نعم انتصروا.. وحقهم ان يحتفلوا
عبد البارى عطوان
الاحتفالات العفوية التي انفجرت طوال يوم امس في قطاع غزة ابتهاجا بالنصر، واعلان وقف اطلاق النار، تؤكد بالصوت والصورة ان اسرائيل خرجت خاسرة مهزومة من حرب الايام الثمانية التي شنتها على قطاع غزة.
بنيامين نتنياهو لم يتلفظ مطلقا، وطوال المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء يوم امس الاول بحضور وزير دفاعه ايهود باراك، ووزير خارجيته افيغدور ليبرمان، لم يتلفظ مرة واحدة بكلمة الانتصار في غزة، ولم ترد الكلمة نفسها على لسان اي من جنرالاته وهيئة اركان حكمه.
في حرب كانون الاول/ ديسمبر عام 2008 لم يخرج ابناء القطاع بالآلاف، مثلما حدث بالأمس، احتفالا بالانتصار، لأنهم كانوا يدركون جيدا انها كانت حربا من اتجاه واحد، أُخذت فيها حركات المقاومة في القطاع على حين غرّة، اي لم تكن جاهزة لها، ولم تملك الامكانيات القادرة على التصدي لها بفاعلية.
في الحرب الاخيرة اختلفت الصورة وتغيرت المعادلة، وفوجئت اسرائيل، مثلما فوجئ العالم بأسره، بامتلاك المقاومة اسلحة حديثة متطورة نجحت في الحاق الذعر بالاسرائيليين في قلب تل ابيب، ومنع الجيش الاسرائيلي من تنفيذ تهديداته باجتياح القطاع.
نتنياهو هو الذي استجدى وقف اطلاق النار، بدليل انه ومثلما تبيّن من نص اتفاق وقف اطلاق النار، لم ينجح في فرض اي من شروطه، وجاءت التهدئة مقابل التهدئة، في بداية تحقيق توازن في الرعب، كان منعدما طوال السنوات الماضية من عمر الصراع.
النصر مسألة نسبية، فهناك انتصار معنوي، وآخر عسكري، وثالث سياسي، والمقاومة نجحت في تحقيق الثلاثة، او اثنين منها على الأقل، وتعادلت في الثالث، اي انتصار سياسي تمثل في فرض نفسها قوة تفاوضية صلبة في جهود وقف اطلاق النار، وانتصار معنوي نفسي عندما صمدت في المواجهة بصلابة، ولم تنهر او تستسلم طوال ايام القصف، والأهم من ذلك توحيد الشعب الفلسطيني والعالم الاسلامي بأسره خلفها، اما التعادل فيمكن القول مجازيا انه تحقق في الميدان العسكري.
حرب غزة اثبتت عمليا ان نتنياهو لا يملك القرار المستقل، سواء في المجالات الاستراتيجية عندما فشل في تنفيذ تهديداته بضرب ايران في هجوم احادي منفرد، او في المجالات التكتيكية في الغلاف الفلسطيني المحدود، عندما لم يجرؤ على غزو قطاع غزة بريا، واضطر للرضوخ لمعطيات المفاجآت العسكرية للمقاومة، والإذعان لجهود الرئيس اوباما وضغوطه للقبول باتفاق التهدئة، للحيلولة دون الوقوع في مصيدة قد لا يعرف كيف يخرج منها في غزة، وتدمير اهم اركان السياسة الخارجية الامريكية، وقلب سلم اولوياتها في المنطقة العربية.
نحن امام عملية تصحيح استراتيجي للمفاهيم والتوازنات السياسية على الارض، اول اضلاعها عدم قدرة اسرائيل على املاء شروطها، وفرض الوقائع على الارض حسب مصالحها. فقد هاجمت غزة مرتين في غضون اربع سنوات، ولم تنجح في وقف الصواريخ، او انهاء ظاهرة المقاومة المتصاعدة فيها، مثلما فشل حصارها الخانق، الذي يتآكل حاليا، في منع وصول الاسلحة الحديثة المتطورة.
لا احد يستطيع ان يتنبأ بعمر هذه الهدنة الجديدة، اي كم ستطول او تقصر، ولكن ما يمكن التنبؤ به بكل ثقة، ان المقاومة باتت في حال معنوية عالية، وثقة اكبر على تحقيق انتصار اكبر في المرة المقبلة، ثم ان توقفها مؤقتا في غزة لا يعني عدم استئنافها من سيناء او اي مكان آخر.
في المواجهة الاخيرة وصلت الصواريخ الى قلب تل ابيب والقدس، وتلكأت الدبابات الاسرائيلية في دخول القطاع او الاقتراب من حدوده خوفا من صواريخ كورنيت المضادة للدروع، ولن نستغرب لو امتلكت المقاومة صواريخ مضادة للطائرات، فمن زودها بالصواريخ الاولى التي غيّرت المعادلات، لن يتردد في تزويدها بالصواريخ الثانية، او هكذا يقول منطق الاشياء، والمقصود هنا ايران التي شكرها السيدان خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، ورمضان عبدالله شلّح امين عام حركة الجهاد الاسلامي، في مؤتمرهما الصحافي المشترك، اعترافا بجميلها على حد قولهما.
انها حرب طويلة، في صراع عقائدي وجودي، بين الحق والباطل، ولن نستغرب او نستبعد ان نفيق ذات صباح على جولة جديدة، واكثر شراسة من الاولى، فالتهدئة ليست حلا للصراع، وانما تأجيل او تجميد لاحدى حلقاته، فطالما هناك ظلم واضطهاد وحصار واستيطان واذلال، سيستمر الاحتقان، وسيأتي عود الثقاب الذي يفجره، على شكل صاروخ او عملية اغتيال غادرة، لكن المواجهة المقبلة ستكون حتما مختلفة، وقد تكون في الضفة المنتفضة، او القطاع الملتهب، او الاثنين جنبا الى جنب.
انها معجزة المقاومة الفلسطينية المستمرة، والتي لا يمكن ان تُقهر مهما بلغت آلة القتل الاسرائيلي من فتك، ومهما تكالب العالم الغربي، وبعض العرب الرسميين على دعمها.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية