معنى الانتصار في «معركة اليونيسكو»
"إسرائيل" تريد معاقبة الفلسطينيين لأنهم تحصلوا على العضوية الكاملة في «اليونيسكو»، والولايات المتحدة تريد معاقبة «الأونيسكو» لأنها منحت فلسطين العضوية الكاملة، بوجود هكذا حليفين استراتيجيين، كيف يمكن لدولة فلسطين أن ترى النور، بوجود هكذا عدو، وهكذا «وسيط» في عملية السلام، كيف يمكن للمفاوضات والدبلوماسية أن تكون خياراً، دع عنك حكاية «الخيار الوحيد» ونظرية «المفاوضات حياة»؟!.
ما جرى في «اليونيسكو» يصلح أن يكون «امتحاناً» لكل المواقف والرهانات، فالمكسب الفلسطيني المتحقق هناك، ينهض من جهة أولى، كشاهدٍ على أهمية المنافسة والمزاحمة في شتى المنابر والمحافل الدولية، الولايات المتحدة ليست قدر العالم الذي لا رادّ له، مثلما هي "إسرائيل"، لن تظل قدر المنطقة «أحمق الخطى»، ما يملي إيلاء النضال السياسي والحقوقي والدبلوماسي و«حرب العلاقات العامة»، الأهمية التي تستحق، وبصورة لا تعرف الموسمية والهوادة، خصوصاً في المجال الحقوقي والجنائي، حيث تحظى ""إسرائيل بأسوأ سمعة دولية تجعلها هدفاً مناسباً للعدالة والقضاء الدوليين.
والإنجاز الفلسطيني في «اليونيسكو» يدل من جهة ثانية، على أن الولايات المتحدة، وليست "إسرائيل"، هي الخصم الألد في معركة الفلسطينيين في سبيل الحرية والاستقلال، واشنطن التي ترفع «لواء الحرية» في صحراء الفساد والاستبداد العربية القاحلة، تدوس هذه الراية بالأقدام، عندما يتصل الأمر بحرية الفلسطينيين واستقلالهم، ولا سبب جوهرياً يكفي لتفسير هذا الموقف اللاأخلاقي لواشنطن، سوى خضوع دوائر صنع القرار فيها، للجماعات و«اللوبيّات» إياها، وهو أمر تأكد في غير محك واختبار منذ أن كانت هناك عملية سلام، ومنذ أن كانت هناك «وساطة» أمريكية فيها، وتكرس بما لا يدع مجالاً للشك، في ولاية أوباما الأولى، والتي يرجح أن تكون الأخيرة بالمناسبة.
و«الانتصار» الفلسطيني في «اليونيسكو»، وعذراً لوضع كلمة انتصار بين مزدوجين، لأنني أخشى التضخيم المتعمد في تصوير أهمية الإنجاز وعواقبه، أقول إن هذا الانتصار، يظهر من جهة ثالثة، وربما للمرة الألف، أن ما منع قيام الدولة الفلسطينية في أعقاب مرحلة أوسلو الانتقالية المنتهية في أيار 1999، لم يكن عجز الفلسطينيين عن بناء مؤسسات دولتهم الحديثة والعصرية، كما روّجت لذلك "إسرائيل"، وردد من ورائها بعض الفلسطينيين من أنصار نظريتي «المفاوضات حياة» و«بناء الدولة تحت جلد الاحتلال»، ما حال دون قيام الدولة هو رفض "إسرائيل" لحل الدولتين، وإصرارها على الاحتفاظ باحتلالها وتوسيع استيطانها للأرض الفلسطينية المحتلة.
لقد بنى الفلسطينيون مؤسسات دولة حديثة، و«تورطوا من الرأس حتى أخمص القدمين» بالتنسيق الأمني، وعاشت الضفة الغربية سنوات خمس من الهدوء التام والصمت المطبق في ظل انعدام شبه تام للمقاومة، ولقد شهد بكل هذا وذاك وتلك، مختلف قادة العالم وممثلوه وموفدوه، آخرهم طوني بلير وروبرت سري، فماذا كانت النتيجة؟، واشنطن تقود حملة تجييش دولية ضد حصولهم على الاعتراف، وتعاقب كل من يعترف بدولتهم، و"إسرائيل" تخوض حرب «نزع الشرعية» عن عباس وتحرّض عليه، وتعاقب السلطة على «فعلتها النكراء»، وليس مستبعداً أبداً، أن تشن على الشعب والسلطة والقيادة، «حرب سور واقٍ» جديدة، بأشكال جديدة وأدوات جديدة.
«النصر» الفلسطيني في «اليونيسكو»، أظهر أن التوجه للشرعية الدولية ومنظماتها وأجهزتها، هو شكل نضالي لا تجوز السخرية منه، أو التقليل من أثره، على أنه ليس كافياّ بذاته، كما أن بناء مؤسسات السلطة ليس كافياّ بحد ذاته، و«المفاوضات» ليست كافية بدورها، خصوصاً حين تكون بلا أوراق ولا أجندة ولا شروط مسبقة، المطلوب وضع كل هذه «العناصر» و«الأشكال الكفاحية» في بوتقة استراتيجية واحدة، المطلوب أن تكون كل هذه «القطع» جزءاً من لوحة، تكتمل ملامحها كلما وضعنا المزيد من القطع في مكانها وسياقها الصحيحين، المهم أن يندرج كل هذا وذاك في سياق استراتيجية شعبية للمقاومة، تضع هدف رفع كلفة الاحتلال في صدارة أولوياتها، توطئة لإعلان الحرية والاستقلال الناجزين، والظفر باعتراف العالم، كل العالم بدولة فلسطين الحرة، السيدة والمستقلة.
نرحب في الحقيقة بأداء السلطة على هذا الصعيد، وندعوها لتكثيف هجومها السياسي والدبلوماسي والحقوقي، ونطالبها بترجمة أقوالها إلى أفعال، خصوصاً في مضمار «المقاومة الشعبية السلمية»، وندعو فوق هذا وذاك، إلى استكمال هذه الخطوات المتفرقة، وأحياناً المتعارض بعضها مع بعضها الآخر، وإدماجها في سياق استراتيجي واحد منسّق ومتّسق، يبدأ من المصالحة وترتيب البيت الفلسطيني، ويمر بصياغة استراتيجية مقاومة مستلهمة لروح «ربيع العرب» ونبضه وأدواته، ولا تنتهي بالبحث في شتى الخيارات والأطروحات، بما فيها خيار حل السلطة، و«إعادة البضاعة» إلى الاحتلال.
والسلطة التي طالما فاخر أركانها والناطقون باسمها، بنجاحها (نجاحهم) في ضبط الفوضى والفلتان الأمنيين، مطالبة اليوم بتسجيل نجاح مثير للانطباع، في ضبط «فلتان السياسة» و«فوضى التصريحات والمواقف المتضاربة» لأركانها، فنحن نريد أن نعرف أين تتجه السلطة وماذا تريد وما هو مستقبلها و«أية خريطة طرق» تنوي سلوكها، ذلك أن إدارة السياسة بـ«نظام المياومة»، ليست خياراً أبداً، وغالباً ما تكون حصيلته كارثية، فهل نأمل في رؤية موائد حوار وطني فلسطيني وقد التأمت، لا بهدف تقاسم كعكة السلطة ومنافعها وامتيازتها بين فتح وحماس، بل لوضع استراتيجيات وصياغة بدائل وإعداد خطط عمل للمراحل المقبلة؟
صحيفة الدستور الأردنية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية