الشتات في المشهد الوطني الفلسطيني
د. أحمد عطاونة
رغم كثرة الضجيج في الساحة السياسة الفلسطينية، سواء على مسار التسوية أو فيما يتعلق بالشأن الداخلي، فالمنظومة السياسية الوطنية كطاحون هواء، لا تصدر إلا صوتا؛ حيث يسود المشهد السياسي والوطني الفلسطيني حالة جمود استثنائية، تبدو وكأنها نتيجة لحالة من العجز أصابت مختلف الفرقاء. ولا يبدو أي طرف، لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية، قادراً على تجاوز الآخر أو دفعه لمساندة مشروعه السياسي أو حتى العمل ضمن المشترك الوطني الممكن.الوضع العربي والاقليمي ساهم بشكل كبير في تعزيز هذه الحالة، فبات الفلسطينيون ينتظرون، كل لأسبابه، ما ستؤول إليه الحالة العربية خاصة بعد الهجمة العنيفة للثورة المضادة للربيع العربي. فقد قدم الانقلاب العسكري الذي حدث في مصر، وعودة النظام السياسي الشمولي الذي يربط مصيره بمصير دولة الاحتلال والنفوذ الامريكي في المنطقة، قبلة حياة لتيار التسوية وشعر هؤلاء بأن الساعة عادت إلى الوراء وأن خيار التسويات هو الوحيد الممكن في ظل التّيه العربي الممتد. في ذات الوقت يصرّ تيار المقاومة على التمسك بخياره مستنداً إلى ما يراه حقائق في التعامل مع الاحتلال وقوة مؤثرة رسّخها على الأرض وكذلك قراءة سياسية للواقع العربي ترى أن المعركة لم تحسم بعد لصالح النظم الشمولية وأن الشعوب ستنجز حريتها قريباً وستساند المقاومة وبرنامجها.
ومما يجعل من حالة الجمود خطراً على القضية الوطنية أن كلاً من برنامجي التسوية والمقاومة أصبح له حيزاً جغرافياً يسيطر عليه ولا يبدو أنه سيسمح لبرنامج الآخر أن يشاركه هذا الحيز. ويبدو، ولو مرحلياً، أن كل برنامج بما لديه من أوراق قوة وجغرافيا قد وصل إلى ذروة الفعل الممكن، فلا المقاومة، رغم أدائها الاستثنائي، قادرة على تغيير قواعد اللعبة التي فرضت بعد إنسحاب قوات الاحتلال من غزة (2005) ورسختها ثلاثة حروب ما بين 2008-2014 ولا تيار التسوية قادر على تحقيق شيء على الأرض فلم يعد لديه ما يمكن أن يقدمه وهو يناور سياسيا بطريقة تثير الشفقة. هذا الوضع قد يدفع إلى تقديم تنازلات كبيرة على أمل تحريك المياه الراكدة واستثمار ما قد يعتبره تيار التسوية ظرفاً مواتياً، وهو ما يشير اليه المشروع الذي سيقدم هذا الأسبوع إلى مجلس الأمن لتحديد سقف زمني لإنهاء الاحتلال.
هذا التعقيد الخطير في المشهد الفلسطيني يتطلب البحث عن عوامل مؤثرة أخرى في الشأن السياسي والوطني الفلسطيني لديها شرعية وطنية وقادرة على التأثير بحيث تحمي البوصلة الوطنية من الانحراف، وتتجاوز ثنائية غزة والضفة أو المقاومة والتسوية. هنا يبرز دور الشتات الفلسطيني. الشتات الذي كان ولعقود طويلة، امتدت منذ نشأة القضية وحتى إتفاق أوسلو، حاملا راية القضية الوطنية بكل ملفاتها. الشتات الذي أطلق ورعى النضال الفلسطيني لعقود وأسس منظمة التحرير الفلسطينية وقدم تضحيات جسام للحفاظ على الهوية الفلسطينية والتعريف بالقضية في كل أصقاع الأرض، و الذي خاض نضالاً طويلاً وحروباً شرسة في سبيل قضيته الوطنية في الوقت الذي كان الداخل يعيش متاهة كبيرة.
دور الشتات الفلسطيني كان أحد أهم القضايا الوطنية المستهدفة من إتفاق أوسلو، وتفريغ دوره الوطني من مضمونه كان هدفاً لكل من رغب في حل القضية الفلسطينية عبر تسوية لا تعيد الحد الأدنى من الحقوق المتفق عليها وطنياً وفصائلياً. لقد نقل اتفاق أوسلو ثقل القرار الفلسطيني إلى الداخل، وجعل من السلطة الفلسطينية، التي تقر قيادتها بمحدودية دورها وعجزه، المتحكم ليس فقط في القرار الفلسطيني، بل وفي مؤسسات )م ت ف( وميزانياتها وفصائلها. مما أفقد الشتات الذي يمثل نصف الشعب الفلسطيني جزءاً مهما من أدواته في التأثير، بل جعلهم في بعض الدول يعتمدون في مسائل عدة على السلطة الفلسطينية. وللأسف فإن الشتات وحتى اللحظة لا يبدي قدرة على مقاومة هذا الحال أو تجاوزه.
إن عودة الدور الوطني الفاعل لفلسطيني الشتات بات ضرورة ملحة وحاجة وطنية ماسة، ولا ينبغي للشتات أن يستسلم للتهميش الذي فرضه اتفاق اوسلو. فمنذ ذلك الحين وهو يلعب دوراً هامشياً في المسيرة الوطنية وبالذات في القرار الوطني. إن إعادة تعريف الشتات لدوره والبحث عن الآليات الكفيلة بفرض تأثيره على القرار الوطني بما يتلائم مع حجمه وقدراته ضرورة وطنية. ستة ملايين فلسطيني جلهم من اللاجئين لا يعقل أن يغيّبوا أو يقتصر دورهم على العمل الاغاثي والخيري. تنظيم الحملات الاغاثية والاعلامية والنشاطات الاجتماعية على أهميتها لا تعبر عن الدور المطلوب، فلدى الفلسطينيون أصدقاء كثر حول العالم يقومون بهذا الدور. إن تشكيل جسم سياسي وتنظيم فعاليات ذات تاثير على القرار السياسي بما يحافظ على الثوابت الوطنية هو ما يجب على الشتات القيام به، ليستعيد قدراً من دوره ويؤدي شطراً من واجبه. لا بد للشتات من أن يعيد اكتشاف ذاته وتحديد هويته وتعريف دوره الوطني.
رغم تقديرنا للظروف الصعبة التي يعيشها الفلسطينيون في أكثر من قطر، إلا أن أحد أهم عوامل الأزمة الوطنية هو عدم قيام الشتات بما ينبغي أن يقوم به، لذا لا بد من العمل على تجاوز أي عقبات تحول دونه. إن وجود الفلسطينيين في دول عدة لكل منها ظروفها وسياسياتها وحساسيتها لا يعني انعدام إمكانية تعزيز دوره السياسي وبما لا يتسبب باشكالات مع الدول المضيفة، فلا أحد يرغب في افتعال أزمات جديدة. فالدور المرغوب والذي ندعو إليه يهدف إلى تصويب البوصلة الوطنية لا حرفها. لكن الهامش المتاح في عدد كبير من الدول المضيفة يسمح بأن يخرج صوت سياسي مؤثر، مساند للثوابت وضاغط لاخراج المشروع الوطني وبالذات على المستوى القيادي من أزمته؛ سيما في القضايا التي تمس الشتات بشكل مباشر، فهل يعقل أن يُعلي من هم على أرض فلسطين صوتهم الرافض للمساس بحق العودة ولا يسمع صوت للاجئين في الشتات؟!. وهل يعقل أن تبقى منظمة التحرير، التي هي مؤسسة الشتات بالأساس، تعاني هذه الحالة من الترهل والتغييب ولا يستدعى بعض مؤسساتها إلا لاضفاء شرعية على خطوات أما لتعزيز الانقسام أو الاستمرار في مسار العبث التفاوضي؟!.
إن القضية الوطنية الفلسطينية تمر بمأزق جدّي يستدعي جهد كل أبنائها بفصائلهم ومؤسساتهم في كل أماكن تواجدهم. إن أحداً من الفلسطينيين أينما كان ومهما كانت الظروف التي يمر بها لا يمكن إعفاؤه من المسؤولية عما آلت اليه حال الفلسطينيين وقضيتهم. كما أن كل خطوة أو تطور سياسي فلسطيني ينبغي أن يكون مناط اهتمام الفلسطينيين أينما كانوا. إن الاستسلام لما فرضه الاحتلال على الفلسطينيين من تقسيم بين غزة والضفة والشتات يعد شكلاً من أشكال الهزيمة التي لا ينبغي التسليم بها. وعلى القيادة الفلسطينية بفصائلها ومؤسساتها أن لا تسقط من حساباتها وحدة الشعب الفلسطيني ووحدة أهدافه وثوابته عند اتخاذ القرارات أو وضع السياسات. إن عدم التعاطي مع الشأن الفلسطيني كوحدة واحدة "غزة والضفة والشتات" قاد إلى كوراث وطنية في أماكن وأزمنة مختلفة وهو ما لا بد من العمل على تجنبه.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية