مصر الثورة...المطلوب أكثر من التهدئة!
سري سمور
الشريط الساحلي الضيق(حوالي 365 كم2) المعروف بقطاع غزة يأبى إلا أن يكون محورا في صناعة السياسة وتقرير المشهد الميداني والعسكري؛ فلا غرو أن المقتول القاتل رابين تمنى أن يبتلع البحر غزة، فمع اكتظاظ القطاع بالسكان، ومع الحصار البري والبحري الذي تسهم فيه أقوى دول العالم(تذكروا اتفاقية ليفني-رايس) ، ومع الفقر والبطالة، فإن القطاع يأبى أن يغادر مسرح الأحداث الإقليمية والدولية بل هو الذي يصنعها ويحركها فتـقذف مياه بحره الطاهرة أمواجا تغسل عارا أو تزيل غطاء مصطنعا عن وجه خادع، وتصعد دماء شهدائه وصرخات أمهاتهم الممزوجة بالإيمان والعزة والألم لتقول: هنا غزة مفتاح آسيا على أفريـقيا وبوابة فلسطين على مصر ، لـقد كتب على هذه البقعة من الأرض المقدسة ألا تنام إلا نوم الحارس اليقظ حتى يزول ظلم وقع من حوالي 64 سنة!
وليس الفقر والبؤس والاكتظاظ والمشكلات الاجتماعية والصراعات المختلفة هي ميزة أو صورة غزة التي يحاول العديد من الإعلاميين –بحسن أو بسوء نية- تـقديمها عن هذه البقعة الأصيلة من أرض فلسطين؛ فغزة فيها آلاف يتزايدون يحفظون كتاب الله الكريم، وهذه والله نعمة عظيمة، وغزة فيها طلبة مبدعون سجلت لهم براءات اختراعات مختلفة، وبعضهم حصل على جوائز من شركات عالمية مثل جوجل وغيرها لتميزهم وذكائهم، وفي غزة يقبل الشباب ذكورا وإناثا على التعليم بكافة فروعه...وغزة هي رأس حربة حاليا في مواجهة آلة الحرب الصهيونية...هي كذلك لحكمة أرادها الله ستبين لعباده يوما ما..إلا أن حكمته تجلت في العدوان الصهيوني الأخير في فضح كثير ممن يزعمون وقوفهم إلى جانب حق الشعوب في حياة حرّة كريمة، لتكشف غزة سوءتهم القبيحة!
(1)ظلام في زمن الثورة!
حين تنقطع الكهرباء لسويعات قليلة نادرة في منطقة سكني، ويقوم فنيون من شركة الهواتف الخلوية التي لها برج فوق البناية التي أقطنها بتشغيل مولد كهرباء يعمل بالوقود وأسمع صوته المزعج تحضر غزة فورا إلى الذاكرة، فهي منذ مدة طويلة تتعايش مع دوي مولدات الطاقة هذه، ولكن حتى هذه المولدات لا وقود في غزة لتشغيلها، ونحن في عصر قائم على التيار الكهربائي، فالكهرباء مفتاح عصبي حيوي لتفصيلات حياة الناس، وعار وأي عار أن يحيا حوالي مليون وثمانمائة ألف إنسان بلا كهرباء، والعار الأكبر أن يكون هذا في ظل الثورة المجيدة في مصر، وحسبنا هنا ما كتبه المفكر المصري فهمي هويدي عن هذه المأساة.
ومن المفارقات المؤلمة أنه في عهد المخلوع لم يحدث هذا التدهور في إمدادات الطاقة إلى غزة، وهنا لا مجال لأي أسف على عهد المخلوع، فلم ولن ننسى منظر وزير خارجيته وهو يمسك بيد تسيبي ليفني التي أعلنت حرب «الرصاص المصبوب» على غزة في حضرته، وهو الذي استعرض عضلاته قبل ذلك بشهور مهددا بكسر رجل من يخترق حدود مصر، ولم تمح من الذاكرة الاعتقالات والتعذيب في سلخانات المخلوع بهدف جمع معلومات قد تدلهم عن مكان شاليط، ولم ننس الجدار الفولاذي، ولا القائمة الطويلة من المظالم الفلسطينية عموما والغزيّة خصوصا في عهد مبارك، كما أنه وقبل ذريعة الانقسام لم يكن يتجشّم عناء إجراء اتصال هاتـفي مع أبي عمار المحاصر بل أرسل له عمر سليمان لينقل له تهديدات شارون التي نفذها فعلا، وكأنه ساعي بريد!
ولكن ما حدث مخجل ومؤلم في عهد الثورة، وهو عهد ينبغي ألا يقارن بما سبقه من عهد معروفة مرجعياته ورغائبه؛ لأن السيف ينتقص قدره إذا قيل أنه أمضى من العصا، فهل الرسالة الموجهة إلى أهل غزة فحواها بأن وضعكم سيظل على حاله سواء حكم مبارك أو حدثت ثورة عليه وانتخب برلمان غالبية أعضائه من الإسلاميين، وأن قوائم الممنوعين والتعامل الأمني سيستمر حتى ربما بعد انتخابات الرئاسة القادمة، بل سيعم الظلام بيوتكم وشوارعكم ومؤسساتكم؟!!
والذين يكثرون الحديث عن الأنفاق وخطرها على العاملين فيها، والضرر الاقتصادي الذي تسببه، هم يتحدثون عن أعراض المرض وينسون أسبابه؛ فمن المسئول عن ظاهرة الأنـفاق؟ ولماذا أجبر الفلسطيني على نقل حاجياته من تحت الأرض معرضا حياته للخطر بدل نقلها من فوق الأرض؟هل يعاتب الغريق لأن ملابسه ابتلت؟ وقبل حرب 1967م كان العديد من أهل الضفة الغربية يتسللون إلى القرى العربية داخل فلسطين لتبادل حاجيات أو بيع بعض المواد ويعرضون أنفسهم للخطر الشديد، ولكنهم اضطروا إلى ذلك لإطعام صغارهم، ولمساعدة أبناء شعبهم وأقاربهم في الداخل، وعليه فإن الأنفاق أوجدتها ظروف الحصار، والذي لا يجد ماء يباح له التيمم، والجائع الذي لا يجد ما يقيم أوده تباح له الأطعمة المحرمة، و عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- أوقف العمل بحد السرقة أي قطع اليد في عام الرّمادة...من هذا المنظور يجب أن ينظر إلى ظاهرة الأنـفاق و ما سببته أو تسببه من ظواهر اقتصادية أو اجتماعية أو حتى سياسية!
وهناك أسئلة مشروعة تماما في مسألة الكهرباء؛ فالكل انكب على التحليل القائل بأن نتنياهو أخذ الضوء الأخضر من أوباما بعد أن منعه الأخير من ضرب إيران، ومسألة تجريب القبة الحديدية، والرغبة في زيادة موازنة جيش الاحتلال، وغيرها من الاستقراءات، والتي –مع أخذها بالحسبان- يجب ألا تنسينا الأسئلة المشروعة:لماذا قبل هذا العدوان العسكري تـفاقمت أزمة الكهرباء بطريقة لم تكن في عهد المخلوع كما قلنا؟ ولماذا الإعلان عن التوصل إلى حلول وقرار بتزويد غزة بالوقود يتلوه تأخير إثر تأخير ومماطلة غير مريحة؟ ولماذا الإصرار على بيع الوقود للفلسطيني بالسعر العالمي فيما يباع الغاز للإسرائيلي بسعر لم يحلم به آباء الكيان المؤسسين؟ ولماذا الحديث عن إدخال الوقود من معبر كرم أبو سالم ليتحكم ضابط صهيوني بمصير الناس في القطاع؟ وإذا كان ملف شاليط قد أغلق فلماذا يستمر الحصار، ومصر هي التي رعت صفقة التبادل؟ وهل هي صدفة أن تغرق غزة في ظلام دامس لأسابيع تتلوها هذه الهجمة، حيث لا ينير سماء القطاع سوى وميض القنابل والصواريخ القاتلة؟
(2)خوف قاتل للبعد الإنساني
تأتي الإجابة المكرورة على الأسئلة السابقة من خوف مصري من المخطط الإسرائيلي الرامي إلى إجبار مصر على تحمل المسئولية عن غزة عبر إجراءاتها للانفصال التي بدأتها بإخلاء مستوطناتها في صيف العام 2005م؛ وحقيقة لقد سئمنا هذه المخاوف التي لا تطال إلا الفلسطيني من دون سائر البشر، فهو ممنوع في هذا البلد من العمل بعشرات المهن كي لا يتوطن فيه أو يخل بتركيبته السكانية، وهو ملاحق في ذاك البلد بذات الحجة مع اتهامات بإخلاله بالأمن العام(تذكروا اتهام العادلي لفلسطينيين من غزة بتـفجير الكنيسة) وارتباطه بالقاعدة وطالبان والدرب المضيء والألوية الحمراء والخمير الحمر ووو…! هذه حجج غير منطقية، فالفلسطيني أثبت ويثبت أنه لم و لن يتخلى عن وطنه، وقد رأيتم الناس يدخلون غزة وهي تتعرض لقصف لم يسبق له مثيل قبل ثلاث سنوات.ولم النظر للأمور من هذه الزاوية فقط؟ فالسيد بسام الشكعة صرّح مرة بأن القوى الوطنية رفضت في مرحلة ما فتح جامعات في الأراضي المحتلة حتى يبقى الفلسطيني على تواصل واحتكاك مع إخوته العرب، فلم لا يكون مخطط مضاد في مواجهة مخططات إسرائيل لا يقوم على انتهاك أو إخلال بحق الشقيق على الشقيق و الجار على الجار بل حق الإنسان على أخيه الإنسان؟ فحتى الدول التي بينها منازعات في وقت الكوارث والنكبات ترسل لبعضها الطواقم الطبية والمساعدات.
لقد مللنا من سماع هذه النغمة، فهل نقول لإسرائيل:نتوسل إليك أعيدي بناء غوش قطيف ونيتساريم بشرط أن تزودينا بالكهرباء وتسمحي بمرور الغذاء والدواء؟! المطلوب هو أن ترفع إسرائيل حصارها بعد أن خرجت من غزة، ولكن ليس من المقبول بتاتا أن يحاصر الفلسطيني من شقيقه وجاره تحت حجة الخوف من تحمل المسئولية التي يخطط لها الاحتلال، فالفلسطيني الذي يحمل مفتاح بيته منذ 64 سنة والذي يتوارث التمسك حتى الموت بحق العودة لا مطمع له في ما يجري التخويف منه، ومن حقه أن يتشارك أو يتعاون مع أخيه، والأهم من هذا أن غزة صامدة بمقاومة متماسكة هي مصلحة حيوية للأمن القومي المصري، بعيدا عن الهواجس والمخاوف التي لم تتلاشى مع رحيل مبارك مع بالغ الأسف.
وحجة أخرى تساق وهي أن مصر تريد للمصالحة أن تـتم وأن فتحها للحدود بوتيرة أكثر من الحالية سيكرّس الانـقسام ويطيل أمده؛ وهذه الحجة نرى مقولة أخرى تتعارض معها؛ فمنذ مدة نسمع ونـقرأ بأن هناك من لا يريد إتمام المصالحة لأنه منتفع من تجارة الأنفاق، وأن هناك من جمعوا الملايين يريدون للوضع الحالي أن يستمر...هذه المقولة تتكرر كثيرا، حسنا، سنفترض جدلا صحتها، فلم لا يجري العمل على تعزيز المصالحة بوقف أو تخفيف أرباح هؤلاء المعطلين للمصالحة بفتح معبر رفح وإنشاء منطقة تجارة حرّة وإدخال الوقود وأمور أخرى، مما يعني تعزيز المصالحة المتعثرة-وفق المقولة السابقة- بسبب المتربحين والمتكسبين من الأنفاق؟!
(3)تهدئة واغتيالات!
هل دور مصر الثورة السعي لتجديد التهدئة بين المقاومة والاحتلال فقط ، علما بأن الاحتلال هو الذي بدأ بخرقها؟ لا أقول بأن على مصر تحريك قواتها الآن وإعلان الحرب على الكيان، ولكن لمصر أوراق عديدة وقوية تمكنها من لجم نتنياهو وباراك، لأن مصر ليست صليبا أحمرا، ومن دواعي الثورة على مبارك أنه كرّس انكفاء مصر وتعمّد تهميش دورها الأكبر بكثير من حدودها، وهذا يشهد به كثيرون من شتى الاتجاهات، وأتذكر مقالا لكاتب ليبرالي(ومناوئ للإسلاميين) قبل الثورة بعام يشير فيه إلى أن مصر غادرت دورها الإقليمي والدولي وانشغلت بمناكفة حركات محلية مثل حماس وحزب الله، والآن في زمن الثورة وبرلمانها هل ستبقى الصورة على ما هي عليه؟لقد خلق الله مصر لتكون ذات مكانة وأن يتجاوز تفكيرها وانشغالها مشكلاتها الداخلية، وبالتجربة فإنها لو حاولت-بقيادة انكفائية- غير ذلك فلا ربح أبدا!
لقد جرّبت المقاومة التهدئة، وتهدئة ما بعد حرب الكوانين لم ترفع الحصار، ومعبر رفح لم يـفتح إلا بعد مجزرة سفينة مرمرة وليس كما يجب أن يكون، والحجة هي المراقبين الأوروبيين، علما بأن التجربة مع هؤلاء مرّة ولا ننسى اختطاف القائد أحمد سعدات، ولم يطرأ التحسن المطلوب على عمل المعبر بعد الثورة، ولا زالت قوائم المنع الأمني على حالها تـقريبا..ما علاقة هذا بالعدوان والتهدئة؟هي علاقة لا تخطئها عين فاحصة؛ فلو أن إسرائيل رأت مصر الجديدة تتعامل بطريقة مختلفة لحسبت ألف حساب قبل عدوانها، ولو أنها حين شرعت بالعدوان لاقت حزما سياسيا وإعلاميا من مصر الثورة بدل الحديث عن التهدئة لارتدعت منذ الساعات الأولى.
إن الاحتلال يريد أن يقوم بما قام به في حرب الكوانين ولكن بأسلوب المفرق لا الجملة، وهو يريد تهدئة قد تستمر شهورا لكنه عندما يرغب بقتل أي شخص -بزعم خطورته- لا يريد ردا، أو أنه اعتاد على الرد وموجة التصعيد التي يعقبها تدخل مصر وغيرها لإعادة الهدوء وهكذا دواليك، وهذه معادلة(هدوء واغتيالات) لا يمكن قبولها حتى قبل الثورات العربية فكيف الآن؟ فإذا كانت التهدئة مصلحة لجميع الأطراف فعلى الطرف المعتدي وهو الاحتلال أن يلتزم بشروط التهدئة وأهمها وقف سياسة الاغتيالات الغادرة، ومصر هي المخوّلة بالحديث مع الاحتلال بهذه اللغة لأنها تملك أوراقا عدة ضاغطة منها ما هو ظاهر ومنها ما هو مخفي، أما أن يقتصر الدور المصري على إطفاء الحرائق التي يشعلها الاحتلال كل فترة تحت عنوان التهدئة فهذا ما لا ترضاه مصر لنفسها ولا يرضاه الشقيق الفلسطيني لها، وهذا اختبار للثورة!
أما حركة الإخوان فنذكرهم بأن الشهيد حسن البنا كان يرسل كتائب المجاهدين إلى فلسطين في الوقت الذي كان يربي ويعلّم ويثقف ويواصل برامج الروحانيات في مصر، وأنتم في خضم انشغالكم بشأنكم الداخلي لا تظنوا أن هذا يعفيكم من عظيم مسئوليتكم تجاه فلسطين، ولا تكفي الأصوات ولا البكاء والهتاف الآن، فقد كنتم أصحاب عذر أيام المخلوع، والآن زال هذا العذر، واحذروا ثم احذروا ثم تيقظوا لمن يريد أن يقنعكم بأن تؤجلوا فلسطين وما فيها حتى تـثـبتوا أقدامكم في مصر، لأن النتيجة لهكذا تـفكير سيضركم ويضر مصر وفلسطين، فهل سنرى ما هو جديد من طرفكم في قادم الأيام؟وإذا كانت أمريكا أو سواها تهددكم من تحت الطاولة بزعزعة وضعكم في مصر إلا إذا أدرتم ظهوركم لفلسطين، مع السماح بمواقف إعلامية مجردة من الفعل الحقيقي، فإياكم وقبول هذا الابتزاز الدنيء لأنه مرفوض شرعيا ووطنيا وأخلاقيا، ولأن أمريكا اليوم ليست بذات القوة التي كانتها أيام المخلوع.
أما فصائل المقاومة فعليها التفكير بعمق سواء استمرت التهدئة أم لا، لأنها في وضع ومعادلة تجمع بين الصعوبة والغرابة؛ فهل سيستمر الوضع بطريقة:فترة هدوء تمزقه عملية اغتيال لقيادي ما، تطلق صواريخ ثم تكثر الدعوات لتهدئة جديدة؟ لست هنا بوارد التنظير أو المزايدة إلا أن هذه المعادلة ليست عادلة!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية