ما نفتقده في ذكرى الانتفاضة الأولى!
لمى خاطر
لو قُدر لك أن تشاهد خلال مرورك بشارع فلسطيني قديم شعاراً على الجدار يعود تاريخه لأيام انتفاضة الحجارة فلن تستحضر معه ذكريات تلك الأيام وحسب، بل تلك الروح التي سادت يومها وتكاد تغرب الآن، الروح المفعمة بحماسة بدايات أي درب نضالي، والعنفوان المكتنف تجارب المواجهة غير المسبوقة، وانخراط آلاف الناس فيها دون اقتصارها على النخب المستعدة للتضحية.
ولعل تجاوز صدمة هزيمة عام (1967) احتاج 20 عاماً، لتتأكد بعدها قناعة الفلسطيني داخل فلسطين بأن الخلاص من الاحتلال، أو إشعال فتيل المواجهة مسؤوليته وحده بالدرجة الأولى، وتلك المدة هي التي لزمت أيضاً ليشبّ جيل جديد لم يعاين بنفسه أيام الهزيمة ولم تنطبع نفسيته بآثارها، لكنه عاين إفرازاتها في واقعه، وواجه نفسه بإملاءات المسؤولية لتغييرها، فكانت قدرته على إشعال الفتيل وفتح كوة في الجدار أكبر من قدرة الجيل السابق.
انتفاضة الحجارة، أو الانتفاضة الأولى، أكبر من إمكانية الحديث عن كل متعلقاتها في مقال، فهي ستبقى تجربة جديرة بالتوقف والدراسة الفاحصة والشاملة، لكنّها اليوم في ذكراها، وكما الحال كلّما أمعنّا في الزمن ابتعاداً عن تلك الأيام، تبدو زاخرة بمعانٍ جليلة مفتقدة، بقدر ما تبدو الحاجة ملّحة لاستعادتها؛ روحاً وزخماً ويقيناً، وليس بالضرورة محاكاة لوسائل المواجهة ذاتها.
وحين يبرز السؤال حول أسباب استبعاد تكرار التجربة بما اكتنفته من مدّ جماهيري عريض، ومن حالة تكافل اجتماعي فريدة، ومن غياب لكثير من السلبيات داخل المجتمع الفلسطيني، ومن علوّ لقيمة التضحية والاستعداد لبذل الدم دونما إغراق في بحث حسابات الخسارة، ومن استعذاب للألم والتضييق بأشكالهما المختلفة، ومن إصرار على استكمال المسيرة حتى والقبضة الاحتلالية تشتدّ وتتزايد معها قوانين العقاب الجديدة.. مع كل هذا وغيره، فإن الجواب لا يبدو سهلاً أو لعلّ الاعتراف به ليس كذلك، لأنه لا بد هنا من الإقرار بحالة الإنهاك العامة التي اعترت الوعي الفلسطيني خلال 26 عاما، كونه لم يظفر بخلاص سريع كان ينتظره، ولأنه يدرك الآن تماماً أن الثورة الشعبية أجهضها مشروع أوسلو ثم واقع السلطة تحت الاحتلال، ولذلك لم يكن الحضور الشعبي في انتفاضة الأقصى، أو الانتفاضة الثانية، بارزاً كما كان في الانتفاضة الأولى، إذ سرعان ما تحوّلت للنمط المسلّح، وهو نمط يقتصر على النخبة المضحية، والتي يصعب أن يتغيّر مزاجها أو تؤثر الانتكاسات على قناعتها بجدوى المقاومة أو ضرورة المواجهة، لكنها نخبة استثنائية وقليلة على كل حال، وتتحمّل دائماً وحدها ضريبة خياراتها، بينما يبدو بقية المجتمع مستعداً لممارسة حياته بشكل اعتيادي دون أن يشعر بمسؤوليته إزاء عملية المقاومة حتى لو كانت بأنماط شعبية وسلمية خالصة.
ولعلّ أبرز مؤشر على حالة التعب المزاجي لدى الجمهور الفلسطيني، هو استبعاد واستثقال فئة غير قليلة منه اندلاع انتفاضة ثالثة، وما بين الحديث عن الاستحالة وعدم الجدوى تضيع الفكرة، ويتعمّق اغتراب الروح القادرة على كسر الجمود وإشعال الفتيل، خصوصاً لدى الجيل الكبير سناً نسبياً الذي عايش الانتفاضتين، وشهد التحوّلات المختلفة المرافقة إيّاهما!
ولذلك تبدو فلسطين اليوم بحاجة لاستعادة روح الانتفاضة الأولى أكثر من أي شيء آخر، أي الروح المفعمة بالألق النضالي وتوهّج العزائم، والقادرة على جمع الكلّ الفلسطيني تحت راية مسيرتها، بحيث تكون الفئة المشكّكة والمحاربة مسيرته منبوذة من الاعتبار الوطني، وليست جزءاً من النسيج النضالي. فمشروع التحرر الحقّ لا يحتمل الجمع ما بين اتخاذ النضال شعاراً للمسميات الحزبية، والتآمر عليه والتخطيط لبقائه منهكاً في آن واحد، مثلما أن الانتفاضة لن تتكرر إلا حين يطال لسع الضمير أولئك الذين يجلسون بعيداً عن المشهد مفترضين أن عبء المقاومة مطلوب من غيرهم، وأن هناك دائماً من عليه أن يواجه نيابة عنهم، فيما يكتفون هم بالمشاهدة والتعليق أو الانتقاد!
لمى خاطر
لو قُدر لك أن تشاهد خلال مرورك بشارع فلسطيني قديم شعاراً على الجدار يعود تاريخه لأيام انتفاضة الحجارة فلن تستحضر معه ذكريات تلك الأيام وحسب، بل تلك الروح التي سادت يومها وتكاد تغرب الآن، الروح المفعمة بحماسة بدايات أي درب نضالي، والعنفوان المكتنف تجارب المواجهة غير المسبوقة، وانخراط آلاف الناس فيها دون اقتصارها على النخب المستعدة للتضحية.
ولعل تجاوز صدمة هزيمة عام (1967) احتاج 20 عاماً، لتتأكد بعدها قناعة الفلسطيني داخل فلسطين بأن الخلاص من الاحتلال، أو إشعال فتيل المواجهة مسؤوليته وحده بالدرجة الأولى، وتلك المدة هي التي لزمت أيضاً ليشبّ جيل جديد لم يعاين بنفسه أيام الهزيمة ولم تنطبع نفسيته بآثارها، لكنه عاين إفرازاتها في واقعه، وواجه نفسه بإملاءات المسؤولية لتغييرها، فكانت قدرته على إشعال الفتيل وفتح كوة في الجدار أكبر من قدرة الجيل السابق.
انتفاضة الحجارة، أو الانتفاضة الأولى، أكبر من إمكانية الحديث عن كل متعلقاتها في مقال، فهي ستبقى تجربة جديرة بالتوقف والدراسة الفاحصة والشاملة، لكنّها اليوم في ذكراها، وكما الحال كلّما أمعنّا في الزمن ابتعاداً عن تلك الأيام، تبدو زاخرة بمعانٍ جليلة مفتقدة، بقدر ما تبدو الحاجة ملّحة لاستعادتها؛ روحاً وزخماً ويقيناً، وليس بالضرورة محاكاة لوسائل المواجهة ذاتها.
وحين يبرز السؤال حول أسباب استبعاد تكرار التجربة بما اكتنفته من مدّ جماهيري عريض، ومن حالة تكافل اجتماعي فريدة، ومن غياب لكثير من السلبيات داخل المجتمع الفلسطيني، ومن علوّ لقيمة التضحية والاستعداد لبذل الدم دونما إغراق في بحث حسابات الخسارة، ومن استعذاب للألم والتضييق بأشكالهما المختلفة، ومن إصرار على استكمال المسيرة حتى والقبضة الاحتلالية تشتدّ وتتزايد معها قوانين العقاب الجديدة.. مع كل هذا وغيره، فإن الجواب لا يبدو سهلاً أو لعلّ الاعتراف به ليس كذلك، لأنه لا بد هنا من الإقرار بحالة الإنهاك العامة التي اعترت الوعي الفلسطيني خلال 26 عاما، كونه لم يظفر بخلاص سريع كان ينتظره، ولأنه يدرك الآن تماماً أن الثورة الشعبية أجهضها مشروع أوسلو ثم واقع السلطة تحت الاحتلال، ولذلك لم يكن الحضور الشعبي في انتفاضة الأقصى، أو الانتفاضة الثانية، بارزاً كما كان في الانتفاضة الأولى، إذ سرعان ما تحوّلت للنمط المسلّح، وهو نمط يقتصر على النخبة المضحية، والتي يصعب أن يتغيّر مزاجها أو تؤثر الانتكاسات على قناعتها بجدوى المقاومة أو ضرورة المواجهة، لكنها نخبة استثنائية وقليلة على كل حال، وتتحمّل دائماً وحدها ضريبة خياراتها، بينما يبدو بقية المجتمع مستعداً لممارسة حياته بشكل اعتيادي دون أن يشعر بمسؤوليته إزاء عملية المقاومة حتى لو كانت بأنماط شعبية وسلمية خالصة.
ولعلّ أبرز مؤشر على حالة التعب المزاجي لدى الجمهور الفلسطيني، هو استبعاد واستثقال فئة غير قليلة منه اندلاع انتفاضة ثالثة، وما بين الحديث عن الاستحالة وعدم الجدوى تضيع الفكرة، ويتعمّق اغتراب الروح القادرة على كسر الجمود وإشعال الفتيل، خصوصاً لدى الجيل الكبير سناً نسبياً الذي عايش الانتفاضتين، وشهد التحوّلات المختلفة المرافقة إيّاهما!
ولذلك تبدو فلسطين اليوم بحاجة لاستعادة روح الانتفاضة الأولى أكثر من أي شيء آخر، أي الروح المفعمة بالألق النضالي وتوهّج العزائم، والقادرة على جمع الكلّ الفلسطيني تحت راية مسيرتها، بحيث تكون الفئة المشكّكة والمحاربة مسيرته منبوذة من الاعتبار الوطني، وليست جزءاً من النسيج النضالي. فمشروع التحرر الحقّ لا يحتمل الجمع ما بين اتخاذ النضال شعاراً للمسميات الحزبية، والتآمر عليه والتخطيط لبقائه منهكاً في آن واحد، مثلما أن الانتفاضة لن تتكرر إلا حين يطال لسع الضمير أولئك الذين يجلسون بعيداً عن المشهد مفترضين أن عبء المقاومة مطلوب من غيرهم، وأن هناك دائماً من عليه أن يواجه نيابة عنهم، فيما يكتفون هم بالمشاهدة والتعليق أو الانتقاد!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية