول، من حيث أنها تأسست على الإرهاب منذ قتلت عصابات الصهيونية المتطرفة اللورد موين في القاهرة عام 1944 بعد أن عينته الحكومة البريطانية مسؤولاً عن الملف الفلسطيني عام 1941 فشكك في إمكانية تطبيق وعد بلفور على حساب الشعب العربي في فلسطين، بل واقترح إنشاء كيان يهودي في أوروبا المسؤولة وحدها عن محنة اليهود. ثم اغتالت عصابات الهاغانا الكونت برنادوت مبعوث الأمم المتحدة إلى فلسطين عام 1948 وفجرت عصابة شتيرن فندق الملك داوود في القدس على رؤوس الضباط البريطانيين المائة والعشرين في نفس العام. ثم بدأت سلسلة المذابح في فلسطين من دير ياسين إلى بئر السبع إلى قانا وصبرا وشتيلا إلى اليوم. أما الحقيقة الثالثة في مواجهة المصير فهي وضع العالم بأسره أمام الواقع كما هو لا أمام التزييف الإعلامي والتزويق الدبلوماسي للصراع الفلسطيني - العربي مع همجية دولة خارجة عن القانون وليس لديها من حلول سوى منطق التدمير والإبادة والترويع.
هذه المواجهات هي التي تجعل القضية تتحرك نحو حلول أخرى مختلفة عن الحلول الجزئية والمتحيزة التي رسمت لها الولايات المتحدة خارطة طريق مسدودة! والتي أعلنت إدارات واشنطن المتعاقبة أنها لا تقوم إلا بعد إنهاء كل نفس مقاوم لهذه الخارطة الأميركية وبلا شروط وبالقوة العسكرية فحسب! وهو ما جعل الصراع العربي الإسرائيلي يتحول بسرعة إلى مواجهة قوة استراتيجية وإعلامية غربية عظمى هي التي تحرك سياسات "إسرائيل" وتحدد لها الأهداف وتسكت عن الاستيطان والترهيب من إيزنهاور إلى أوباما..
فقد أحدثت همجية "إسرائيل" رجة في الضمير اليهودي ذاته وأصبح كثير من كبار المفكرين اليهود يراجعون حساباتهم ويفصحون عن خوفهم الحقيقي على مصير اليهود في "إسرائيل"، فقد اشترك أشهر المثقفين اليهود في التوقيع على بيان قوي اللهجة صادق العبارة يتهم "إسرائيل" بتدمير نفسها حين تقوم برفض السلام وتقويض فرصه الضائعة وتكلموا عن المغامرة التي يرونها في جانب "إسرائيل" وهم ليسوا عرباً ولا هم من حزب الله ولا من حماس بل هم مشاهير اليهود.
كان أخر من ندد ب"إسرائيل" المفكر والدبلوماسي اليهودي الفرنسي ستيفان هيسيل وقبله ناحوم شومسكي عالم الألسنية وهارولد بينتر الكاتب الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2005 وجوزي ساراماجو الكاتب الحائز على جائزة نوبل لعام 1998 وندد هؤلاء الكتاب الكبار بمواقف الولايات المتحدة والغرب في الكيل بمكيالين في التعامل مع القضية، بل وبلغوا حد التنديد بما سموه إرادة جلية إسرائيلية لإبادة الشعب الفلسطيني في مناخ من عدم العقاب أو المساءلة!
وفي نفس السياق وعلى صحيفة ليبراسيون الفرنسية اليسارية أصدرت مجموعة يهودية من المثقفين الفرنسيين بياناً تحت شعار (كفاية) ومن بينهم المؤرخ بيار فيدال ناكي وأساتذة الجامعات ايتيان باليبار وسوزان سيترون و ستيفان هيسيل وهنري كورن وأبراهام سيجال وجيل منسورون يقولون فيه: "كفاية تقتيلاً للأبرياء كفاية الاعتماد على القوة كفاية اغتيالات الناشطين كفاية أسر أعضاء حكومة منتخبة كفاية قصف المولدات الكهربائية كفاية تجويع شعبي القطاع ولبنان كفاية جنون الحرب والإبادة باسم دولة "إسرائيل" كفاية شن حرب بالوكالة عن واشنطن التي تريد تحت دعوى إنقاذ "إسرائيل" توسيع الحرب إلى مهاجمة إيران وسوريا من أجل حساباتها الخاصة ومصالحها الأميركية. هكذا تكلم اليهود وكما تلاحظون فإنهم أكثر تنديداً ب"إسرائيل" من بعض أبناء جلدتنا العرب الذين ينعتون أنفسهم بالواقعيين والعقلانيين!
ومن جهة أخرى كتب المرشح للرئاسة الفرنسية جاك شوميناد افتتاحية أسبوعية حزبه (نوفل سوليداريتي) يقول: يجب على العالم أن يفرض وقف العدوان الإسرائيلي الذي تستخدمه الأوساط الامبريالية الأنجلو أميركية لتصفية حساباتها في الشرق الأوسط وهي الأوساط المحافظة المتطرفة التي تعتبر الحكومة الإسرائيلية كالمجنون المصاب بغريزة الدم والتدمير". نعم هكذا تكلم سياسي فرنسي وهو ليس لا كلام أيمن الظواهري ولا كلام الشيخ حسن نصر الله بل نطق به زعيم حزب سياسي ترشح لرئاسة الجمهورية الفرنسية عام 1995 كما سيترشح عام 2012!
كاتب وسياسي تونسي
صحيفة الوطن العمانية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية