الضفة الغربية ... حياة بنكهة دايتون
بقلم النائب/د.ناصر عبد الجواد
إنها صيحة إنذار لكل مخلص لهذا الوطن ولهذه الأمة، من التداعيات السلبية والكارثية على الوطن والمواطن ، بسبب الإجراءات الأمنية العنيفة والشاذة التي تمارس في الضفة الغربية في هذه المرحلة . هذه الإجراءات التي إن استمرت على هذا النحو لمدة طويلة فإن آثارها المدمرة ستنعكس سلباً على مجمل القضية الفلسطينية ، وعلى مستوى الأمة ككل.
لا يحسبن أحد أن هذا رجم بالغيب ، أو أنه صادر عن نفس محبطة يائسة ، فإن مؤشرات هذه التداعيات الخطيرة بدأت تظهر في كل مكان في الضفة الغربية ، وعلى كافة المستويات . حيث أصبحت عصا الأجهزة الأمنية تسيطر على كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس الخاصة والعامة ،فلها القرار في كل ما يدور في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية والخاصة ، وتتدخل في الزراعة والصناعة والورش والمراكز الثقافية والاجتماعية والدينية والخيرية ولجان الزكاة ، ولها اليد الطولى في مشاكل السكان وخصوصيات حياتهم حتى في قضايا الزواج والطلاق ومشاكل الأسرة . أصبح الهاجس الأمني يلاحق الناس رجالاً ونساء صغاراً وكبارا موظفين وعمال وعاطلين عن العمل حتى راعي الغنم أصبح يخشى من بطش هذه الأجهزة.
تجد المعلم في المدرسة يخشى من زملائه أن يشوا به ، وحين يدخل الى صفه ليعطي درسه يخشى من مندوبي الأجهزة الأمنية من التلاميذ أن تنقل عنه هفوة لسانلا تروق لهم . وتجد الطالب في المدرسة يحس بنفس الشعور الذي يحس به المعلم من ملاحقة هذه الأجهزة ، وتراه لا يُعْمِل مواهبه في أي نشاط طلابي كان يمارسه الطلاب سابقا حتى في أيام الإحتلال .
والجامعات خاوية على عروشها ، ليس فيهاأي نشاط طلابي ، وليس فيها ما كنا نتعلمه دائماً من ضرورة التفاعل بين طلاب الجامعات مع المجتمع حتى يكون التعليم الجامعي مجديا، حيث يذهب الطالب إلى الجامعة فقط ليتلقى ما يمليه عليه أستاذه ، ثم يرجع الى مكان سكنه مثل طلاب الابتدائية ، فلا تُصقل شخصيته من خلال التفاعل مع المجتمع ، أو من خلال الأنشطة الطلابية المختلفة . وبعد التخرج تبقى الموافقة الأمنيةحجر العثرة الأكبر أمام الوظيفة . يرى بأم عينيه التوظيف لغير المؤهلين وللفاسدين وللمقصرين ، بينما المتفوقون والمؤهلون الحقيقيون ملاحقون ومحرومون . وإذا حصل على هذه الوظيفة يبقى شبح الفصل التعسفي يطارده طوال الوقت.
وفي المساجد لم نعد نسمع خطب ومواعظ مؤثرة، بعد أن كانت عامرة حتى في أيام الإحتلال. لم يعد هناك دروس متخصصة في هذه المساجد في الفقه والتفسير والحديث واللغة... ، ولا يوجد دورات حقيقية لتعليم الأطفال أحكام التجويد وتحفيظ القرآن، أو تعليم الأجيال الآداب الإسلامية والأخلاق الحميدة وأحكام دينهم، لأن الأجهزة الأمنية تلاحق كل هذه الأنشطة. الهاجس الأمني يسيطر على رواد المساجد من المصلين، ترى المصلي يسارع بعد الصلاة للمغادرة فوراً خوفاً من المراقبة الدقيقة التي يقوم بها مندوبو الأجهزة المتفرغون لملاحقة رواد المساجد.
الإمام يتقيد بالخطبة المعدة له سلفاً من وزارة الأوقاف ، والويل له إذا خرج عن النص المكتوب، حتى وإن كانـت الخطبة شتائم وقدح لكبار علماء الأمة ورموزها الذين أجمعت الأمة على إمامتهم وعلمهم ونزاهتهم ووطنيتهم وتفانيهم في خدمة القضية الفلسطينية. كما أن الإمام لا يجرؤ أن يسمح لغيره أن يحل محله في الإمامة أو الخطابة حتى ولو كان هذا البديل يحمل درجة الدكتوراه في الشريعة، وحين يتجرأ الإمام لتقديم هذا الدكتور ليؤم الناس مكانه فإنه يُطلب للأجهزة الأمنية ويتعرض للبهدلة ويُنذر بالفصل من وظيفته إذا تكرر منه ذلك .
وبعد إغلاق المؤسسات الإجتماعية والخيرية والأهلية ولجان الزكاة، التي كانت تقدم العون والمساعدات لأبناء الشهداء والأسرى والمرضى والأيتام والفقراء والمعوزين، أصبح هؤلاء تحت رحمة المؤسسات التابعة للسلطة، التي تستغل أموال الدعم المسيَّس لابتزاز هؤلاء الغلابا وشراء ولائهم ، ومن يرفض ذلك منهم يضطر للتسول وإراقة ماء الوجه. كم رأينا مساعدات مكتوب عليها مثلاً: (مساعدة مقدمة من الشعب الفلاني إلى الشعب الفلسطيني) ، يحملونها ويوزعونها بطريقة مخزية ، يقولون: هذا صوَّت في الإنتخابات معنا فأعطوه ... وهذا صوّت للتغيير والإصلاح فلا تعطوه !! حتى أصبح الفقراء والمحتاجون مقتنعين أن الوسيلة الوحيدة لإعالة أبنائهم وأهلهم هو الحصول على رضى هؤلاء والتزلف إليهم.
الفساد الأخلاقي في الضفة ينتشر انتشار النار في الهشيم ، ولا يجد من يحول دونه، بل ويجد الرعاية والتشجيع من الأجهزة الأمنية . أنا لا أتحدث هنا عن شهادات فهمي شبانة في القناة العاشرة الإسرائيلية، ولكنني أتحدث عن حقائق يعرفها الجميع في كل حارة وقرية وحي ، حتى أصبح الأطفال يتندرون بها، والقصص والحكايات في هذا الموضوع أكثر من أن تحصى. أصبح المواطن يرى المنكرات بأم عينيه، ولا يجرؤ على عمل أي شيء، خاصة إذا كان الذي يفعل ذلك من له صلة بأفراد الأجهزة الأمنية. وعلماء الأمة المخلصون يُمنعون من القيام بواجبهم في وعظ الناس والوقوف أمام هذه الانحرافات والمنكرات، لأنهم إما مُغَيّبون في السجون أو لأنهم ملاحقون وتعد عليهم أنفاسهم .
المقاومة الشرعية للاحتلال مُجرَّمة ومُطاردة، ويتم ملاحقة كل من كان في يوم من الأيام مقاوما بكل عنف وقسوة ووحشية. فقد تم جمع سلاح كل المقاومين ، وتم تسليم معظم هذا السلاح إلى الإحتلال . ومن خلال التنسيق الأمني الخياني يتم تبادل الأدوار مع الاحتلال في ملاحقة وسحق كل من يفكر في المقاومة . في ظل هذه الأوضاع أصبحت مجموعة قلقيلية المجاهدة(مجموعة السمان)مثلاً، التي دوّخت الاحتلال لأكثر من ست سنوات مجرمة وخائنة ، ومن ثم تلاحق وتُصَفّى ، ويُعتقل ويُعذب عذاباً شديداً كل من آواها أو قدم لها أية مساعدة. بينما المفسدون الذين فاحت رائحة فسادهم الأخلاقي، وسرقتهم لأموال الشعب، أصبحوا أبطالاً ووطنيين وشرفاء، ويكافأوا على فسادهم وانحرافاتهم.
يتحدثون عن انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة ، ولا ندري كيف ستكون هذه الإنتخابات حرة ونزيهة في مثل هذه الأجواء . أين الحرية والنزاهة والمواطن يُعتقل ويُعذب ويُلاحق لأنه انتخب كتلة التغيير والإصلاح قبل أربع سنوات ، من يضمن لهذا الناخب أن لا يعتقل ويحاسب بعد عشر سنوات إذا تجرأ وانتخب التغيير والإصلاح مرة ثانية في الإنتخابات القادمة . وكيف ستكون هذه الإنتخابات حرة ونزيهة إذا كان المرشح لا يجد من يرفع له يافطة أو صورة ، بل ولا يجد من يمشي معه ، أويصافحه أو يتحدث معه، لأن من يفعل ذلك يُعتقل ويحاسب ويفصل من وظيفته ، أو لن يحصل على الموافقة الأمنية للحصول على هذه الوظيفة أو ليعمل أي عمل يعيل به نفسه وعائلته !!
لا أريد أن أذكر أمثلة ونماذج على كل قضية من هذه القضايا، رغم توافر المئات من الأمثلة والشواهد على كل موضوع من هذه المواضيع ، ومعظم المواطنين الذين تعرضوا لهذه الانتهاكات وهذا البطش لا يجرؤون على الإدلاء بشهاداتهم خوفاً من العواقب الوخيمة. ونحن نذكر هذه العناوين السريعة لمعرفة ما آلت إليه الأوضاع في الضفة الغربية هذه الأيام ، ومن باب الإعذار إلى الله ، حتى لا نتهم عنده سبحانه بالسكوت عن كلمة الحق، فنستحق وصف (الشيطان الأخرس).
والسؤال الكبير هو: ماذا سيكون حال الناس وحال القضية الفلسطينية في الضفة إذا استمرت هذه الأحوال ؟! وما هي النتائج والثمار لتحكم الفاسدين والفاشلين والظالمين في التربية والتعليم والأوقاف والصحة والأمن والإعلام والمراكز الثقافية ... في الضفة مدة طويلة ؟كيف سيكون حال الوطن بعد عشر سنوات مثلاً من هذه الأوضاع الشاذة ؟! هل سيبقى هناك وطناً عربياً إسلامياً اسمه فلسطين ؟ وهل هذا هو شكل الدولة العتيدة ( الحلم الفلسطيني ) التي يُمَنُّون بها الناس؟! وأين الإعداد المطلوب لمقاومة الإحتلال وتحرير الأوطان والمقدسات؟
لن يجد الوطن رجالاً يدافعون عن حماه ، ولن يجد الإحتلال من يقف أمام مؤامراته وكيده المتواصل، ولن تجد المقدسات من يحميها. وسيصبح المواطن لا يهتم إلا بنفسه ، ويلهث وراء مصالحه الخاصة ، فلا وطن يهمه ، ولا أخلاق فاضلة تستحق الاهتمام أو الاحترام ، وسينشغل الشباب والشابات بالأمور التافهة ، وستربى الأجيال على الخنوع والاستسلام واستمراء الرذيلة... وبالتالي يستطيع الإحتلال أن يسرح ويمرح وأن يفعل ما يشاء دون خوف من أحد. وستجد الأجهزة الأمنية نفسها ضحية هذه الممارسات. فستبقى تتقاضى الرواتب المجزية في مقابل توفير الأمن والحماية للمحتلين ، لأن هذه الرواتب مرتبطة بهذه الحماية للاحتلال.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية