الفلسطينيون والانتفاضة الثالثة
أحمد العطاونة
تشير الأحداث المتصاعدة في فلسطين المحتلة، ولا سيما في مدينة القدس، إلى إمكانية اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. وتبدو معظم الفصائل، وكذلك النشطاء السياسيين، متحمسين لها، خصوصاً في ظل الانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة في المسجد الأقصى والضفة الغربية، بالتزامن مع انسداد الأفق السياسي.
وإذ يرى بعضهم في الانتفاضة مخرجاً ممكناً من الأزمات السياسية التي تواجه القضية الفلسطينية ومساراً ممكناً لحل المشكلات السياسية الداخلية والتخلّص من الانقسام، إلا أن اندلاع انتفاضة في ظل الظروف السياسية الإقليمية والدولية، وكذلك المشهد السياسي الفلسطيني المتشظي، ينطوي على مخاطر حقيقية.
هي ليست دعوة للخنوع وعدم الدفاع عن الأقصى، أو الامتناع عن ممارسة الفلسطينيين حقهم في المقاومة بأشكالها كافة، وفي كل وقت، ما داموا تحت الاحتلال، لكنها دعوة، ولفت انتباه، إلى ضرورة ترتيب البيت، وإعادة صياغة المشهد السياسي الفلسطيني، ولا سيما القيادي منه، قبل الانخراط في انتفاضة شاملة.
فالفلسطينيون مطالبون بالتعلّم من تجاربهم السابقة، واستخلاص العبر منها، والفصائل الفلسطينية وقياداتها لا بد لها من أن تتعامل بمسؤولية مع معاناة شعبها، وأن ترتقي إلى مستوى نضالاته وجهاده وتضحياته، فالمقاومة التي يبدع الفلسطينيون في ممارستها لا بد لها من قيادة صادقة وقادرة؛ صادقة في تبنيها ودعمها، وقادرة على استثمارها لخدمة المشروع الوطني.
قضايا كثيرة يجب التدقيق فيها قبل الحديث عن الانتفاضة، كالوضع الإقليمي والدولي وحال العرب المهترئ، بل والمشتعل في معظم الأقطار العربية. لكن، يبقى الأهم هو التدقيق في الواقع السياسي الفلسطيني، كون العامل الذاتي دائماً يتقدم في الأهمية على العوامل الموضوعية. فالساحة السياسية الفلسطينية تعاني من أزمات حادة، قد لا يصلح، ولا يصح، معها الحديث عن انتفاضة، وهي الأزمات التي حالت دون الاستفادة من الأداء البطولي الاستثنائي للمقاومة الفلسطينية خلال الحرب الأخيرة على غزة، لا بل بددت وهدرت دماء آلاف الشهداء والجرحى ومعاناة مليوني فلسطيني في القطاع، ما جعل منها فاجعة سياسية، يجب أن نتعلّم منها ولا نتجاوزها بدون استخلاص العبر.
لا بد من وجود رؤية لدى الفلسطينيين لكيفية إدارة انتفاضةٍ تقتصر على الضفة الغربية في ظل الانقسام الذي لم يعد يقتصر على السياسة فحسب، بل تعداها إلى مجالات الحياة الأخرى. كيف يمكن التعامل مع الواقع، بكل تفاصيله، في قطاع غزة، وما هو الدور المنوط به، استناداً إلى هذا الواقع؟ ما هو دور الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، في ضوء العقيدة الأمنية والبنية التي بنيت عليها في سنوات ما بعد الانقسام؟ كيف يمكن لقيادة لا تؤمن أبداً بالمقاومة، أو ما تسميه "العنف"، أن تقود شعباً منتفضاً؟ الإجابة على هذه التساؤلات، وغيرها الكثير، ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة ملحّة وشرط لبناء رؤية سياسية لأية مرحلة نضالية جديدة.
عانى الشعب الفلسطيني تاريخياً من أزمة قيادة، وقام بموجات ثورية وانتفاضات، بل وخاض حروباً عدة، أظهر فيها قدراً كبيراً من العطاء والتضحية والفداء، لكنه دائماً، وبالإضافة إلى العوامل الخارجية المؤثرة، وجد قيادة سياسية عاجزة عن مواكبة نضاله، أو استثماره بما يخدم مشروعه التحرري.
وينطبق هذا، بتفاوت نسبي، على ثورة فلسطين الكبرى (1936) ودور الملوك العرب في التأثير على اللجنة العربية العليا ووقف الإضراب، وعلى الاجتياح الاسرائيلي للبنان (1982) والصمود الأسطوري في بيروت، والذي انتهى باعتلاء قيادة منظمة التحرير القطار الأميركي، حسب كلمات قيادي فلسطيني ممّن عاصروا تلك المرحلة. الأمر نفسه ينطبق على الانتفاضة الأولى (1987)، التي "توّجت" باتفاق أوسلو البائس، والانتفاضة الثانية (2000) التي قادتنا فيها (حكمة) القيادة إلى انقسام وطني غير مسبوق.
المأمول أن يخوض الفلسطينيون، ولو لمرة، غمار معركة مع المحتل، وهم مستعدون لها، ولديهم قيادة قادرة على الوقوف إلى جانب شعبها ومناضليه، وقادرة على استثمار تضحياته وبطولات أبنائه بما يخدم مشروع التحرر والانعتاق من الاحتلال. الفصائل الفلسطينية مطالبة بأن تتصرف بشكل وطني ومسؤول، وتضع شعبها في صورة واقعها وقدراتها وتوجهاتها السياسية، بكل شفافية ووضوح، حتى لا يخدع مرة أخرى.
لا بد من بناء قيادة وطنية موحدة، تعبّر بشكل حقيقي وفاعل عن توجهات الشعب الفلسطيني، وانتماءاته الحزبية والسياسية، لا بد من إعادة بناء منظمة التحرير، لتكون ممثلاً شرعياً حقيقياً، لا ينازعها تمثيلها أو يشكك فيه أحد، يجب إعادة تصويب البوصلة لدى الفصائل الفلسطينية لتشير بشكلٍ لا لبس فيه إلى أن العدو الأول والوحيد هو الاحتلال، فلا يصح لفصيل فلسطيني أن يضع قدماً في معسكر المقاومة وأخرى في المعسكر الآخر، كما يجب التوقف فوراً عن الانخراط في لعبة المحاور والصراعات الاقليمية التي هي أكبر من إمكانات الفصائل الفلسطينية بكثير.
لا ينبغي لأي فصيل، أو قيادي، يتحدث عن انتفاضة، ويعمل على إشعالها أن يغفل ما سبق ذكره، وإنْ وجد مَن يخطط لانتفاضة، فعليه أن يغفل التفكير في الآليات اللازمة لتجاوز العقبات الداخلية.
خلاصة القول: إن الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بقدر حاجتهما إلى انتفاضة تردع المحتل، وتنتزع الحقوق، فهما، أيضاً، بحاجة ماسة إلى قيادة قادرة، ملتحمة مع شعبها، معبّرة عن طموحاته وممثلة لأطيافه كافة.
أحمد العطاونة
تشير الأحداث المتصاعدة في فلسطين المحتلة، ولا سيما في مدينة القدس، إلى إمكانية اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة. وتبدو معظم الفصائل، وكذلك النشطاء السياسيين، متحمسين لها، خصوصاً في ظل الانتهاكات الاسرائيلية المتواصلة في المسجد الأقصى والضفة الغربية، بالتزامن مع انسداد الأفق السياسي.
وإذ يرى بعضهم في الانتفاضة مخرجاً ممكناً من الأزمات السياسية التي تواجه القضية الفلسطينية ومساراً ممكناً لحل المشكلات السياسية الداخلية والتخلّص من الانقسام، إلا أن اندلاع انتفاضة في ظل الظروف السياسية الإقليمية والدولية، وكذلك المشهد السياسي الفلسطيني المتشظي، ينطوي على مخاطر حقيقية.
هي ليست دعوة للخنوع وعدم الدفاع عن الأقصى، أو الامتناع عن ممارسة الفلسطينيين حقهم في المقاومة بأشكالها كافة، وفي كل وقت، ما داموا تحت الاحتلال، لكنها دعوة، ولفت انتباه، إلى ضرورة ترتيب البيت، وإعادة صياغة المشهد السياسي الفلسطيني، ولا سيما القيادي منه، قبل الانخراط في انتفاضة شاملة.
فالفلسطينيون مطالبون بالتعلّم من تجاربهم السابقة، واستخلاص العبر منها، والفصائل الفلسطينية وقياداتها لا بد لها من أن تتعامل بمسؤولية مع معاناة شعبها، وأن ترتقي إلى مستوى نضالاته وجهاده وتضحياته، فالمقاومة التي يبدع الفلسطينيون في ممارستها لا بد لها من قيادة صادقة وقادرة؛ صادقة في تبنيها ودعمها، وقادرة على استثمارها لخدمة المشروع الوطني.
قضايا كثيرة يجب التدقيق فيها قبل الحديث عن الانتفاضة، كالوضع الإقليمي والدولي وحال العرب المهترئ، بل والمشتعل في معظم الأقطار العربية. لكن، يبقى الأهم هو التدقيق في الواقع السياسي الفلسطيني، كون العامل الذاتي دائماً يتقدم في الأهمية على العوامل الموضوعية. فالساحة السياسية الفلسطينية تعاني من أزمات حادة، قد لا يصلح، ولا يصح، معها الحديث عن انتفاضة، وهي الأزمات التي حالت دون الاستفادة من الأداء البطولي الاستثنائي للمقاومة الفلسطينية خلال الحرب الأخيرة على غزة، لا بل بددت وهدرت دماء آلاف الشهداء والجرحى ومعاناة مليوني فلسطيني في القطاع، ما جعل منها فاجعة سياسية، يجب أن نتعلّم منها ولا نتجاوزها بدون استخلاص العبر.
لا بد من وجود رؤية لدى الفلسطينيين لكيفية إدارة انتفاضةٍ تقتصر على الضفة الغربية في ظل الانقسام الذي لم يعد يقتصر على السياسة فحسب، بل تعداها إلى مجالات الحياة الأخرى. كيف يمكن التعامل مع الواقع، بكل تفاصيله، في قطاع غزة، وما هو الدور المنوط به، استناداً إلى هذا الواقع؟ ما هو دور الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، في ضوء العقيدة الأمنية والبنية التي بنيت عليها في سنوات ما بعد الانقسام؟ كيف يمكن لقيادة لا تؤمن أبداً بالمقاومة، أو ما تسميه "العنف"، أن تقود شعباً منتفضاً؟ الإجابة على هذه التساؤلات، وغيرها الكثير، ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة ملحّة وشرط لبناء رؤية سياسية لأية مرحلة نضالية جديدة.
عانى الشعب الفلسطيني تاريخياً من أزمة قيادة، وقام بموجات ثورية وانتفاضات، بل وخاض حروباً عدة، أظهر فيها قدراً كبيراً من العطاء والتضحية والفداء، لكنه دائماً، وبالإضافة إلى العوامل الخارجية المؤثرة، وجد قيادة سياسية عاجزة عن مواكبة نضاله، أو استثماره بما يخدم مشروعه التحرري.
وينطبق هذا، بتفاوت نسبي، على ثورة فلسطين الكبرى (1936) ودور الملوك العرب في التأثير على اللجنة العربية العليا ووقف الإضراب، وعلى الاجتياح الاسرائيلي للبنان (1982) والصمود الأسطوري في بيروت، والذي انتهى باعتلاء قيادة منظمة التحرير القطار الأميركي، حسب كلمات قيادي فلسطيني ممّن عاصروا تلك المرحلة. الأمر نفسه ينطبق على الانتفاضة الأولى (1987)، التي "توّجت" باتفاق أوسلو البائس، والانتفاضة الثانية (2000) التي قادتنا فيها (حكمة) القيادة إلى انقسام وطني غير مسبوق.
المأمول أن يخوض الفلسطينيون، ولو لمرة، غمار معركة مع المحتل، وهم مستعدون لها، ولديهم قيادة قادرة على الوقوف إلى جانب شعبها ومناضليه، وقادرة على استثمار تضحياته وبطولات أبنائه بما يخدم مشروع التحرر والانعتاق من الاحتلال. الفصائل الفلسطينية مطالبة بأن تتصرف بشكل وطني ومسؤول، وتضع شعبها في صورة واقعها وقدراتها وتوجهاتها السياسية، بكل شفافية ووضوح، حتى لا يخدع مرة أخرى.
لا بد من بناء قيادة وطنية موحدة، تعبّر بشكل حقيقي وفاعل عن توجهات الشعب الفلسطيني، وانتماءاته الحزبية والسياسية، لا بد من إعادة بناء منظمة التحرير، لتكون ممثلاً شرعياً حقيقياً، لا ينازعها تمثيلها أو يشكك فيه أحد، يجب إعادة تصويب البوصلة لدى الفصائل الفلسطينية لتشير بشكلٍ لا لبس فيه إلى أن العدو الأول والوحيد هو الاحتلال، فلا يصح لفصيل فلسطيني أن يضع قدماً في معسكر المقاومة وأخرى في المعسكر الآخر، كما يجب التوقف فوراً عن الانخراط في لعبة المحاور والصراعات الاقليمية التي هي أكبر من إمكانات الفصائل الفلسطينية بكثير.
لا ينبغي لأي فصيل، أو قيادي، يتحدث عن انتفاضة، ويعمل على إشعالها أن يغفل ما سبق ذكره، وإنْ وجد مَن يخطط لانتفاضة، فعليه أن يغفل التفكير في الآليات اللازمة لتجاوز العقبات الداخلية.
خلاصة القول: إن الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بقدر حاجتهما إلى انتفاضة تردع المحتل، وتنتزع الحقوق، فهما، أيضاً، بحاجة ماسة إلى قيادة قادرة، ملتحمة مع شعبها، معبّرة عن طموحاته وممثلة لأطيافه كافة.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية