د. محمد خالد الأزعر
بعض يهود الولايات المتحدة غاضبون من "إسرائيل" في هذه الأيام، والسبب هو إحساسهم بأن الإسرائيليين يزدرونهم ويشككون في صلابة انتمائهم للهوية اليهودية. يتفاعل هذا الغضب ودواعيه على خلفية حملة إعلانات إسرائيلية، موجهة أساساً إلى اليهود الإسرائيليين المقيمين في الولايات المتحدة، تحت عنوان "حان وقت العودة إلى إسرائيل".
تقترن هذه الحملة باستخدام رموز وشعارات وتعبيرات، توحي بأن اليهودي المخلص لا يوجد سوى في "إسرائيل" فقط، وأن حياة الإسرائيليين المغتربين في أميركا تسهم في شحوب تقاليدهم الدينية والاجتماعية والثقافية، وبالتداعي تضعف لديهم جوهر الهوية اليهودية.
الحملة الدعائية في هذا الإطار، لا تسعى فحسب إلى استقطاب اليهود الأميركيين نحو الهجرة إلى "إسرائيل" كما جرت العادة، وإنما تخاطب أيضاً اليهود الذين غادروا "إسرائيل" إلى الولايات المتحدة. وهكذا فإن مؤسسات الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية أضافت إلى أعبائها التقليدية عبئاً آخر، إذ صار عليها أن تدعو إلى عودة من لم تطأ أقدامهم أرض مشروعها الاستيطاني، وأن تعيد الدعوة ذاتها بين يدي بعض الإسرائيليين أنفسهم، الذين عركوا تجربة "العودة" الأولى ثم آثروا مغادرة "أرض الميعاد" إلى أرض الحلم الأميركي.
لكن هذه العملية المزدوجة تنطوي على مفارقة ساخرة؛ تكاد تصيب أصحابها بالسكتة الدعائية. فهي عندما تخاطب "الإسرائيلي المغادر"، تحاول استثارة نخوته الدينية بوصفه باليهودي الحقيقي، الذي عليه ألا يضحي بهويته الإسرائيلية، لأنها التعبير الأسمى عن يهوديته.
غير أن هذه المشهيات والمضامين تجرح مشاعر اليهود الأميركيين، الذين لم يعودوا ولا يفضلون العودة إلى "إسرائيل"، لأنها تشكك في حدود وعمق انتمائهم اليهودي. في الجدل المحتدم بهذا الخصوص، يجري تداول مصطلحات ومفاهيم لم نألفها في الأدبيات الصهيونية أو حتى اليهودية، مثل الإسرائيلي المغترب، الإسرائيلي المهاجر، الإسرائيلي العائد، اليهودي الحقيقي، اليهودي المصطنع والمسطح.
والحال أن محتوى هذا الجدل ليس جديداً ولا هو مستحدث بالكامل؛ لكنه مؤهل للتفاقم والتمدد مستقبلاً بصورة قوية. فغداة إعلان قيام "إسرائيل"، جرى تكاسر سياسي وإيديولوجي بين قيادتي الحركة الصهيونية اليهودية، التي مثلها ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي والدولة الصهيونية الوليدة التي تزعمها ديفيد بن غوريون.
وكان السؤال الخلافي يدور حول من له الولاية واليد العليا في تحديد الأولويات واتخاذ القرارات؛ يهود العالم أم يهود "إسرائيل" الحركة أم الدولة؟.. وقد تمكن بن غوريون من الظفر في تلك الجولة، وذهب خصمه غولدمان مغاضباً، وفي مذكراته رمى بن غوريون بالدكتاتورية والتسلط.
على أن صيرورة حياة الدولة وشؤونها ودخولها في صراع ممتد مع الفلسطينيين خاصة والجوار الإقليمي العربي عامة، فرض حاجتها الماسة للظهير الخارجي، الأمر الذي تكفل بعودة كثير من النفوذ والقوة للأطر اليهودية الصهيونية ذات الانتشار العالمي، وأحدث نوعاً من التوازن مع سطوة هذه الدولة. فما كان لهذا الظهير أن يتحرك بفاعلية ويوفر لها طاقة مضافة كبرى، بمعزل عن جهود هذه الأطر.
لكن "إسرائيل" التي عز عليها دوماً أن تخضع لهذا التوازن، غالباً ما أظهرت تعبيرات تعلن بها عن ميل ميزان القوى لصالحها إزاء يهود العالم، بل وأحقيتها في الهيمنة عليهم وتمثيلهم، حتى وإن تعارض ذلك جزئياً مع مصالحهم في أوطانهم الأم.
ففي لحظات بعينها لا يخفي رموزها والموالون لها سخطهم من اليهود الرافضين للهجرة إليها، معتبرين أن هذا الاستنكاف سبة وربما كان عارا على هؤلاء اليهود. وتقديرنا أن الإعلانات التي أغضبت يهود أميركا واحدة من هذه اللحظات.
وفي عام 2006 جرى جدل مشابه، وإن حظي بشهرة أقل، إثر محاضرة ألقاها الأديب الإسرائيلي أ.ب. يهوشواع في مكتبة الكونغرس، أشار فيها إلى انفصال اليهود الإسرائيليين عن يهود "الشتات"، بمن فيهم اليهود الأميركيون. وألمح إلى أن اليهود الحقيقيين هم حصرياً يهود إسرائيل، ومضى إلى أن "هوية اليهودي تتحدد وفق الأرض التي يعيش عليها، واليهودي الذي يعيش في إسرائيل هو المهتم دون غيره باستمرار الشعب اليهودي. أما الذي لا يعيش فيها فلا يمتلك هوية يهودية حقيقية..".
وقتذاك، اعتبر يهود أميركا هذه الأفكار بمثابة إهانة لهم ولدورهم "الذي لولاه لما كانت إسرائيل من الأصل ولما استمرت". إنه شعور الامتعاض ذاته الذي ينتاب هذه الشريحة راهناً، على هامش الإعلان الإسرائيلي الناكر للجميل.
وفي تقديرنا أن متابعة هذا التناظر ومفرداته وما يشتمل عليه من دفوع متضادة، أمر هام جداً بالنسبة للمحاججين بعدم وجود هوية يهودية واحدة، تسوغ الحديث عن شعب يهودي واحد يحق له الزعم بالتأطر في دولة خالصة له. ولنتذكر أن المقاومين الأوائل للغزوة الصهيونية، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً، أثبتوا انتفاء مثل هذه الهوية قبل نحو قرن من اندلاع هذا التناظر.
ونحن ندفع اليوم بأن قيام إسرائيل" ذاتها ليس دليلا كافيا على وجود هوية يهودية بالمعنى القومي، وإنما هي تسعى إلى تلفيق هذه الهوية واصطناعها.. ولو كان يهوشواع والمنحازون لرؤيته من السابقين واللاحقين، صادقين مع أنفسهم لالتقوا معنا على هذا التقدير.
فما دام اليهود "تتحدد هوياتهم بحسب البلاد التي يعيشون بين ظهرانيها.."، فما الداعي إذا لافتعال "إسرائيل " من الأصل؟! ألا يعنى قيام هذه الدولة على تجميع اليهود وانتزاعهم من هذه البلاد، سلخاً لهم من هوياتهم الأم؟
صحيفة البيان الإماراتية
تقترن هذه الحملة باستخدام رموز وشعارات وتعبيرات، توحي بأن اليهودي المخلص لا يوجد سوى في "إسرائيل" فقط، وأن حياة الإسرائيليين المغتربين في أميركا تسهم في شحوب تقاليدهم الدينية والاجتماعية والثقافية، وبالتداعي تضعف لديهم جوهر الهوية اليهودية.
الحملة الدعائية في هذا الإطار، لا تسعى فحسب إلى استقطاب اليهود الأميركيين نحو الهجرة إلى "إسرائيل" كما جرت العادة، وإنما تخاطب أيضاً اليهود الذين غادروا "إسرائيل" إلى الولايات المتحدة. وهكذا فإن مؤسسات الهجرة والاستيعاب الإسرائيلية أضافت إلى أعبائها التقليدية عبئاً آخر، إذ صار عليها أن تدعو إلى عودة من لم تطأ أقدامهم أرض مشروعها الاستيطاني، وأن تعيد الدعوة ذاتها بين يدي بعض الإسرائيليين أنفسهم، الذين عركوا تجربة "العودة" الأولى ثم آثروا مغادرة "أرض الميعاد" إلى أرض الحلم الأميركي.
لكن هذه العملية المزدوجة تنطوي على مفارقة ساخرة؛ تكاد تصيب أصحابها بالسكتة الدعائية. فهي عندما تخاطب "الإسرائيلي المغادر"، تحاول استثارة نخوته الدينية بوصفه باليهودي الحقيقي، الذي عليه ألا يضحي بهويته الإسرائيلية، لأنها التعبير الأسمى عن يهوديته.
غير أن هذه المشهيات والمضامين تجرح مشاعر اليهود الأميركيين، الذين لم يعودوا ولا يفضلون العودة إلى "إسرائيل"، لأنها تشكك في حدود وعمق انتمائهم اليهودي. في الجدل المحتدم بهذا الخصوص، يجري تداول مصطلحات ومفاهيم لم نألفها في الأدبيات الصهيونية أو حتى اليهودية، مثل الإسرائيلي المغترب، الإسرائيلي المهاجر، الإسرائيلي العائد، اليهودي الحقيقي، اليهودي المصطنع والمسطح.
والحال أن محتوى هذا الجدل ليس جديداً ولا هو مستحدث بالكامل؛ لكنه مؤهل للتفاقم والتمدد مستقبلاً بصورة قوية. فغداة إعلان قيام "إسرائيل"، جرى تكاسر سياسي وإيديولوجي بين قيادتي الحركة الصهيونية اليهودية، التي مثلها ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي والدولة الصهيونية الوليدة التي تزعمها ديفيد بن غوريون.
وكان السؤال الخلافي يدور حول من له الولاية واليد العليا في تحديد الأولويات واتخاذ القرارات؛ يهود العالم أم يهود "إسرائيل" الحركة أم الدولة؟.. وقد تمكن بن غوريون من الظفر في تلك الجولة، وذهب خصمه غولدمان مغاضباً، وفي مذكراته رمى بن غوريون بالدكتاتورية والتسلط.
على أن صيرورة حياة الدولة وشؤونها ودخولها في صراع ممتد مع الفلسطينيين خاصة والجوار الإقليمي العربي عامة، فرض حاجتها الماسة للظهير الخارجي، الأمر الذي تكفل بعودة كثير من النفوذ والقوة للأطر اليهودية الصهيونية ذات الانتشار العالمي، وأحدث نوعاً من التوازن مع سطوة هذه الدولة. فما كان لهذا الظهير أن يتحرك بفاعلية ويوفر لها طاقة مضافة كبرى، بمعزل عن جهود هذه الأطر.
لكن "إسرائيل" التي عز عليها دوماً أن تخضع لهذا التوازن، غالباً ما أظهرت تعبيرات تعلن بها عن ميل ميزان القوى لصالحها إزاء يهود العالم، بل وأحقيتها في الهيمنة عليهم وتمثيلهم، حتى وإن تعارض ذلك جزئياً مع مصالحهم في أوطانهم الأم.
ففي لحظات بعينها لا يخفي رموزها والموالون لها سخطهم من اليهود الرافضين للهجرة إليها، معتبرين أن هذا الاستنكاف سبة وربما كان عارا على هؤلاء اليهود. وتقديرنا أن الإعلانات التي أغضبت يهود أميركا واحدة من هذه اللحظات.
وفي عام 2006 جرى جدل مشابه، وإن حظي بشهرة أقل، إثر محاضرة ألقاها الأديب الإسرائيلي أ.ب. يهوشواع في مكتبة الكونغرس، أشار فيها إلى انفصال اليهود الإسرائيليين عن يهود "الشتات"، بمن فيهم اليهود الأميركيون. وألمح إلى أن اليهود الحقيقيين هم حصرياً يهود إسرائيل، ومضى إلى أن "هوية اليهودي تتحدد وفق الأرض التي يعيش عليها، واليهودي الذي يعيش في إسرائيل هو المهتم دون غيره باستمرار الشعب اليهودي. أما الذي لا يعيش فيها فلا يمتلك هوية يهودية حقيقية..".
وقتذاك، اعتبر يهود أميركا هذه الأفكار بمثابة إهانة لهم ولدورهم "الذي لولاه لما كانت إسرائيل من الأصل ولما استمرت". إنه شعور الامتعاض ذاته الذي ينتاب هذه الشريحة راهناً، على هامش الإعلان الإسرائيلي الناكر للجميل.
وفي تقديرنا أن متابعة هذا التناظر ومفرداته وما يشتمل عليه من دفوع متضادة، أمر هام جداً بالنسبة للمحاججين بعدم وجود هوية يهودية واحدة، تسوغ الحديث عن شعب يهودي واحد يحق له الزعم بالتأطر في دولة خالصة له. ولنتذكر أن المقاومين الأوائل للغزوة الصهيونية، فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً، أثبتوا انتفاء مثل هذه الهوية قبل نحو قرن من اندلاع هذا التناظر.
ونحن ندفع اليوم بأن قيام إسرائيل" ذاتها ليس دليلا كافيا على وجود هوية يهودية بالمعنى القومي، وإنما هي تسعى إلى تلفيق هذه الهوية واصطناعها.. ولو كان يهوشواع والمنحازون لرؤيته من السابقين واللاحقين، صادقين مع أنفسهم لالتقوا معنا على هذا التقدير.
فما دام اليهود "تتحدد هوياتهم بحسب البلاد التي يعيشون بين ظهرانيها.."، فما الداعي إذا لافتعال "إسرائيل " من الأصل؟! ألا يعنى قيام هذه الدولة على تجميع اليهود وانتزاعهم من هذه البلاد، سلخاً لهم من هوياتهم الأم؟
صحيفة البيان الإماراتية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية