الآن انقشع غبار المماحكات والمزايدات، وتبددت كل الشكوك عن تورط تلك السلطة الفلسطينية وفريقها المفاوض، واستعدادها للرضا بالفتات من الأرض، وبعودة القليل من اللاجئين، وتسليم مفاتيح القدس عملياً للصهاينة، مع كامل الاستعداد لمواصلة الحرب على المقاومة سجناً وقتلاً ومطاردة ومصادرة.. وثائق قناة «الجزيرة» قطعت الشك باليقين، وقدمت للعالم بالكلمة والحرف الدليل تلو الدليل على أخطر عملية تنازل بشأن القضية الفلسطينية.
والحقيقة أن القضية الفلسطينية مبتلاة منذ نشأتها بمن ساهموا من بني جلدتنا في صنع نكبتها وليس السيد «محمود عباس» وفريقه فقط.
ومن يراجع تاريخ هذه القضية منذ بروزها في بدايات القرن الماضي وحتى اليوم؛ يكتشف بسهولة أن بعض الأيدي العربية الرسمية أسهمت بنصيب وافر في مساعدة الصهاينة على اختراق الأراضي الفلسطينية، وتثبيت وجودهم، وإقامة كيانهم الغاصب، ثم صناعة سياج يحميه على الحدود عبر اتفاقيات ما يسمَّى بــ«السلام».
ففي البدايات الأولى للتسلل الصهيوني لفلسطين في نهاية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت الأراضي المصرية في العهد الملكي البائد، وخلال الاحتلال الإنجليزي إحدى محطات استقبال وإعداد جموع الصهاينة القادمين من مناطق عدة في العالم، تمهيداً لدخول فلسطين. (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ج1 - بتصرف).
وعندما صدر وعد «بلفور» بوطن قومي للصهاينة في فلسطين، وهو القرار الذي يعني في ذات الوقت طرد أصحاب الأرض وتشريدهم وإبادتهم، كان الذي أطفأ انتفاضة العرب في داخل فلسطين عام 1929م ثم «ثورة العرب الكبرى» عام 1936م، هو تدخل بعض الحكام العرب عبر ندائهم الشهير في الأسبوع الثاني من شهر أكتوبر عام 1936م: «... ندعوكم إلى الإخلاد إلى السكينة، حقناً للدماء، معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية، ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل...» (محاضرات في تاريخ قضية فلسطين، ص186).
بالفعل خلد الثائرون إلى السكينة، ولم يتحقق إلا زيادة الظلم ظلاماً وإظلاماً، وواقع الحال اليوم خير شاهد..
وفي يونيو من عام 1946م، اجتمع سبعة من الحكام العرب في مدينة «أنشاص» المصرية، وأعلنوا «التمسك باستقلال فلسطين وعروبتها»، ولحق هذا الاجتماع اجتماعٌ للجامعة العربية في مدينة «بلودان السورية»، لكن رئيس مخابرات الجيش البريطاني في الشرق الأوسط «كلايتون» والمدير المساعد للمخابرات البريطانية في فلسطين «برايانس» حضرا الاجتماع الذي لم يستطع أحد من المشاركين فيه الخروج على رغبة بريطانيا بشأن فلسطين، وقرر المجتمعون الإذعان لما طلبته بريطانيا، وهو مفاوضة الحكومة البريطانية حول فلسطين، فإن فشلت المفاوضات انتقل النقاش للأمم المتحدة التي كانت جاهزة بقرار تقسيم فلسطين في 14 مايو 1948م، وهو «قرار النكبة» الذي أذعن له العرب؛ بل إن الجامعة العربية لم تتمكن من تنفيذ أحد قراراتها بتقديم مليون جنيه مساعدة للفلسطينيين إذعاناً للإملاءات البريطانية، وهو ذات الموقف الذي حدث للجامعة العربية عندما قررت كسر الحصار عن الشعب الفلسطيني في غزة قبل عامين، لكن حرفاً واحداً من هذا القرار لم ينفذ، والحصار الدائر حتى اليوم خير شاهد على ذلك.. أليس ما جرى بالأمس القريب يجري اليوم مع اختلاف المشاهد والأسماء؟!
ثم وقعت حرب 1948م التي حفلت بخيانات واختراقات على الجانب العربي، وسحق للمجاهدين من المقاومة الشعبية، مثلما حفلت عملية إصدار قرار التقسيم بتواطؤ كبير من أمين عام الأمم المتحدة في ذلك الوقت «تريجفي لي»، وبضغوط شديدة على الدول الرافضة للتقسيم..
وغني عن البيان هنا، فقد كان اللعب على شق الموقف الفلسطيني أحد مرتكزات السياسة الاستعمارية، منذ بروز القضية وحتى اليوم، ولعلنا نتابع أفاعيل تلك السياسة اليوم؛ فهي مجسدة في «فريق أوسلو» و«سلطة عباس»، المرتمية تحت أقدام الصهاينة والأمريكان، أملاً في الحصول على شيء، لكن دون جدوى؛ فالمطلوب منها صهيونياً وأمريكياً هو تعميق الانشقاق والفتنة في الصف الفلسطيني دون مقابل.
وقبل صدور قرار التقسيم رفضت بريطانيا حضور الوفد الفلسطيني لمؤتمر لندن عام 1946م، ورغم إلحاح الطرف الفلسطيني على وفد الجامعة العربية العمل على حضوره إلا أن الدول العربية لم تُعرْ ذلك الإلحاح اهتماماً، وذهب وفد الجامعة إلى لندن وحده وقدم أول هدايا التنازل العربي عن فلسطين إلى السيد «بيفن» وزير الخارجية البريطاني، عبر مشروع أطلق عليه «المشروع العربي».. الذي ينص في أهم وأخطر أجزائه على ما يلي:
«اعتراف العرب بما لليهود من كيان ومكان في فلسطين، على ألا يزيدوا في أي يوم من الأيام عن ثلث السكان، وهم مستعدون للسماح بهجرة جديدة عند اللزوم للمحافظة على النسبة المذكورة، وإنشاء مجلس تمثيل لا يتجاوز أعضاء اليهود فيه نسبة الثلث، على ألا يتخذ في ذلك المجلس أي قرار بشأن هجرة اليهود ومصالح اليهود، إلا إذا وافقت على ذلك أكثرية الأعضاء اليهود، على أن يتمتع اليهود في مناطقهم بحقوق دستورية، وبلغتهم العبرية وبالإشراف على التعليم وبقسط وافر من الحكم الذاتي، وأن يكون ذلك وسط دولة فلسطينية مرتبطة مع بريطانيا بمعاهدة تحالف» (جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن، صالح سعود أبو بصير، ص 294).
وهكذا في غيبة أصحاب القضية المكتوين بنار ما يجري، قدمت الجامعة العربية رسمياً أول التنازلات في فلسطين، وأرست طائعة مختارة أولى لبنات الكيان الصهيوني، مسطرة الكلمات الأولى من كتاب النكبة الأسود بحروف من الذل والهوان، ثم جاء «عباس وسلطته» ليكملوا سطور ذلك الكتاب!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية