كتبت ابتهال جمال منصور - أصعب ما في الكتابة الذكرى تلك التي تعيد لحظات مؤلمة بتفاصيلها تخرجها على الورق تمرر عنوة شريط حياتك أمام ناظريك.. ترددت كثيرا قبل أن أكتب هذه الكلمات لأنني أعلم أن المعاني قد تموت حين نكتبها خاصة تلك التي تخرج من القلب فكيف بالتي تخرج من جراح هذا القلب ..
كنت قد خططت بعضا من هذه السطور منذ فترة وآثرت أن أبقيها طي دفاتري مدة من الزمن .. وقررت أن أخرجها الآن في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لأمثال من رحلوا من الرجال ممن نعيش اليوم ذكراهم..
قد تكون الكلمات قاسية لكن كتمانها في النفس أقسى.. اعترف بان كلماتي عاجزة وضعيفة أمام عظمته .. أمام حنانه .. أمام قلبه .. وأمام عقله وفكره ..
من عرفه وسمعه وعايشه اقر بذلك ومن حظي بهذا بكى دما على فقده.. فكيف من كان قطعة من جسده ؟؟
قررت في هذا اليوم أن أحدثه هو .. فانا على ثقة بان كلماتي ستصله .. كيف لا وروحه تسكن فينا.. و كيف لا وقد أكرمه الله بأن يحيا بالشهادة, قال تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"..
إليك أبي اليوم وكل يوم.. إليك أبي حيا بيننا ..
أبي اشتقت لك .. لبسمتك الرائعة في أحلك الظروف.. لنظرتك الثاقبة إصرارا وعزما .. اشتقت لروحك التي كانت تملأ البيت مرحا .. لجبهتك السمراء التي ما سجدت إلا لله ..اشتقت لصلاة تؤمنا فيها وتلهج بدعائك الرائع .. اشتقت لجمال طلتك وبلسم حديثك.. اشتقت واشتقت واشتقت ..
ما أجملها من أيام وما أقساها من ظروف .. حياة عشناها معك بحلوها ومرها واليوم نسجلها ذكرى لا تمحى ..
بعد تسعة شهور من ميلادي بدأت مع أمي رحلة ليست ككل الرحل كما كنت تقول لنا رحلة سياحية ليست حول العالم وإنما حول فلسطين.. بدأت بسجن النقب الصحراوي وانتهت بسجن جنيد وما بين هذين السجنين .. سجون .. فراق ولقاء وبعد وقرب وفرح وحزن لم تزدك الا عزما ولم تزدنا الا وعيا ..
أتذكر يوم أن جئتك متسائلة عن عدد اعتقالاتك ومجموع سنواتها فأجبتني بابتسامة لن أنساها, أربعة عشر اعتقالا ما مجموعه تسع سنوات ونصف.. ما يعني ان عدد اعتقالاتك تجاوزت سنوات عمري الثلاثة عشر يومها.. اعلنت لحظتها الكف عن هذه الإحصاءات ..فما رأيته في عينيك من صمود أسطوري بدد ما كنت افكر به.
أتعلم يا أبي رغم صور القضبان وأسوار السجون التي علقت بذاكرتي مع صورك إلا أنني منك تعلمت ان خلف تلك القيود يكمن النصر ومن بين تلك السلاسل يشرق الأمل وأن أسوار السجن وان أخذت سنوات تتطاول وتتعالى فإنه سيأتي اليوم الذي تهوي فيه بدقائق بإذن الله أمام عزيمة المؤمنين من الرجال .
منك عرفت وتعلمت وحفرت كل كلمة من كلماتك نهجا ونبراسا.. يتعجب الكثيرون ممن اخبرهم بان رسائلك لي من داخل السجون بدأت وأنا في عامي الأول ويزداد تعجبهم عندما يقرأون فيها خطابا واعظا ومرشدا لطفلة في أعوامها الأولى .. لكنني وبعد أن أدركت الدنيا عرفت بأن رسائلك لم تكن رسائل مرحلة وإنما كانت رسائل نهج ومواثيق تربية..
"صغيرتي الحبيبة : " فتشت عن حديث أحدثك به فلم تطاوعني نفسي وأنا في وضعي الحالي أن أحدثك حديث الصغار فأنت عندي كبيرة كبيرة وأملي في أن تحتضني الحق وتكبري به لتكوني في ركب من رضي الله عنهم وأرضاهم "
تعلمت منك بأن لا أعيش لنفسي يوم أن كتبت لي قائلا : "لا أعرف ماذا أقول لك فمثلك لا يستوعب ما حدث فقبل ان تدركي الحياة وتفهمي أسرارها غيبوني عنك وغيبوك عني, ولكن لعل هذه الغيبة الجسدية هي المقدمة الضرورية لدخولك في المستقبل في دوامة الحياة التي تتطلب تضحية عزيزة وفي كل الظروف فالإنسان الذي يعيش لنفسه فقط يعيش صغيرا ويموت صغيرا فعلى قدر عظمة الإنسان تعظم أمانيه و آماله ويعيش لأمته و آمالها " لقد عشت للأمة فقضيت كبيرا يا أبي ..وصدقت قولك فعلا ..
منك عرفت ان أكون بخير إذا كان ديني بخير حتى لو تعب الجسد وأن كرامة الانسان وحريته أغلى ما يملك يوم أن قلت لي برسالتك : " أنا يا بابا بخير رغم أني مضرب عن الطعام منذ 12 يوما لم آكل فيها شيئا غير الماء والملح واحب يا بابا أن تعرفي أن حرية الإنسان وكرامته اعز من جسمه وصحته كما ان دينه اعز عنده من كل شيء وأهم من كل الحياة وما فيها".
جاء اليوم يا أبتي الذي افهم وأدرك فيه ما قلته لي في الصغر وتحقق رجاؤك يوم ان كتبت لي : " وددت لو انك تفهمين ما اقول لك لأفضي لك بأشواقي وحبي ولكن سيأتي يوم تعرفي فيه كل شيء عن ظلم الظالمين وحقد المحتلين في تفريق الاهل والاحباب وزرع الظلم والحسرة في كل مكان" .... نعم أبي لقد عرفت الظلم حق المعرفة.. وبفقدك ازداد إدراكي له ..
أكثر ما يؤلمني تلك السنوات البائسة الأخيرة التي قضيتها تحت حراب بني جلدتنا في سجن جنيد وسجن أريحا المركزي .. أتذكر حرقتك وألمك وأتذكر ثورتنا الطفولية على واقع تلك الأيام والتي كنت تلجمها بكلماتك المتزنة وصرامتك الحقة.. فتشد بما أوتيت من قوة على وحدة الصف الفلسطيني رغم انك ذقت الأمرين بحراب فلسطينية, وتعض على جراحك لتضيء ظلام مرحلة من طغيان السلطة الفلسطينية على مجاهدي الشعب وقادة نضاله عادت اليوم من جديد.
اه يا أبي لو ترى كيف أغلقت زنزانتك في سجن الجنيد مره أخرى وضمت بين جدرانها جيلا كنت ترقب نشأته وتتلهف لرؤية مجده, وكيف امتدت ذات اليد التي صافحتها متناسيا ألمك وسنوات قيدك في جولات الحوار الفلسطيني الفلسطيني لتقتل وتعتقل وتعذب خيرة شباب الوطن وتحرق مؤسساته وتفصل معلميه..
آه أبي لو ترى ما وصلت إليه الدنيا .. آه لو ترى .. فمثلك لا يكتفي بالنظر ناقدا مستنكرا لظلم عم و طم وطال الصغير والكبير .. المرأة والرجل .. فما أحوجنا لأمثالك اليوم ..
لم ولن أنسى ذلك اليوم بكل ثانية فيه .. بكل نظرة وابتسامة.. بكل خفقة قلب .. بكل دمعة نزلت من العيون مودعة لك.. اليوم تتجدد الذكرى.. تسع أعوام مرت.. في كل يوم يكبر أملنا باللقاء بك .. في كل يوم يزداد فخرنا بك .. في كل يوم ندوس على أشواك الدرب غير آبهين بجراح الجسد سيرا على طريق الجنة التي سلكت.. رغم صعوبة ذلك اليوم الا إنني عرفت فيه حق المعرفة كيف يودع الشهيد فرحا هذه الدنيا ويستعد للقاء ربه مطمئنا على ما قدم في حياته ..
همساتك أبي .. لمزاتك.. عيونك.. يديك.. كلها كانت تشي بموعد قريب للوداع.. ذلك الصباح المحفور في الذاكرة يوم ان أيقظتني بيديك وصوتك الحنون.. وأنت تذكرني بموعد دورة تحفيظ القران .. استيقظت ولم اعلم بأنها المرة الأخيرة التي ستوقظني بها.. ولم اعلم بأن كلماتك التي حدثتنا بها ستكون آخر ما نسمعه منك.. ولم اعلم وأنا أرقبك وأنت تخرج من باب البيت على عجل بأنها النظرة الأخيرة .. ولكنني اعلم علم اليقين بأن من وهب روحه وعمره وكل ذرة من حياته في سبيل الله يستحق ان يختاره الله من بين الخلائق ليكون الشهيد ..
لن اقول أتذكرك فأنت تحيا في كل زاوية من زوايا روحي وذاكرتي, واسمح لي أبي أن اطمئن نفسي بشيء من كلماتك لي فهي بلسمي ودوائي :"ابنتي الحبيبة سيأتي يوم نلتقي ولو في غير هذه الدار النكدة التي لولا نسائم الإيمان فيها لما طابت لنا فالحمد لله على كل حال "..
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية