إعلام الأزمة الفلسطيني!!
أحمد أبو رتيمة
أحياناً أقلب محطات التلفاز صباحاً فأجد الصبغة العامة للبرامج الصباحية هي صبغة ترفيهية والمواضيع المتناولة مواضيع خفيفة تقدم للمشاهد جرعةً تفاؤليةً في مستهل يومه وتخرجه من نكد الواقع، لكن حين أصل إلى المحطات الفلسطينية لا أجد فيها سوى أخبار الموت والأحزان والمآسي والانقسام، وغير ذلك من المفردات التي تشبعنا بها منذ أن ولدنا..
أما إحدى الأخوات الإعلاميات فقد قالت لي إنها عاكفة على إنجاز عمل درامي لشهر رمضان قلت لها: ماذا ستسمينه، قالت لي: شذا الجراح أو إخوة الدم!!
لا أملك أن أتجاهل الأسباب الموضوعية التي أنتجت هذا الإعلام الذي يتخذ من أحاديث الموت والجراح والمآسي محور تركيزه، فحياة الفلسطينيين مسلسل متواصل من أخبار القتل والأسر والهدم والحصار والفقر وغير ذلك من مفردات المعاناة، لكن حين تكون المعاناة متواصلةً منذ أكثر من خمسة وستين عاماً وليست حدثاً عابراً يزول بعد بضعة أيام أو أسابيع أو أشهر، فإننا لا نستطيع أن نظل أسرى للون واحد طوال حياتنا ولا بد من التمرد على مرارة الواقع ومجاهدته وانتزاع فرص للفرح والتفاؤل من بين أنياب الموت..
خطورة إعلام الأزمة هي أنه يرسخ مشاعر السلبية والإحباط في نفوس الناس فيعطل قدراتهم على الانطلاق وصناعة الحياة، في إعلام الأزمة تصبح النفوس مشبعةً بالإحباط والتشاؤم فلا تعود صالحةً لصناعة الحياة، وحينها سنفشل في التواصل مع العالم وإيصال رسالتنا إليهم لأننا نتحدث لغةً مختلفةً وشاذةً، فمثلاً في الإعلام الفلسطيني نعتقد أن صور الأشلاء الممزقة يعد مشهداً مؤثراً فنسارع إلى توزيع هذه المشاهد على وكالات الأنباء العالمية ظناً منا بأنها ستثير التعاطف العالمي معنا، لكن ما يحدث هو أن الصور المبالغ في فظاعتها وقسوتها تزهد الناس في المتابعة والاهتمام لأن نفوس البشر مجبولة على حب الحياة وعلى الرغبة في تجاوز الأحزان والمآسي فلا يطيق المشاهد الذي نشأ في ظروف طبيعية أن يظل أسيراً لمشاهد العنف والقسوة، وصورة طفلة تبحث عن حقيبتها في الركام، أو طفل يرسم صورة أبيه الشهيد هي أكثر تأثيراً من صور الأشلاء الممزقة والعمارات المدمرة..
الحديث المعتدل عن جانب المأساة يحدث أثراً إيجابياً في أنه يحرضنا على عدونا ويذكرنا بالتكلفة الباهظة التي سنظل ندفعها ما دام الاحتلال جاثماً على صدورنا ويستفزنا للمقاومة، لكن الإفراط في هذا الجانب وسيطرته على كل طاقتنا ووقتنا سيقلب النتيجة إلى عكسها إذ إنه سيصيب المشاهد بالبلادة تجاه أخبار الموت والدمار وسيميت فيه روح التفاعل وسيكبله بمشاعر الإحباط والعجز، وسيخلق لديه نظرةً متشائمةً تفتقد الرغبة في المواصلة والتحدي والانتصار..
في الإعلام الإسرائيلي نلمس حرصاً على إبقاء الجبهة الداخلية في حالة إيجابية بعيدة عن التوتر، فحين يكون هناك خبر سلبي متمثلاً في عملية فدائية أو كارثة طبيعية فإن هذا الخبر لا يحتل سوى حيز محدود من تغطية الإعلام الإسرائيلي، وغالباً لا تتجاوز تغطيته المساحة المخصصة لنشرات الأخبار ثم يواصل الإعلام بعد ذلك برامجه الاعتيادية من أغنيات وترفيه وذلك حتى يخرج الإسرائيلي من الحالة السلبية التي تسببها هذه الأخبار. هذا النموذج الإسرائيلي وإن كان صعباً أن نتمثله حرفياً كون منسوب التضحية عندنا أعلى بكثير مما هو عندهم، إلا أنه يمكن الاستفادة منه فلسطينياً عبر تخفيف حدة خطاب الألم، وإفراد مساحات أوسع لتعزيز إرادة الحياة ومشاعر التفاؤل تجاهها..
سألت الفنان نبيل الخطيب عن سر تغيير اسم فرقته المشهورة بفرقة الشهداء إلى اسم جديد هو فرقة النشامى، قال لي: إن الناس مشبعون إلى أقصى حد بخطاب الشهداء والآلام والأحزان فلا بد من إخراجهم من هذه الحالة..
إن الخروج من إعلام الأزمة ليس خيانةً لدماء الشهداء ولا تنكراً لجراحات الشعب الفلسطيني، كما قد يتوهم، بل إن تجاوزه هو الذي سيمدنا بالطاقة اللازمة للمواصلة لأن الإنسان لن يتمسك بالدفاع عن الحياة والانتصار فيها إلا حين تقوى فيه إرادة الحياة وتتعزز في نفسه مشاعر التفاؤل تجاهها..
أحمد أبو رتيمة
أحياناً أقلب محطات التلفاز صباحاً فأجد الصبغة العامة للبرامج الصباحية هي صبغة ترفيهية والمواضيع المتناولة مواضيع خفيفة تقدم للمشاهد جرعةً تفاؤليةً في مستهل يومه وتخرجه من نكد الواقع، لكن حين أصل إلى المحطات الفلسطينية لا أجد فيها سوى أخبار الموت والأحزان والمآسي والانقسام، وغير ذلك من المفردات التي تشبعنا بها منذ أن ولدنا..
أما إحدى الأخوات الإعلاميات فقد قالت لي إنها عاكفة على إنجاز عمل درامي لشهر رمضان قلت لها: ماذا ستسمينه، قالت لي: شذا الجراح أو إخوة الدم!!
لا أملك أن أتجاهل الأسباب الموضوعية التي أنتجت هذا الإعلام الذي يتخذ من أحاديث الموت والجراح والمآسي محور تركيزه، فحياة الفلسطينيين مسلسل متواصل من أخبار القتل والأسر والهدم والحصار والفقر وغير ذلك من مفردات المعاناة، لكن حين تكون المعاناة متواصلةً منذ أكثر من خمسة وستين عاماً وليست حدثاً عابراً يزول بعد بضعة أيام أو أسابيع أو أشهر، فإننا لا نستطيع أن نظل أسرى للون واحد طوال حياتنا ولا بد من التمرد على مرارة الواقع ومجاهدته وانتزاع فرص للفرح والتفاؤل من بين أنياب الموت..
خطورة إعلام الأزمة هي أنه يرسخ مشاعر السلبية والإحباط في نفوس الناس فيعطل قدراتهم على الانطلاق وصناعة الحياة، في إعلام الأزمة تصبح النفوس مشبعةً بالإحباط والتشاؤم فلا تعود صالحةً لصناعة الحياة، وحينها سنفشل في التواصل مع العالم وإيصال رسالتنا إليهم لأننا نتحدث لغةً مختلفةً وشاذةً، فمثلاً في الإعلام الفلسطيني نعتقد أن صور الأشلاء الممزقة يعد مشهداً مؤثراً فنسارع إلى توزيع هذه المشاهد على وكالات الأنباء العالمية ظناً منا بأنها ستثير التعاطف العالمي معنا، لكن ما يحدث هو أن الصور المبالغ في فظاعتها وقسوتها تزهد الناس في المتابعة والاهتمام لأن نفوس البشر مجبولة على حب الحياة وعلى الرغبة في تجاوز الأحزان والمآسي فلا يطيق المشاهد الذي نشأ في ظروف طبيعية أن يظل أسيراً لمشاهد العنف والقسوة، وصورة طفلة تبحث عن حقيبتها في الركام، أو طفل يرسم صورة أبيه الشهيد هي أكثر تأثيراً من صور الأشلاء الممزقة والعمارات المدمرة..
الحديث المعتدل عن جانب المأساة يحدث أثراً إيجابياً في أنه يحرضنا على عدونا ويذكرنا بالتكلفة الباهظة التي سنظل ندفعها ما دام الاحتلال جاثماً على صدورنا ويستفزنا للمقاومة، لكن الإفراط في هذا الجانب وسيطرته على كل طاقتنا ووقتنا سيقلب النتيجة إلى عكسها إذ إنه سيصيب المشاهد بالبلادة تجاه أخبار الموت والدمار وسيميت فيه روح التفاعل وسيكبله بمشاعر الإحباط والعجز، وسيخلق لديه نظرةً متشائمةً تفتقد الرغبة في المواصلة والتحدي والانتصار..
في الإعلام الإسرائيلي نلمس حرصاً على إبقاء الجبهة الداخلية في حالة إيجابية بعيدة عن التوتر، فحين يكون هناك خبر سلبي متمثلاً في عملية فدائية أو كارثة طبيعية فإن هذا الخبر لا يحتل سوى حيز محدود من تغطية الإعلام الإسرائيلي، وغالباً لا تتجاوز تغطيته المساحة المخصصة لنشرات الأخبار ثم يواصل الإعلام بعد ذلك برامجه الاعتيادية من أغنيات وترفيه وذلك حتى يخرج الإسرائيلي من الحالة السلبية التي تسببها هذه الأخبار. هذا النموذج الإسرائيلي وإن كان صعباً أن نتمثله حرفياً كون منسوب التضحية عندنا أعلى بكثير مما هو عندهم، إلا أنه يمكن الاستفادة منه فلسطينياً عبر تخفيف حدة خطاب الألم، وإفراد مساحات أوسع لتعزيز إرادة الحياة ومشاعر التفاؤل تجاهها..
سألت الفنان نبيل الخطيب عن سر تغيير اسم فرقته المشهورة بفرقة الشهداء إلى اسم جديد هو فرقة النشامى، قال لي: إن الناس مشبعون إلى أقصى حد بخطاب الشهداء والآلام والأحزان فلا بد من إخراجهم من هذه الحالة..
إن الخروج من إعلام الأزمة ليس خيانةً لدماء الشهداء ولا تنكراً لجراحات الشعب الفلسطيني، كما قد يتوهم، بل إن تجاوزه هو الذي سيمدنا بالطاقة اللازمة للمواصلة لأن الإنسان لن يتمسك بالدفاع عن الحياة والانتصار فيها إلا حين تقوى فيه إرادة الحياة وتتعزز في نفسه مشاعر التفاؤل تجاهها..
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية