في نقض الرواية الصهيونية للنكبة الفلسطينية
ياسين عز الدين
يقولون إن المنتصر يكتب التاريخ، بمعنى أن روايته لما حصل هي التي تسود وتنتشر بين الناس بمن فيهم المهزومين، وهذا ينطبق إلى حدٍّ كبير على التاريخ الفلسطيني المعاصر وبالتحديد حرب سنة 1948، نكبة فلسطين.
تقول الرواية الصهيونية إن سبعة جيوش عربية (مصر وسورية والأردن والعراق ولبنان والسعودية وجيش الإنقاذ) بكامل عتادها وعدتها قررت الهجوم على الدولة الصهيونية الوليدة وحاولت سحقها، وطلبت من الفلسطينيين أن يتركوا منازلهم لكي يمهدوا للعمليات العسكرية، فانقلب "عدوانهم" على الكيان الصهيوني الوليد والضعيف هزيمة نكراء، وهرب أغلب الفلسطينيين من بيوتهم خوفاً وجزعاً واستجابة لطلب قادة الجيوش العربية.
ويهدف الصهاينة من هذه الرواية تبرئة أنفسهم؛ فهم لم يطردوا أحداً من مكانه ولم يرتكبوا إلا بضع مجازر معدودة على اليد الواحدة لإخافة الآخرين، وأيضاً ليقولوا أنهم انتصروا بالرغم من ضعف عددهم وعدتهم، وهذا دليل على التأييد السماوي لهم ولمشروعهم، وهنالك جانب آخر وهو تأكيدهم على دونية العرب الذين مهما تفوقوا بالعدد والعدة فإنهم لن يستفيدوا من ذلك، ولن يهزموا الصهاينة أبداً.
وبكل أسف تبنى الكثير من العرب والفلسطينيين الرواية الصهيونية على علاتها وبكل ما فيها من تناقضات وأكاذيب فجة، واختلفوا عن الصهاينة فقط في تفسير سبب الهزيمة والنكبة فنسبوها إلى خيانة القادة العرب، وإن كنت أتفق معهم في وجود قيادات كثيرة تنطبق عليها هذه الصفة، إلا أن هذا التفسير يحمل الكثير من خداع الذات.
فالعرب لم يريدوا الاعتراف بأنهم هزموا وأحبوا قصة أنهم كانوا أقوياء لولا فلان وعلان من القادة، فالشعور بالضعف والعجز غير مرغوب، ففضلوا خداع ذاتهم، وكما يقولون الانتصار له ألف أب، والهزيمة لا أب لها، فهكذا حرص العرب جميعاً على إلقاء المسؤولية على حفنة من المسؤولين العرب كانوا بمثابة كبش فداء وعلى رأسهم الملك عبد الله الأول والذي اغتيل لاحقاً بسبب دوره في هزيمة حرب سنة 1948.
وأطيح بأغلب الأنظمة التي تسببت بالهزيمة وأزيح الأفراد الذين اتهموا بالخيانة، لكن لم ننتصر على الكيان الصهيوني، بل ازداد الكيان قوةً أضعافاً مضاعفة، وتلت النكبة نكسة ونكسات عديدة، وذلك لأننا لم نفهم طبيعة ما حصل في النكبة، وفضلنا تصديق أكذوبة أن كلّ شيء كان على ما يرام والانتصارات تتوالى لولا خيانة بعض القادة العرب.
ولذا أسعى هنا لتوضيح عدة حقائق معروفة للمؤرخين تنقض الرواية التاريخية الصهيونية، وترسم لنا صورة أكثر دقة لما حصل في حرب سنة 1948 وما يعرف بنكبة فلسطين.
أولاً: الحرب لم تبدأ في 15/5/1948:
لعل الشائع بين الناس أن الحرب بدأت في هذا التاريخ وهو تاريخ انتهاء الانتداب، أي الاحتلال البريطاني ودخول الجيوش العربية، إلا أن الواقع يؤكد بأن الحرب بدأت قبل هذا التاريخ بكثير.
يعود التحضير لهذه الحرب إلى بداية العشرينيات من القرن الماضي، بداية الاحتلال البريطاني، حيث نقرأ لجابوتنسكي وهو يبشر بالخيار المسلح ضدّ الشعب الفلسطيني في مقالته الشهيرة "الجدار الحديدي نحن والعرب" سنة 1923.
ووجدنا الجماعات الصهيونية تحرص على إدخال السلاح وتخزينه منذ العشرينيات، ولعل إحدى الأحداث التي نبهت الشهيد عزّ الدين القسام للخطر الصهيوني هو انكشاف براميل متفجرات كان الصهاينة يحاولون تهريبها عبر ميناء حيفا.
وعمل البريطانيون على توفير الغطاء للتسلح الصهيوني من خلال حرس المستعمرات، كما أنشأوا الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني، وقد حارب في الحرب العالمية الثانية واكتسب المقاتلون فيه الخبرة والتدريب الكافي لينضموا لاحقاً إلى العصابات الصهيونية في فلسطين.
فما إن جاءت سنة 1947 إلا والصهاينة يملكون ترسانة كبيرة من الأسلحة برعاية وتواطؤ بريطانيا، في حين أن الفلسطيني كان ممنوع من امتلاك السلاح، وكان يحكم عليه بالإعدام لو ضبط بحوزته أيّ قطعة سلاح، وقد قمعت بشدة قبل ذلك بسنوات قليلة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) حيث قتل أو أعدم أغلب قادة الثوار، مثل عبد الرحيم الحاج محمد والشيخ فرحان السعدي ويوسف أبو درة.
فيما لم يكن حال القيادة السياسية الفلسطينية بأفضل حالاً حيث كان الحاج أمين الحسيني يعيش في المنافى منذ سنة 1938، واستقر به المقام في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن على تواصل مع الميدان داخل فلسطين، وقد كان بشخصيته الكارزماتية أبرز القادة السياسيين الوطنيين في ذلك الوقت.
ابتدأت الهجمات الصهيونية أواخر سنة 1947 بعد قرار التقسيم، عبر هجمات متفرقة كانت تشنها العصابات الصهيونية على القرى والمدن الفلسطينية، وكان يتم الرد عليها. إلا أن مع مرور الوقت كان يتكشف حجم الاختلال الكبير في التسلح بين الجانبين.
وقد لجأت عصابتا الشتيرن والأرغون الصهيونيتين إلى أسلوب السيارات المفخخة مستهدفة الأسواق العربية والمقرات الحكومية التي تخدم السكان الفلسطينيين، ففجرت مقر الحكومة في يافا في كانون الثاني/ يناير 1948. ومع اقتراب موعد انتهاء الاحتلال البريطاني ارتفعت وتيرة الهجمات، وبدأت عصابة الهاجانا، وهي العصابة الصهيونية الأكبر والتي أصبحت نواة جيش الاحتلال، بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق لاحتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد سكانها ضمن ما يعرف بـ"الخطة دالت" ابتداءً من آذار/ مارس 1948.
كانت طبريا أول مدينة يتم احتلالها في 18/4/1948، فيما احتلت حيفا في 22/4/1948 بعد قصف شديد للأحياء الفلسطينية فيها، ثم ملاحقتهم بنيران البنادق والمدفعية حتى خرجوا عبر الميناء، وقتل أكثر من 300 من سكان المدينة أثناء هذه العملية، وحين حاول بعض سكان المدينة اللجوء إلى معسكر للجيش البريطاني قرب الميناء رفض استقبالهم.
أما مدينة يافا، أكبر المدن الفلسطينية وعاصمتها الاقتصادية، واليوم أكثر من 15% من اللاجئين الفلسطينيين هم من مدينة يافا، فقد احتلت في 26/4/1948 وطرد سكانها بالطريقة نفسها التي طرد بها سكان حيفا.
واحتلت صفد في 11/5/1948، أما عكا فقد احتلت في 16/5/1948 بعد حصار دام حوالي ثلاثة أسابيع، أما القرى التي تعرض أهلها للتهجير خلال هذه الفترة فهي كثيرة ولست بصدد حصرها، لكن أشير إلى مجزرة دير ياسين في 9/4/1948 وهي الأكثر شهرة لكنها ليست الوحيدة، فقد ارتكبت خلال الحرب أكثر من سبعين مجزرة موثقة، كما أشير إلى مجزرة بلدة العباسية وطرد أهلها بمرحلة مبكرة جداً في 13/12/1947.
فكانت النتيجة أن أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني قد تشرد قبل إعلان قيام "دولة إسرائيل" 14/5/1948، وقبل انتهاء الاحتلال البريطاني وبدء دخول الجيوش العربية 15/5/1948، ويشكل أولئك أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين اليوم.
فكيف يضعون تاريخ بداية الحرب في 15/5/1948 وقد تشرد قبلها كلّ هذه الأعداد، واحتلت أهم المدن الفلسطينية وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية يافا؟
ثانياً: تفوق القوات الصهيونية بالعدد والعدة:
على عكس ما توحيه عبارة سبعة جيوش عجزت عن الانتصار على الجيش الصهيوني، فإن الحقائق والأرقام المتعلقة بحرب سنة 1948 تكشف لنا عن اختلال هائل بميزان التسلح وعدد القوات لصالح الصهاينة.
لقد بلغ تعداد قوات الهاجاناة الصهيونية أواخر سنة 1947 ما بين 40 ألف و50 ألف مقاتل، ارتفعت في بضعة شهور إلى حوالي 100 ألف مقاتل أو أكثر، منهم 20 ألف يهودي أحضروا للقتال من خارج فلسطين، في حين تذكر بعض المصادر أن قوة الهاجاناة تجاوزت 60 ألف مقاتل بقليل.
وفي المقابل لم يتجاوز عدد القوات العربية مجتمعة الـ 35 ألف مقاتل على أكثر تقدير، مع الإشارة إلى أنه حتى تاريخ 16/5/1948 لم يقف بمواجهة العصابات الصهيونية سوى بضع مئات من مقاتلي تنظيم الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وثلاثة آلاف مقاتل هو تعداد جيش الإنقاذ الذي دخل في بدايات سنة 1948، وكانوا قوات غير نظامية وغير مزودين بأي سلاح ثقيل يعتد به.
وعند الكلام عن الجيش السعودي فلم يشارك سوى بمئتي جندي، فيما تخلى الجيش اللبناني عن المشاركة في اللحظات الأخيرة، والجيوش العربية كانت أقرب إلى قوات الدرك والحرس الوطني من كونها جيوشاً حقيقية، وأهم جيشين، المصري والعراقي، كانا يقاتلان مئات الكيلومترات بعيداً عن قواعدهما.
كان الصهاينة يملكون الدبابات والطائرات والمدفعية واستخدموها بالقصف والتدمير وعمليات التهجير الواسعة، في المقابل كانت المدفعية التي تمتلكها الجيوش العربية أقل عدداً وفعالية، وفي حين لم يكن هنالك سوى 16 طائرة لدى مصر، خرجت في غارة واحدة على تلّ أبيب في الأيام الأولى للحرب، وتصدى لها الطيران البريطاني وأسقط طائرة وأعطب ثلاث أخريات، فتوقف بعدها الطيران المصري عن المشاركة.
وحتى نفهم أكثر الاختلال بميزان القوى نضرب مثلاً مدينتي اللد والرملة اللتين حوصرتا خلال الحرب، ولم يكن يوجد فيهما إلا قوة صغيرة من الجيش الأردني في الرملة، وخليط غير متجانس من الجهاد المقدس، والأهالي الذين اضطروا لحمل السلاح، والحرس البلدي، وبعض المتطوعين من الأردن، ولم يتجاوز تعداد المدافعين عن المدينتين الألف مقاتل، يمتلكون بالإضافة للبنادق ستة مدافع هاون وأربعة مدافع مضادة للدبابات، قاموا بالاستيلاء عليها من معسكرات الجيش البريطاني.
وقد انسحبت القوة الأردنية قبل بدء الهجوم الصهيوني النهائي على المدينتين في 9/7/1948، مما ترك بضع مئات من المقاتلين في مواجهة أكثر من 6 آلاف من قوات الصاعقة (البالماخ) الصهيونية، وقد مهدوا لهجومهم بقصف مدفعي وجوي عنيفين، فاحتلوا المدينتين بحلول 12/7/1948.
ثالثاً: اللاجئون لم يغادروا بيوتهم طواعية:
من المدهش درجة تقبل العرب لأسطورة أن الفلسطينيين غادروا بيوتهم امتثالاً لأوامر القادة العرب وتمهيداً للقضاء على الكيان الصهيوني الوليد، أو الهرب خوفاً من الإشاعات التي أطلقها الصهاينة.
وهنا أحيلكم إلى ما كتبه الدكتور شريف كناعنة في كتابه "الشتات الفلسطيني: هجرة أم تهجير"، وإشارة الدكتور وليد الخالدي أنه بحث في أرشيف الإذاعات والبيانات المتوفرة من تلك الفترة فلم يجد بينها أيّ دعوة من القيادة الفلسطينية أو العربية للمغادرة أو الهجرة، بل وجد بيان للعصابات الصهيونية يتهم الجيوش العربية باتخاذ المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية، ونلاحظ أن الاتهام الصهيوني هنا نفسه يتكرر بشكل دائم، على سبيل المثال في حرب تموز/ يوليو 2006 وحربي غزة الأولى والثانية.
كما أشار باحثون إلى بيان من اللجنة العربية العليا، القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة، يطلب من الشعب الفلسطيني الاستعداد للمواجهة ومحاربة الصهاينة في آذار/ مارس 1948، كما طلبت اللجنة في وقت لاحق من الدول العربية المساعدة في وقف هجرة اللاجئين إلى خارج فلسطين.
وفيما يقدم المؤرخ الصهيوني بني موريس رواية أكثر عقلانية من البروباجندا الصهيونية التقليدية محاولاً تصوير ما حصل على أنه فرار نتيجة المعارك الحربية بالإضافة للحرب النفسية التي شنتها عصابات الهاجاناة، وهي محاولة خبيثة لتجميل جرائم الاحتلال وتقديمها على أنها نتاج طبيعي للحرب.
إلا أن أغلب الشهادات التي أدلى بها اللاجئون من بيوتهم في تلك الفترة، والعدد الضخم من المجازر، ينسف مزاعم موريس كما ينسفها المؤرخ اليهودي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (سنة 2007)، حيث أكد بالدليل والبرهان على أن الطرد المنهجي للفلسطينيين كان جزءاً من خطة قيام "دولة إسرائيل"، وساق البراهين على أن ما حصل هو عملية تطهير عرقي، واصفاً مؤسس الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون بمهندس التطهير العرقي.
وتشير وثائق حكومية بريطانية، كُشف عنها قبل أسابيع قليلة، إلى حقيقة أن الفلسطينيين كانوا يتعرضون لهجمات قاتلة من قبل العصابات الصهيونية في الأشهر الأخيرة للاحتلال البريطاني، ووصف أحد التقارير القادة الفلسطينيين أنهم خذلوا المواطنين بأن طلبوا منهم الصمود في وجه الهجمات الصهيونية ثم لم يستطيعوا فعل شيء لإنقاذهم.
وإن كانت مجزرة دير ياسين هي الأشهر، إذ قتل فيها أكثر من مئة فلسطيني، إلا أنه تلاها مجازر أكثر وحشية مثل مجزرة الدوايمة في الخليل التي قتل فيها أكثر من 250 فلسطيني وألقيت جثثهم في آبار المياه، ومجزرة الطنطورة في حيفا والتي تراوح عدد ضحاياها ما بين 130 و300 قتيل.
ولعل الطريقة التي طرد بها أهل اللد والرملة تؤكد بشكل لا يرقى إليه الشك النوايا المبيتة للتطهير والطرد، فبعد استسلام أهالي المدينتين للقوات المهاجمة كان من شروط الاستسلام أن لا يتم طرد السكان، إلا أن القوات الصهيونية قامت بتجميع عدد كبير من الرجال والشيوخ والأطفال من الذكور في مسجد دهمش، وأغلقت عليهم الأبواب وألقت عليهم القنابل من النوافذ ثم دخل الجنود وأجهزوا على الجرحى ومن لم يقتل من الرجال، وقدَّرت بعض الروايات عدد الذين قتلوا في مسجد دهمش بمئة، فيما ذهبت روايات أخرى إلى 170 قتيلا أو حتى 300 قتيل.
وبعد المجزرة نادى الصهاينة بمكبرات الصوت على أهالي المدينة بضرورة أن يغادروها حتى لا يحصل لهم ما حصل لمن كان في مسجد دهمش، إلا أن الاستجابة كانت قليلة، وفي اليوم التالي أحضر الجنود الصهاينة الحافلات والشاحنات وقاموا بإخراج الناس من بيوتهم بقوة السلاح ومنعوهم من أخذ أيّ شيء من متاعهم الشخصي، وألقوا بهم عند خطّ الجبهة على الطريق المؤدية إلى رام الله، واستمرت عملية التطهير هذه حوالي ثلاثة أيام.
وتروي أغلب شهادات اللاجئين عن منهجية شبه ثابتة في عمليات التطهير؛ تبدأ بقصف عنيف بالمدفعية والطيران يضطر قسم من السكان للهروب، ثم مهاجمة القرية أو المدينة وقتال المقاومين والاستيلاء عليها، وبعدها يتم طرد من تبقى من السكان (وفي بعض الحالات كان يتم قتلهم)، وفي أكثر من حالة كان جميع السكان المتبقين في القرية من كبار السن الذين لم يستطيعوا الهرب، لكن ذلك لم يشفع لهم عند القوات المهاجمة.
هنالك أنماط أخرى للتهجير تختلف قليلاً، مثل قرى عراق المنشية وعراق السويدان والفالوجة جنوبي فلسطين، والتي كانت ساحة معارك طاحنة بين الجيش المصري والعصابات الصهيونية التي طوقت القوات المصرية وحاصرتها، بحيث أن أغلب السكان اضطروا للهروب منها خلال القتال والحصار، ومن تبقى هرب مع انسحاب الجيش المصري.
وهنالك حالات مثل قرى الغابسية وكفر برعم وأقرث قرب الحدود مع لبنان، تلقى أهلها أوامر عسكرية مكتوبة من جيش الاحتلال الصهيوني تأمرهم بمغادرة قراهم لمدة أسبوعين لأسباب أمنية، وقد امتد الأسبوعان إلى 65 عاماً ولا أفق لعودة أهلها.
ما حصل هو عملية تطهير عرقي ممنهجة ومقصودة من أجل إبقاء أغلبية يهودية على الأرض، وليس لأي سبب آخر، وللأسف ما تزال روايات بني موريس تعتبر مرجعاً للكثير من الكتاب العرب على ما فيها من تجميل للجرائم وتحريف للحقائق.
رابعاً: الجيوش العربية أنقذت ما تبقى من فلسطين:
ربما الفكرة السائدة هي أن الجيوش العربية هي سبب نكبتنا، وهنا تتقاطع روايتان: الفلسطينية التي رأت هزيمة نكراء وبالتالي يتحمل مسؤوليتها من قاد الجيوش وحارب، والرواية الصهيونية التي تقول أن الصهاينة كانوا يدافعون عن أنفسهم من اعتداء الجيوش العربية، ولولا هجوم العرب لما حصلت النكبة.
وكلتا الروايتين تجافيان الحقيقة من حيث أنه قبل دخول الجيوش العربية كان الفلسطينيون يخوضون حرباً لا يملكون فيها ما يكفي من سلاح للصمود في وجه المجازر المنهجية، وكان الصهاينة يركتبون المجزرة تلو الأخرى بدون رادع.
وهنا يشهد للجيش العراقي قيامه بتحرير جنين وعدد كبير من القرى المجاورة والتي احتلها الصهاينة في أواخر أيار/ مايو 1948، وذلك بعد أن خاض الجيش العراقي معركة طاحنة مع القوات الصهيونية، كما استطاع صدّ هجوم صهيوني على مدينة قلقيلية وحماها من الاحتلال الذي كان مصير القرى والبلدات المجاورة.
وخاض الجيش الأردني معارك عنيفة في اللطرون وباب الواد واستطاع الحفاظ عليهما وحماية الشطر الشرقي من القدس من الاحتلال، وطرد الصهاينة من داخل البلدة القديمة ومن مستعمرة النبي يعقوب شمال القدس ومستعمرة عصيون غربي بيت لحم، بينما أسهم المتطوعون المصريون من الإخوان المسلمين بحماية قرية صور باهر جنوبي القدس.
طبعاً كلّ هذا لا ينفي وجود أخطاء وتقصير شديد في أكثر من موقع وموقف، لكن الهزيمة والنكبة جاءت نتيجة لمجموعة من الأسباب المركبة والمتداخلة: فهنالك أخطاء تكيتيكة واستراتيجية ارتكبت سواء في إدارة العمليات أم التصور العام لإدارة الحرب مع العصابات الصهيونية أم ثقة القيادات السياسية بالاستعمار البريطاني.
وفي المقابل هنالك حقيقة أنه كان هنالك فارق كبير في عدد القوات وتسليحها وخبرتها الميدانية والعسكرية، وهنا أستحضر شهادة المرحوم سعد الدين الشاذلي الذي شارك في الحرب، وأكد على هذه الحقيقة، وضرب مثلاً أنهم كجنود مصريين لم يتدربوا على استخدام قنابل يدوية ولم يروها قبل الحرب، وكلّ ما كانوا يعرفوه عنها هو محاضرة في الكلية العسكرية حيث قام المحاضر برسمها لهم على اللوح مبيناً لهم أجزاءها.
خامساً: هل كان للتاريخ أن يكون مختلفاً:
لقد كلفتنا خسارة حرب سنة 1948 الكثير الكثير، وما زلنا إلى اليوم ندفع ثمنها دماً ومعاناة وإذلالاً، والله أعلم متى يمكن استرداد ما خسرناه في تلك الحرب، ومراجعة الحرب وأسباب الهزيمة لن يعيد من استشهدوا إلى الحياة ولن يعيد اللاجئين إلى أرضهم، لكن قد يضعنا على طريق فهم ما ينقصنا حتى نستطيع استرداد أرضنا السليبة وحتى لا نكرر أخطاء الماضي.
وكان تقرير لجهاز المخابرات الأمريكية "السي آي أيه" قد قدر أن يعيش الكيان الصهيوني لمدة عامين على الأكثر قبل أن ينهار تحت ضربات حرب العصابات العربية، وربما تحتاج هذه الوثيقة لدراسة معمقة لنعرف الأسس التي وصلوا بموجبها إلى هذا الاستنتاج، وإن كنت أتخيل أن كاتبي الوثيقة راهنوا على التفوق العددي للشعوب العربية، وإلى حقيقة أن الكيان الصهيوني لم يكن قد تشكل بعد وليس أكثر من عصابات مسلحة، وهذه العصابات المسلحة لا تستطيع القتال إلى الأبد.
إلا أن الذي حصل أنه وبعد الخسائر الفادحة التي تلقاها الجيش المصري جنوب فلسطين، وبدء القوات الصهيونية بتطويقه ودخول شبه جزيرة سيناء لقطع الطريق المؤدي إلى غزة، عقدت مصر هدنة مع الصهاينة، ولحقتها باقي الدول العربية خلال سنة 1949، وبعدها ساد صمت مطبق على الحدود، على الرغم من أن الكثير من المناطق المحتلة لم يكن فيها وجود صهيوني.
وبدلاً من مشاغلة الصهاينة واستنزافهم، سعت الدول العربية إلى تثبيت الهدنة بل منعت اللاجئين الفلسطينيين من التسلل إلى قراهم من أجل حصاد محصولاتهم الزراعية، وكانت تعاقب بشدة من يقوم بذلك، وهذا أعطى الصهاينة الفرصة ليشتد عودهم وليبنوا الكيان الصهيوني كما نعرفه اليوم.
لم يكن لدى الدول العربية أيّ تصور عن حجم القوة الصهيونية قبل بدء الحرب، ودخلوا فلسطين وهم يظنون أنهم في نزهة للقضاء على العصابات الصهيونية، وبعد الهزيمة لم يكن لديهم تصور حول الخطوة التالية.
ونقف اليوم بين مدرستين: الأولى تقول أنه لا قِبل لنا بمحاربة الكيان الصهيوني المدعوم أمريكياً وغربياً، وهذه المدرسة قديمة من روادها الملك عبد الله الأول والأسرة الهاشمية، والثانية تقول أن محاربة الكيان الصهيوني أمر بسيط ويمكن القضاء على الكيان في أيام لولا الخونة والعملاء.
كلتا المدرستين على صواب وكلتاهما على خطأ: فالكيان الصهيوني هو آلة عسكرية ضخمة ومرعبة وامتداد للآلة العسكرية الغربية، ومحاربته ليس بالأمر اليسير، لكنه ليس بالمستحيل، وهنالك حاجة للتخطيط من أجل محاربته ومحاصرته، ونحن بحاجة لخوض حرب طويلة الأمد، ندفع فيها أثماناً غالية جداً، حتى نحرر فلسطين، وهو هدف ممكن الوصول إليه لكن بثمن، والأهم من الاستعداد للثمن أن نمتلك العقول اللازمة لإدارة المعركة.
ياسين عز الدين
يقولون إن المنتصر يكتب التاريخ، بمعنى أن روايته لما حصل هي التي تسود وتنتشر بين الناس بمن فيهم المهزومين، وهذا ينطبق إلى حدٍّ كبير على التاريخ الفلسطيني المعاصر وبالتحديد حرب سنة 1948، نكبة فلسطين.
تقول الرواية الصهيونية إن سبعة جيوش عربية (مصر وسورية والأردن والعراق ولبنان والسعودية وجيش الإنقاذ) بكامل عتادها وعدتها قررت الهجوم على الدولة الصهيونية الوليدة وحاولت سحقها، وطلبت من الفلسطينيين أن يتركوا منازلهم لكي يمهدوا للعمليات العسكرية، فانقلب "عدوانهم" على الكيان الصهيوني الوليد والضعيف هزيمة نكراء، وهرب أغلب الفلسطينيين من بيوتهم خوفاً وجزعاً واستجابة لطلب قادة الجيوش العربية.
ويهدف الصهاينة من هذه الرواية تبرئة أنفسهم؛ فهم لم يطردوا أحداً من مكانه ولم يرتكبوا إلا بضع مجازر معدودة على اليد الواحدة لإخافة الآخرين، وأيضاً ليقولوا أنهم انتصروا بالرغم من ضعف عددهم وعدتهم، وهذا دليل على التأييد السماوي لهم ولمشروعهم، وهنالك جانب آخر وهو تأكيدهم على دونية العرب الذين مهما تفوقوا بالعدد والعدة فإنهم لن يستفيدوا من ذلك، ولن يهزموا الصهاينة أبداً.
وبكل أسف تبنى الكثير من العرب والفلسطينيين الرواية الصهيونية على علاتها وبكل ما فيها من تناقضات وأكاذيب فجة، واختلفوا عن الصهاينة فقط في تفسير سبب الهزيمة والنكبة فنسبوها إلى خيانة القادة العرب، وإن كنت أتفق معهم في وجود قيادات كثيرة تنطبق عليها هذه الصفة، إلا أن هذا التفسير يحمل الكثير من خداع الذات.
فالعرب لم يريدوا الاعتراف بأنهم هزموا وأحبوا قصة أنهم كانوا أقوياء لولا فلان وعلان من القادة، فالشعور بالضعف والعجز غير مرغوب، ففضلوا خداع ذاتهم، وكما يقولون الانتصار له ألف أب، والهزيمة لا أب لها، فهكذا حرص العرب جميعاً على إلقاء المسؤولية على حفنة من المسؤولين العرب كانوا بمثابة كبش فداء وعلى رأسهم الملك عبد الله الأول والذي اغتيل لاحقاً بسبب دوره في هزيمة حرب سنة 1948.
وأطيح بأغلب الأنظمة التي تسببت بالهزيمة وأزيح الأفراد الذين اتهموا بالخيانة، لكن لم ننتصر على الكيان الصهيوني، بل ازداد الكيان قوةً أضعافاً مضاعفة، وتلت النكبة نكسة ونكسات عديدة، وذلك لأننا لم نفهم طبيعة ما حصل في النكبة، وفضلنا تصديق أكذوبة أن كلّ شيء كان على ما يرام والانتصارات تتوالى لولا خيانة بعض القادة العرب.
ولذا أسعى هنا لتوضيح عدة حقائق معروفة للمؤرخين تنقض الرواية التاريخية الصهيونية، وترسم لنا صورة أكثر دقة لما حصل في حرب سنة 1948 وما يعرف بنكبة فلسطين.
أولاً: الحرب لم تبدأ في 15/5/1948:
لعل الشائع بين الناس أن الحرب بدأت في هذا التاريخ وهو تاريخ انتهاء الانتداب، أي الاحتلال البريطاني ودخول الجيوش العربية، إلا أن الواقع يؤكد بأن الحرب بدأت قبل هذا التاريخ بكثير.
يعود التحضير لهذه الحرب إلى بداية العشرينيات من القرن الماضي، بداية الاحتلال البريطاني، حيث نقرأ لجابوتنسكي وهو يبشر بالخيار المسلح ضدّ الشعب الفلسطيني في مقالته الشهيرة "الجدار الحديدي نحن والعرب" سنة 1923.
ووجدنا الجماعات الصهيونية تحرص على إدخال السلاح وتخزينه منذ العشرينيات، ولعل إحدى الأحداث التي نبهت الشهيد عزّ الدين القسام للخطر الصهيوني هو انكشاف براميل متفجرات كان الصهاينة يحاولون تهريبها عبر ميناء حيفا.
وعمل البريطانيون على توفير الغطاء للتسلح الصهيوني من خلال حرس المستعمرات، كما أنشأوا الفيلق اليهودي في الجيش البريطاني، وقد حارب في الحرب العالمية الثانية واكتسب المقاتلون فيه الخبرة والتدريب الكافي لينضموا لاحقاً إلى العصابات الصهيونية في فلسطين.
فما إن جاءت سنة 1947 إلا والصهاينة يملكون ترسانة كبيرة من الأسلحة برعاية وتواطؤ بريطانيا، في حين أن الفلسطيني كان ممنوع من امتلاك السلاح، وكان يحكم عليه بالإعدام لو ضبط بحوزته أيّ قطعة سلاح، وقد قمعت بشدة قبل ذلك بسنوات قليلة الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) حيث قتل أو أعدم أغلب قادة الثوار، مثل عبد الرحيم الحاج محمد والشيخ فرحان السعدي ويوسف أبو درة.
فيما لم يكن حال القيادة السياسية الفلسطينية بأفضل حالاً حيث كان الحاج أمين الحسيني يعيش في المنافى منذ سنة 1938، واستقر به المقام في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يكن على تواصل مع الميدان داخل فلسطين، وقد كان بشخصيته الكارزماتية أبرز القادة السياسيين الوطنيين في ذلك الوقت.
ابتدأت الهجمات الصهيونية أواخر سنة 1947 بعد قرار التقسيم، عبر هجمات متفرقة كانت تشنها العصابات الصهيونية على القرى والمدن الفلسطينية، وكان يتم الرد عليها. إلا أن مع مرور الوقت كان يتكشف حجم الاختلال الكبير في التسلح بين الجانبين.
وقد لجأت عصابتا الشتيرن والأرغون الصهيونيتين إلى أسلوب السيارات المفخخة مستهدفة الأسواق العربية والمقرات الحكومية التي تخدم السكان الفلسطينيين، ففجرت مقر الحكومة في يافا في كانون الثاني/ يناير 1948. ومع اقتراب موعد انتهاء الاحتلال البريطاني ارتفعت وتيرة الهجمات، وبدأت عصابة الهاجانا، وهي العصابة الصهيونية الأكبر والتي أصبحت نواة جيش الاحتلال، بتنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق لاحتلال المدن والقرى الفلسطينية وطرد سكانها ضمن ما يعرف بـ"الخطة دالت" ابتداءً من آذار/ مارس 1948.
كانت طبريا أول مدينة يتم احتلالها في 18/4/1948، فيما احتلت حيفا في 22/4/1948 بعد قصف شديد للأحياء الفلسطينية فيها، ثم ملاحقتهم بنيران البنادق والمدفعية حتى خرجوا عبر الميناء، وقتل أكثر من 300 من سكان المدينة أثناء هذه العملية، وحين حاول بعض سكان المدينة اللجوء إلى معسكر للجيش البريطاني قرب الميناء رفض استقبالهم.
أما مدينة يافا، أكبر المدن الفلسطينية وعاصمتها الاقتصادية، واليوم أكثر من 15% من اللاجئين الفلسطينيين هم من مدينة يافا، فقد احتلت في 26/4/1948 وطرد سكانها بالطريقة نفسها التي طرد بها سكان حيفا.
واحتلت صفد في 11/5/1948، أما عكا فقد احتلت في 16/5/1948 بعد حصار دام حوالي ثلاثة أسابيع، أما القرى التي تعرض أهلها للتهجير خلال هذه الفترة فهي كثيرة ولست بصدد حصرها، لكن أشير إلى مجزرة دير ياسين في 9/4/1948 وهي الأكثر شهرة لكنها ليست الوحيدة، فقد ارتكبت خلال الحرب أكثر من سبعين مجزرة موثقة، كما أشير إلى مجزرة بلدة العباسية وطرد أهلها بمرحلة مبكرة جداً في 13/12/1947.
فكانت النتيجة أن أكثر من ثلث الشعب الفلسطيني قد تشرد قبل إعلان قيام "دولة إسرائيل" 14/5/1948، وقبل انتهاء الاحتلال البريطاني وبدء دخول الجيوش العربية 15/5/1948، ويشكل أولئك أكثر من نصف اللاجئين الفلسطينيين اليوم.
فكيف يضعون تاريخ بداية الحرب في 15/5/1948 وقد تشرد قبلها كلّ هذه الأعداد، واحتلت أهم المدن الفلسطينية وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية يافا؟
ثانياً: تفوق القوات الصهيونية بالعدد والعدة:
على عكس ما توحيه عبارة سبعة جيوش عجزت عن الانتصار على الجيش الصهيوني، فإن الحقائق والأرقام المتعلقة بحرب سنة 1948 تكشف لنا عن اختلال هائل بميزان التسلح وعدد القوات لصالح الصهاينة.
لقد بلغ تعداد قوات الهاجاناة الصهيونية أواخر سنة 1947 ما بين 40 ألف و50 ألف مقاتل، ارتفعت في بضعة شهور إلى حوالي 100 ألف مقاتل أو أكثر، منهم 20 ألف يهودي أحضروا للقتال من خارج فلسطين، في حين تذكر بعض المصادر أن قوة الهاجاناة تجاوزت 60 ألف مقاتل بقليل.
وفي المقابل لم يتجاوز عدد القوات العربية مجتمعة الـ 35 ألف مقاتل على أكثر تقدير، مع الإشارة إلى أنه حتى تاريخ 16/5/1948 لم يقف بمواجهة العصابات الصهيونية سوى بضع مئات من مقاتلي تنظيم الجهاد المقدس بقيادة الشهيد عبد القادر الحسيني، وثلاثة آلاف مقاتل هو تعداد جيش الإنقاذ الذي دخل في بدايات سنة 1948، وكانوا قوات غير نظامية وغير مزودين بأي سلاح ثقيل يعتد به.
وعند الكلام عن الجيش السعودي فلم يشارك سوى بمئتي جندي، فيما تخلى الجيش اللبناني عن المشاركة في اللحظات الأخيرة، والجيوش العربية كانت أقرب إلى قوات الدرك والحرس الوطني من كونها جيوشاً حقيقية، وأهم جيشين، المصري والعراقي، كانا يقاتلان مئات الكيلومترات بعيداً عن قواعدهما.
كان الصهاينة يملكون الدبابات والطائرات والمدفعية واستخدموها بالقصف والتدمير وعمليات التهجير الواسعة، في المقابل كانت المدفعية التي تمتلكها الجيوش العربية أقل عدداً وفعالية، وفي حين لم يكن هنالك سوى 16 طائرة لدى مصر، خرجت في غارة واحدة على تلّ أبيب في الأيام الأولى للحرب، وتصدى لها الطيران البريطاني وأسقط طائرة وأعطب ثلاث أخريات، فتوقف بعدها الطيران المصري عن المشاركة.
وحتى نفهم أكثر الاختلال بميزان القوى نضرب مثلاً مدينتي اللد والرملة اللتين حوصرتا خلال الحرب، ولم يكن يوجد فيهما إلا قوة صغيرة من الجيش الأردني في الرملة، وخليط غير متجانس من الجهاد المقدس، والأهالي الذين اضطروا لحمل السلاح، والحرس البلدي، وبعض المتطوعين من الأردن، ولم يتجاوز تعداد المدافعين عن المدينتين الألف مقاتل، يمتلكون بالإضافة للبنادق ستة مدافع هاون وأربعة مدافع مضادة للدبابات، قاموا بالاستيلاء عليها من معسكرات الجيش البريطاني.
وقد انسحبت القوة الأردنية قبل بدء الهجوم الصهيوني النهائي على المدينتين في 9/7/1948، مما ترك بضع مئات من المقاتلين في مواجهة أكثر من 6 آلاف من قوات الصاعقة (البالماخ) الصهيونية، وقد مهدوا لهجومهم بقصف مدفعي وجوي عنيفين، فاحتلوا المدينتين بحلول 12/7/1948.
ثالثاً: اللاجئون لم يغادروا بيوتهم طواعية:
من المدهش درجة تقبل العرب لأسطورة أن الفلسطينيين غادروا بيوتهم امتثالاً لأوامر القادة العرب وتمهيداً للقضاء على الكيان الصهيوني الوليد، أو الهرب خوفاً من الإشاعات التي أطلقها الصهاينة.
وهنا أحيلكم إلى ما كتبه الدكتور شريف كناعنة في كتابه "الشتات الفلسطيني: هجرة أم تهجير"، وإشارة الدكتور وليد الخالدي أنه بحث في أرشيف الإذاعات والبيانات المتوفرة من تلك الفترة فلم يجد بينها أيّ دعوة من القيادة الفلسطينية أو العربية للمغادرة أو الهجرة، بل وجد بيان للعصابات الصهيونية يتهم الجيوش العربية باتخاذ المدنيين الفلسطينيين دروعاً بشرية، ونلاحظ أن الاتهام الصهيوني هنا نفسه يتكرر بشكل دائم، على سبيل المثال في حرب تموز/ يوليو 2006 وحربي غزة الأولى والثانية.
كما أشار باحثون إلى بيان من اللجنة العربية العليا، القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة، يطلب من الشعب الفلسطيني الاستعداد للمواجهة ومحاربة الصهاينة في آذار/ مارس 1948، كما طلبت اللجنة في وقت لاحق من الدول العربية المساعدة في وقف هجرة اللاجئين إلى خارج فلسطين.
وفيما يقدم المؤرخ الصهيوني بني موريس رواية أكثر عقلانية من البروباجندا الصهيونية التقليدية محاولاً تصوير ما حصل على أنه فرار نتيجة المعارك الحربية بالإضافة للحرب النفسية التي شنتها عصابات الهاجاناة، وهي محاولة خبيثة لتجميل جرائم الاحتلال وتقديمها على أنها نتاج طبيعي للحرب.
إلا أن أغلب الشهادات التي أدلى بها اللاجئون من بيوتهم في تلك الفترة، والعدد الضخم من المجازر، ينسف مزاعم موريس كما ينسفها المؤرخ اليهودي إيلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين" (سنة 2007)، حيث أكد بالدليل والبرهان على أن الطرد المنهجي للفلسطينيين كان جزءاً من خطة قيام "دولة إسرائيل"، وساق البراهين على أن ما حصل هو عملية تطهير عرقي، واصفاً مؤسس الكيان الصهيوني ديفيد بن غوريون بمهندس التطهير العرقي.
وتشير وثائق حكومية بريطانية، كُشف عنها قبل أسابيع قليلة، إلى حقيقة أن الفلسطينيين كانوا يتعرضون لهجمات قاتلة من قبل العصابات الصهيونية في الأشهر الأخيرة للاحتلال البريطاني، ووصف أحد التقارير القادة الفلسطينيين أنهم خذلوا المواطنين بأن طلبوا منهم الصمود في وجه الهجمات الصهيونية ثم لم يستطيعوا فعل شيء لإنقاذهم.
وإن كانت مجزرة دير ياسين هي الأشهر، إذ قتل فيها أكثر من مئة فلسطيني، إلا أنه تلاها مجازر أكثر وحشية مثل مجزرة الدوايمة في الخليل التي قتل فيها أكثر من 250 فلسطيني وألقيت جثثهم في آبار المياه، ومجزرة الطنطورة في حيفا والتي تراوح عدد ضحاياها ما بين 130 و300 قتيل.
ولعل الطريقة التي طرد بها أهل اللد والرملة تؤكد بشكل لا يرقى إليه الشك النوايا المبيتة للتطهير والطرد، فبعد استسلام أهالي المدينتين للقوات المهاجمة كان من شروط الاستسلام أن لا يتم طرد السكان، إلا أن القوات الصهيونية قامت بتجميع عدد كبير من الرجال والشيوخ والأطفال من الذكور في مسجد دهمش، وأغلقت عليهم الأبواب وألقت عليهم القنابل من النوافذ ثم دخل الجنود وأجهزوا على الجرحى ومن لم يقتل من الرجال، وقدَّرت بعض الروايات عدد الذين قتلوا في مسجد دهمش بمئة، فيما ذهبت روايات أخرى إلى 170 قتيلا أو حتى 300 قتيل.
وبعد المجزرة نادى الصهاينة بمكبرات الصوت على أهالي المدينة بضرورة أن يغادروها حتى لا يحصل لهم ما حصل لمن كان في مسجد دهمش، إلا أن الاستجابة كانت قليلة، وفي اليوم التالي أحضر الجنود الصهاينة الحافلات والشاحنات وقاموا بإخراج الناس من بيوتهم بقوة السلاح ومنعوهم من أخذ أيّ شيء من متاعهم الشخصي، وألقوا بهم عند خطّ الجبهة على الطريق المؤدية إلى رام الله، واستمرت عملية التطهير هذه حوالي ثلاثة أيام.
وتروي أغلب شهادات اللاجئين عن منهجية شبه ثابتة في عمليات التطهير؛ تبدأ بقصف عنيف بالمدفعية والطيران يضطر قسم من السكان للهروب، ثم مهاجمة القرية أو المدينة وقتال المقاومين والاستيلاء عليها، وبعدها يتم طرد من تبقى من السكان (وفي بعض الحالات كان يتم قتلهم)، وفي أكثر من حالة كان جميع السكان المتبقين في القرية من كبار السن الذين لم يستطيعوا الهرب، لكن ذلك لم يشفع لهم عند القوات المهاجمة.
هنالك أنماط أخرى للتهجير تختلف قليلاً، مثل قرى عراق المنشية وعراق السويدان والفالوجة جنوبي فلسطين، والتي كانت ساحة معارك طاحنة بين الجيش المصري والعصابات الصهيونية التي طوقت القوات المصرية وحاصرتها، بحيث أن أغلب السكان اضطروا للهروب منها خلال القتال والحصار، ومن تبقى هرب مع انسحاب الجيش المصري.
وهنالك حالات مثل قرى الغابسية وكفر برعم وأقرث قرب الحدود مع لبنان، تلقى أهلها أوامر عسكرية مكتوبة من جيش الاحتلال الصهيوني تأمرهم بمغادرة قراهم لمدة أسبوعين لأسباب أمنية، وقد امتد الأسبوعان إلى 65 عاماً ولا أفق لعودة أهلها.
ما حصل هو عملية تطهير عرقي ممنهجة ومقصودة من أجل إبقاء أغلبية يهودية على الأرض، وليس لأي سبب آخر، وللأسف ما تزال روايات بني موريس تعتبر مرجعاً للكثير من الكتاب العرب على ما فيها من تجميل للجرائم وتحريف للحقائق.
رابعاً: الجيوش العربية أنقذت ما تبقى من فلسطين:
ربما الفكرة السائدة هي أن الجيوش العربية هي سبب نكبتنا، وهنا تتقاطع روايتان: الفلسطينية التي رأت هزيمة نكراء وبالتالي يتحمل مسؤوليتها من قاد الجيوش وحارب، والرواية الصهيونية التي تقول أن الصهاينة كانوا يدافعون عن أنفسهم من اعتداء الجيوش العربية، ولولا هجوم العرب لما حصلت النكبة.
وكلتا الروايتين تجافيان الحقيقة من حيث أنه قبل دخول الجيوش العربية كان الفلسطينيون يخوضون حرباً لا يملكون فيها ما يكفي من سلاح للصمود في وجه المجازر المنهجية، وكان الصهاينة يركتبون المجزرة تلو الأخرى بدون رادع.
وهنا يشهد للجيش العراقي قيامه بتحرير جنين وعدد كبير من القرى المجاورة والتي احتلها الصهاينة في أواخر أيار/ مايو 1948، وذلك بعد أن خاض الجيش العراقي معركة طاحنة مع القوات الصهيونية، كما استطاع صدّ هجوم صهيوني على مدينة قلقيلية وحماها من الاحتلال الذي كان مصير القرى والبلدات المجاورة.
وخاض الجيش الأردني معارك عنيفة في اللطرون وباب الواد واستطاع الحفاظ عليهما وحماية الشطر الشرقي من القدس من الاحتلال، وطرد الصهاينة من داخل البلدة القديمة ومن مستعمرة النبي يعقوب شمال القدس ومستعمرة عصيون غربي بيت لحم، بينما أسهم المتطوعون المصريون من الإخوان المسلمين بحماية قرية صور باهر جنوبي القدس.
طبعاً كلّ هذا لا ينفي وجود أخطاء وتقصير شديد في أكثر من موقع وموقف، لكن الهزيمة والنكبة جاءت نتيجة لمجموعة من الأسباب المركبة والمتداخلة: فهنالك أخطاء تكيتيكة واستراتيجية ارتكبت سواء في إدارة العمليات أم التصور العام لإدارة الحرب مع العصابات الصهيونية أم ثقة القيادات السياسية بالاستعمار البريطاني.
وفي المقابل هنالك حقيقة أنه كان هنالك فارق كبير في عدد القوات وتسليحها وخبرتها الميدانية والعسكرية، وهنا أستحضر شهادة المرحوم سعد الدين الشاذلي الذي شارك في الحرب، وأكد على هذه الحقيقة، وضرب مثلاً أنهم كجنود مصريين لم يتدربوا على استخدام قنابل يدوية ولم يروها قبل الحرب، وكلّ ما كانوا يعرفوه عنها هو محاضرة في الكلية العسكرية حيث قام المحاضر برسمها لهم على اللوح مبيناً لهم أجزاءها.
خامساً: هل كان للتاريخ أن يكون مختلفاً:
لقد كلفتنا خسارة حرب سنة 1948 الكثير الكثير، وما زلنا إلى اليوم ندفع ثمنها دماً ومعاناة وإذلالاً، والله أعلم متى يمكن استرداد ما خسرناه في تلك الحرب، ومراجعة الحرب وأسباب الهزيمة لن يعيد من استشهدوا إلى الحياة ولن يعيد اللاجئين إلى أرضهم، لكن قد يضعنا على طريق فهم ما ينقصنا حتى نستطيع استرداد أرضنا السليبة وحتى لا نكرر أخطاء الماضي.
وكان تقرير لجهاز المخابرات الأمريكية "السي آي أيه" قد قدر أن يعيش الكيان الصهيوني لمدة عامين على الأكثر قبل أن ينهار تحت ضربات حرب العصابات العربية، وربما تحتاج هذه الوثيقة لدراسة معمقة لنعرف الأسس التي وصلوا بموجبها إلى هذا الاستنتاج، وإن كنت أتخيل أن كاتبي الوثيقة راهنوا على التفوق العددي للشعوب العربية، وإلى حقيقة أن الكيان الصهيوني لم يكن قد تشكل بعد وليس أكثر من عصابات مسلحة، وهذه العصابات المسلحة لا تستطيع القتال إلى الأبد.
إلا أن الذي حصل أنه وبعد الخسائر الفادحة التي تلقاها الجيش المصري جنوب فلسطين، وبدء القوات الصهيونية بتطويقه ودخول شبه جزيرة سيناء لقطع الطريق المؤدي إلى غزة، عقدت مصر هدنة مع الصهاينة، ولحقتها باقي الدول العربية خلال سنة 1949، وبعدها ساد صمت مطبق على الحدود، على الرغم من أن الكثير من المناطق المحتلة لم يكن فيها وجود صهيوني.
وبدلاً من مشاغلة الصهاينة واستنزافهم، سعت الدول العربية إلى تثبيت الهدنة بل منعت اللاجئين الفلسطينيين من التسلل إلى قراهم من أجل حصاد محصولاتهم الزراعية، وكانت تعاقب بشدة من يقوم بذلك، وهذا أعطى الصهاينة الفرصة ليشتد عودهم وليبنوا الكيان الصهيوني كما نعرفه اليوم.
لم يكن لدى الدول العربية أيّ تصور عن حجم القوة الصهيونية قبل بدء الحرب، ودخلوا فلسطين وهم يظنون أنهم في نزهة للقضاء على العصابات الصهيونية، وبعد الهزيمة لم يكن لديهم تصور حول الخطوة التالية.
ونقف اليوم بين مدرستين: الأولى تقول أنه لا قِبل لنا بمحاربة الكيان الصهيوني المدعوم أمريكياً وغربياً، وهذه المدرسة قديمة من روادها الملك عبد الله الأول والأسرة الهاشمية، والثانية تقول أن محاربة الكيان الصهيوني أمر بسيط ويمكن القضاء على الكيان في أيام لولا الخونة والعملاء.
كلتا المدرستين على صواب وكلتاهما على خطأ: فالكيان الصهيوني هو آلة عسكرية ضخمة ومرعبة وامتداد للآلة العسكرية الغربية، ومحاربته ليس بالأمر اليسير، لكنه ليس بالمستحيل، وهنالك حاجة للتخطيط من أجل محاربته ومحاصرته، ونحن بحاجة لخوض حرب طويلة الأمد، ندفع فيها أثماناً غالية جداً، حتى نحرر فلسطين، وهو هدف ممكن الوصول إليه لكن بثمن، والأهم من الاستعداد للثمن أن نمتلك العقول اللازمة لإدارة المعركة.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية