قيادة بلا خيارات
نقولا ناصر
بافتراض حسن النية، تبدو القيادة المفاوضة في منظمة التحرير الفلسطينية اليوم كقيادة فقدت كل الخيارات، وفي مقدمتها طبعا خيار التفاوض وهو الخيار الوحيد الذي كان يسوغ استمرارها في القيادة حتى الآن، وبافتراض سوء النية، تبدو هذه القيادة كمن يحرص على زج شعبها في حالة من اليأس تمهيدا للقبول مكرها بأي حل على الإطلاق يريحه من العذاب الوطني طوال ما يزيد على قرن من الزمان.
وفي كلتا الحالتين يبدو أمرا منطقيا ومشروعا الاستنتاج بأنه قد حان الوقت لكي ترحل هذه القيادة طوعا بكرامة طالما انعدمت الخيارات التي تؤهلها للقيادة، أو يرحل برنامجها الذي أوصل القضية الوطنية وشعبها إلى الوضع الراهن.
فأي خيار أبقت هذه القيادة يمكنه أن يمنح شعبها بعض الأمل في خلاص وطني قريب أو حتى في الأمد الطويل؟
تقول هذه القيادة إن عملية التفاوض وصلت إلى طريق مسدود،
وإنه لا يوجد "شريك إسرائيلي" في هذه العملية،
وإن الراعي الأميركي لهذه العملية انحاز إلى موقف دولة الاحتلال ورضخ لها وخذل قيادة المنظمة التي راهنت عليه،
وإن الشرعية الدولية ممثلة في الأمم المتحدة محكومة بحق النقض "الفيتو" الأميركي وهي شرعية بلا أسنان إلا المخالب الأميركية،
وإن الكفاح المسلح أسلوب عفا عليه الزمن بعد أن فقد ظهيره الدولي بانهيار الاتحاد السوفياتي وظهيره العربي بالاجماع العربي على السلام كخيار استراتيجي، خصوصا بعد الاحتلال الأميركي للعراق،
وإن خيار المقاومة لم يعد خيارا بعد أن اختلط بالإرهاب بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر في الولايات المتحدة،
وإن الانتفاضة كشكل للمقاومة كانت نتائجها عكسية،
وإن العصيان المدني ليس خيارا لأنه سيكون موجها ضد سلطة الحكم الذاتي التي تقودها المنظمة أكثر مما سيكون موجها ضد الاحتلال بعد أن حول الحاكم العسكري للاحتلال هذه السلطة إلى واجهة له بتحويل بعض مهام إدارته المدنية إليها،
ومع ذلك فإنها تعد شعبها بدولة وعدا يبدو كالسراب طالما لم تعد تملك الحد الأدنى من الخيارات الواقعية التي قد تجعل الوفاء به ممكنا.
و"القاعدة الشعبية" لهذه القيادة الممثلة في حركة فتح لا تبدو في حال أفضل من قيادتها، فهي تشجع قيادتها على وضع شروط تعجيزية من أجل تحقيق الوحدة الوطنية التي كانت السر في نجاح فتح والحركة الوطنية الفلسطينية، وتتضاعف مسؤولية الحركة عندما لا تكون هذه الشروط نابعة من الذات بل مفروضة أصلا من دولة الاحتلال نفسها، فهذه الحركة التي انقلبت على الاستراتيجية الوطنية التي حملتها إلى قيادة شعبها طوال حوالي أربعين عاما تبدو اليوم كمن فقد قدرته على استلهام خيارات وطنية من عذابات شعبه يبني عليها استراتيجية وطنية أساسها الوحدة الوطنية، ليستعيض عن ذلك بالبحث عن "خطط استراتيجية فلسطينية على المستوى الدولي"، كما قال عباس زكي رئيس وفد حركة فتح -- المفترض أنها المرجعية لهذه القيادة – الذي زار الصين مؤخرا بحثا عن "خطط" كهذه، ليعود الوفد من البلد الصديق الذي سيدخل التاريخ الوطني الفلسطيني كبلد كان لفترة طويلة قاعدة دعم لا ينضب لاستراتيجية فلسطينية وطنية، لا دولية، أثبتت نجاعتها ونجاحها، فانتزعت اعتراف العالم بوجود شعب فلسطيني وبوجود ممثل شرعي لهذا الشعب، قبل أن تفرض هذا الاعتراف على دولة الاحتلال نفسها وقبل أن تنقل الانتفاضة الأولى هذا الاعتراف إلى داخل الوطن المحتل، حتى تخلت الحركة عن هذه الاستراتيجية، ليعود وفدها من الصين باتفاق على "تكثيف تدريب الفلسطينيين في الديبلوماسية والتعليم العالي"!
لا بل إن هذه القيادة تبدو مصرة على أن تغلق عامدة متعمدة الخيار الوحيد المفتوح والمنطقي والمتوقع في مثل هذه الظروف والمتمثل في الحق المشروع للشعب الفلسطيني في الانتفاضة ضد الاحتلال والوضع الراهن.
فعندما سئل وزير خارجية هذه القيادة رياض المالكي في موسكو أثناء زيارته لها مؤخرا عن احتمال حدوث انتفاضة فلسطينية ثالثة توقع استطلاع أخير للرأي أجراه معهد الأمن الوطني الإسرائيلي أن يمثل حدوثها تهديدا أكبر لدولة الاحتلال في حال غياب هذه القيادة ممثلة في رئيسها محمود عباس، بدا المالكي في جوابه كمن يأخذ من دروس التاريخ القريب العبر التي تخدم استمرار الوضع الراهن وبقاء هذه القيادة فقط بقوله: "أعتقد أننا أخذنا دروسا من الانتفاضتين الأولى والثانية، لهذا السبب لن نلقي بشعبنا في مغامرة خطرة ونعرض مستقبلنا للخطر بانتفاضة قد تكون نتائجها مهلكة لشعبنا وانجازاته"، ليضيف: "في ظل هذه الظروف، نحن أمام طريق مسدود، والمخرج الوحيد لنا هو أن نطلب من مجلس الأمن الدولي أن يأمر بتطبيق القانون الدولي"، كما قال المالكي، معبرا عن "خيار" الملاذ الأخير للمنظمة والسلطة، متغافلا أو غافلا عن الدرس التاريخي الذي لا يجدر بأي وزير خارجية فلسطيني أن يكون غافلا أو متغافلا عن حقيقة أن هذا الطريق كان بدوره مسدودا أمام الشعب الفلسطيني منذ منح شرعية دولية لإقامة دولة غاصبة لحقوق هذا الشعب ووطنه التاريخي عام 1947.
وإذا كانت كل الخيارات التي تراها هذه القيادة مسدودة هي موضع جدل وطني ساخن، وكانت الدروس التي تستخلصها هذه القيادة من الانتفاضتين الأولى والثانية تتناقض تماما مع العبر التي يستخلصها الشعب الفلسطيني منهما، وكانت الأسباب الموضوعية للانتفاضة الثالثة قد نضجت فعلا والعقبة الرئيسية أمامها هي هذه القيادة نفسها التي تحرص كل القوى الحريصة على منع اندلاع انتفاضة كهذه على بقاء هذه القيادة لهذا السبب بالذات، وبالتالي فإنها غنية عن البيان، ولا تستحق الإسهاب فيها، فإن "المخرج الوحيد" الذي اخذ المالكي إلى موسكو، وحمل وفد فتح إلى بكين، وجعل عباس يتفوق على الرئيس الأميركي باراك أوباما في عدد الجولات الدولية التي قام بها جدير بالتوقف عنده، وإن كان المجال لا يسمح بالاستفاضة فيه.
فالارتهان لهذا "المخرج الوحيد" يعيد الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة إلى المرحلة التي سبقت "انطلاقتها" وكانت مسوغ وجودها والسر في النجاحات التي حققتها بقدر ما كان التراجع عن هذه الانطلاقة هو السر في إخفاقاتها التي أوصلت الحال الوطني إلى وضعه الراهن.
ألم تكن "الانطلاقة" إعلانا عن اليأس الفلسطيني من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والعجز العربي والإسلامي في المقام الأول وقرارا بأن يمتلك عرب فلسطين قرارهم "المستقل" في تقرير مصيرهم فوق أرضهم وفي المنافي والشتات؟
وألم يفتح ذاك الإعلان وذاك القرار أمام الشعب الفلسطيني خيارات منحته حرية الاختيار بينها والانتقاء منها؟
فلماذا تستسهل القيادة المفاوضة منذ أربع سنوات تأجيل الوحدة الوطنية ومخزن خياراتها لتجد نفسها بلا خيارات وتعيد الحركة الوطنية إلى المربع الأول عندما كانت خياراتها مستوردة وليست صناعة وطنية!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية