جولة في عقل "حماس!"
صلاح حميدة
في مثل هذه الأيام وقبل خمسة وعشرين عاماً كان الشعب الفلسطيني يعيش مخاضان صعبان، ونتج عن هذا المخاض ولدان، هما الانتفاضة الفلسطينية (انتفاضة الحجارة) وكان التالي حركة فلسطينيّة مقاتلة إخوانيّة الفكر (حركة المقاومة الإسلامية – حماس) ومنذ ذلك التاريخ عاش الشّعب الفلسطيني الكثير من الأحداث التي نمت وتطوّرت مع نمو وتطوّر هذه الحركة التي بلغت الأن سنّ الشّباب.
قدّمت حركة " حماس" خطابها السياسي وممارساتها الميدانيّة في كل منعطف وحالة تتعلق بالوضع الفلسطيني، ولن نبالغ إن قلنا أنّها أصبحت من اللاعبين الرئيسيين في المنطقة والعالم ، وتكمن هذه الأهمّيّة في لجوء الكثير من الأطراف لها لاستنباط مواقف وتصريحات منها تجاه قضايا جوهرية مثل الثورة العربية المعاصرة (الرّبيع العربي) وعدم اقتصار تلك المطالبات على أنظمة رسميّة، بل تعداها لمطالبات شعبيّة، وهذا ما سنأتي عليه بشيء من التفصيل لاحقاً، بل تطلّب وضع حركة " حماس" الحالي والمتطلبات المطلوبة منها، وتثبيتها لواقع جديد في معادلة الصراع في المنطقة والعالم بعد قيادتها لمشروع نجح في الصمود في وجه طليعة الغرب الاستعمارية في المنطقة، بالإضافة لعيش أعداء وخصوم الحركة في حالة من الارتباك بعد أن خلطت كل الأوراق والدّعاية التي كانت توجّه لها فيما سبق، ومبادرة الكثيرين للاعتذار لها لفظيّاً وسلوكيّاً عن ما اتهموها به أو اقترفوه بحقها، ولذلك كان لا بدّ من جولة لنا في (عقل حركة "حماس") في ذكرى ميلادها الخامس والعشرين، والتي اختارت أن تحتفل فيه بتاريخ انطلاقة ثورة الحجارة الخامسة والعشرين أيضاً 8/12/1987م، وليس في ذكرى صدور أول بيان للحركة في 14/12/1987م، وهو ما يعطي مؤشرات هامّة قد تكون قصدتها الحركة في ظل تغير معادلات الصراع بحيث تقفز لمرحلة ما قبل أوسلو بعد مرحلة صمود وانتصار المقاومة بعد معركة (حجارة السّجيل).
رؤية حركة "حماس" لطبيعة الصّراع مع الاحتلال
تعتبر الحركة أنّ فلسطين أرض وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن أي شبر منها، ولم تغير من موقفها رغم خضوعها للملاحقة والحصار والحرب والاغتيالات ومحاولات الاحتواء المختلفة، منذ نشأت وحتّى اليوم، وفي سبيل الوصول لمواءمات الواقع والسياسة والعلاقات الدّاخليّة، قبلت الحركة بوقف مؤقّت للصّراع مقابل الحصول على جزء من فلسطين وعودة اللاجئين والقدس في إطار ما سمّته (هدنة) مع الاحتلال لا تتضمّن تنازلات عن ما بقي من أرض فلسطين، ولا تقرّ فيها بأي حقّ لمن اغتصبوا فلسطين في لحظة معيّنة. فهي تعتبر أنّها حركة مقاومة وظيفتها إبقاء (جذوة الصراع مشتعلة، حتى يأذن الله بالتحرير) وبالتالي فهي مطالبة بالعمل وغير مسؤولة عن النّتائج (العجز عن تحقيق التّحرير لا يدفع للاعتراف بشرعيّة الاحتلال).
في سبيل تحقيق هذه الرّؤية يجد المراقب أنّ الحركة تناور على الأطراف ولا تصل بأي حال لجوهر ما يراد لها ومنها من تنازلات، فقد وقفت عصيّة أمام ما عرف ب (شروط الرّباعيّة) وهي ترى بأنّ سياستها تلك حقّقت إنجازات على الأرض، بينما لم تحقق اختراقاً في سقف التّنازلات العربيّة للاحتلال التي أريد للحركة أن تقبل بها، فهي تعمل لرفع هذا السقف أو اختراقه، معلّلةً ذلك بأنّ التصميم والصّمود من الممكن أن يغيّر الواقع بدلاً من الرّضوخ له، ولكن يُعتقد أنّ معركة (حجارة السّجيل) قلبت المعادلات وكسرت جزءاً مهمّاً من الحصار السّياسي على الحركة، ونحن نرى كيف أصبح قطاع غزّة محجّاً للسياسيين والقوى الشّعبيّة العربيّة والاسلاميّة والعالميّة، ممّا سيكون له بالغ الأثر على المرحلة القادمة، فأن يتنفّس هؤلاء انتصارات وصمود وتضحيات المقاومة فله أثر سنلمسه في المرحلة القادمة. وبالتالي فرؤية الحركة تجاه الصّراع مع الاحتلال تكتسب أنصاراً جُدداً كل يوم بفعل التّجربة وليس بسبب التّنظير ومعادلات ثنائيّة الحق والقوّة.
ومن خلال دراسة تلك الرّؤية وما يرافقها من أفعال على الأرض، يمكن اعتبار أنّ الحركة لا تسعى لدولة في سيناء بعيداً عن فلسطين، ولا تسعى لإمارة في غزّة مقابل ترك ما تبَقَّى من فلسطين، كما أنّها لا تسعى لدولة في الضّفّة الغربية وقطاع غزّة فقط – وإن وافقت عليها مرحليّا بلا تنازل عن الباقي- بل هي تسعى لاسترجاع كل فلسطين بالرؤية والممارسة.
علاقة الحركة بالأنظمة السّياسيّة
الوضع الطبيعي أن يكون لأي حركة سياسية ومقاومة علاقات مختلفة مع الكثير من الأطراف الشّعبيّة والرّسميّة، ولم تكن الحركة بدعاً من دون تلك الحركات، وهي تعمل من أجل أعقد قضيّة في التاريخ الحديث، وبالتالي كان لها علاقات خارجيّة متشعّبة مع الأنظمة العربية والاسلاميّة ومع الحركات السياسية والشّعبيّة في العالم، ولم ترفض الحركة التّواصل إلا مع الاحتلال، وهي ترفض – حتى اليوم- أن تتفاوض معه بشكل مباشر، وتجلّى ذلك في اتفاقات التّهدئة المختلفة وفي مفاوضات عمليّة تبادل الأسرى، ولكن لخصوصية الوضع الفلسطيني وتجربة الوجود التنظيمي للمقاومة في الخارج فقد رأت الحركة أن تكون مقاومتها للاحتلال فقط على أرض فلسطين، أمّا الهياكل السياسية والإعلاميّة العلنية، وخطوط الدّعم المالي والتّسليحي فمن الخارج (حيثما أمكن) حتّى لا تقع في صدامات مع الأنظمة السّياسيّة في تلك الدّول، ولعبت الظّروف دوراً في أن يكون الأردن هو مقرّ المكتب السياسي للحركة لاعتبارات ديموغرافيّة وجغرافية وأيديولوجية، واستمر ذلك الوجود حتّى الصّدام المعروف مع العهد الجديد حينها وتمّ ترحيل قيادة الحركة إلى إمارة قطر، وتلاقت حاجات الحركة مع حاجات النّظام السّوري في تلك المرحلة، وتلاقى الطّرفان على المشتركات السّياسيّة وعذرا بعضهما فيما اختلفا فيه، وقيل أن للنّظام السوري احتياجات تتعلّق بالشّرعيّة والمناكفة السّياسية مع أطراف عربيّة وفلسطينيّة وأخرى تتعلّق بكسب ورقة حركة مقاومة شابّة صاعدة في سوق السياسة الدّوليّة، فيما كانت الحركة بحاجة لقاعدة جغرافيّة قريبة من فلسطين في ظل تصاعد عملها العسكري والسّياسي في تلك المرحلة، وكان الاتفاق بين الطرفين أنّه من المحظور أن يتدخّل أيٌّ منهما في قرارات وشؤون الآخر، وهذا ما كانت ترغب فيه الحركة.
علاقة الحركة بسوريا وإيران لم تكن لتكون على حساب علاقاتها مع الدّول العربيّة والإسلاميّة الأخرى، وكانت الحركة تقترب من الآخرين بالقدر الّذي يقتربون به منها، بالإضافة إلى عدم تأثير ذلك التّقارب على منطلقاتها السّياسيّة والفكريّة وبوصلتها التي تتجه دائماً نحو فلسطين.
أحدث (الرّبيع العربي) هزّات عنيفة في جدار النّظام الرّسمي العربي، ونتائجه في - بدايتها- كانت لصالح ما كان يُعرف ب (محور المقاومة أو الممانعة) ولكن شرارة الرّبيع انتقلت لهشيم الاستبداد والفساد والقهر، وبالتالي لم يكن النّظام السّوري بمنأى عن تلك الثّورة، ولم تفلح كل النّصائح في حجبه عن الحلول الدّموية تجاه شعبه، وبالتالي أصبحت الحركة في وضع حرج جدّاً، فقاعدة الحركة الجماهيريّة في فلسطين وخارجها كانت تضغط عليها للخروج من سوريا وإبداء موقف يدعم الثّورة السّوريّة، وكانت الحركة أمام مفترق صعبة أمام شلال الدّم السّوري، ولكن بعد رفض النّظام كل النّصائح، وإصراره على السّير في طريق الدّم والدّمار، ومحاولته ابتزاز موقف من الحركة يوحي بتأييدها لمنهجه في قمع الثّورة الشّعبيّة، وبينما حاولت الحركة إنهاء العلاقة بصمت، اختار النّظام أن يفعل ذلك بصخب رسمي وإعلامي وأمني، قابله موقف من الحركة مؤيّد للثورة السّوريّة، قرأه بعض المحللين على أنّه خروج عن سياسة الحركة المعلنة منذ تأسيسها، وأنّه قد يقحم الشعب الفلسطيني في مشاكل مع السّوريين كتلك التي واجهها في الكويت، فيما تعتبره الحركة منسجماً مع كونها حركة مقاومة شعبيّة، ولاختلاف الوضع بين احتلال جيش عربي لدولة عربيّة، وبين ذبح نظام لشعبه، بالاضافة إلى أنّ موقف الحركة لم يكن مسبباً لم جرى للشعب الفلسطيني من تقتيل في سوريا، بل كان لاحقاً له، كما أنّ الحركة لم تكن جزءاً من الصّراع هناك. والحقيقة أنّ هذا الموقف من النّظام السّوري يعتبر أحد المواقف الفارقة في تاريخ حركة "حماس".
وقد عبّر رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" رؤية حركته حول علاقاتها مع كل تلك الدّول بالقول: حماس كانت حركة مقاومة وهي في الأردن، وكانت كذلك في قطر وسوريا واليمن والسودان ولبنان وإيران، وهي كذلك اليوم في كل أماكن تواجدها، وفلسطين هي قلب المقاومة في العالمين العربي والإسلامي، ولا ترتبط مقاومة "حماس" بجغرافيا معيّنة خارج فلسطين"، وهذا القول تلخيص واقعي لما شاهدناه من أداء لمقاومة "حماس " على أرض فلسطين في آخر جولات القتال هناك، فدور "حماس" المقاوم مرتبط بالهدف من نشأتها وحصر نشاطها على أرض فلسطين فقط.
رؤيتها لأدوات الصّراع مع الاحتلال
من خلال قراءة استخدام الحركة لأدوات الصّراع مع الاحتلال يلحظ حرصها على تطوير واستحداث أدوات تخدم رؤيتها الأيديولوجيّة وظروفها الموضوعية، بالإضافة لحرصها على الاستقلال في احتياجاتها الماليّة والتّسليحيّة، كما يلحظ استخلاصها للعبر من تجاربها الفاشلة وتطوير الأداء بشكل منقطع النّظير.
فعلى الصّعيد المالي استخلصت الحركة العبر من تجارب غيرها من الحركات الفلسطينيّة، فقامت باستحداث مصادر تمويل ذاتيّة – كما يعلن أصدقاؤها وأعداؤها- وبالتالي حجبت عن نفسها ضغوطات المانحين.
فمن الحجر والزّجاجات الحارقة وسكّين البعلوجي وعامر أبو سرحان، إلى بنادق بدائية وعبوات بسيطة والأحزمة النّاسفة، ولكنّ النّقلة الحقيقيّة في العمل العسكري للحركة كانت بعد انتفاضة الأقصى وإجبار الاحتلال على إخلاء قطاع غزّة، فقد بدأت مرحلة الطّفرة في تطوير الأداء في التّصنيع والإدارة والاستخبارات وأمن الاتصالات والقيادة والسّيطرة، وصولاً لأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط والاحتفاظ به لأكثر من خمس سنوات، ثم تبادله مع أكثر من ألف أسير، وكانت ذروة هذه الإنجازات في تطوير الصّواريخ لتصل إلى تل أبيب وهرتسليا والقدس، بالاضافة للأسلحة المضادة للطيران والدّبابات، وتصنيع واستخدام طائرة من دون طيار في مجال جمع المعلومات و الاستخبارات، وهي إنجازات أذهلت الأصدقاء قبل الأعداء، ما يدلل على أنّ الحركة تُدَعِّم رؤيتها للصّراع بأدوات تستطيع من خلالها تحقيق هذه الرؤية، وهو ما زاد الآمال بأنّ معركة الفلسطينيين مع الاحتلال على أرض فلسطين بدعم عربي – إسلامي بدأت تؤتي ثمارها.
رؤية الحركة للعلاقات الدّاخليّة
لم تكن علاقة الحركة مع نظيراتها الفلسطينيات علاقة عدائيّة، ولكنّها كانت علاقة تنافسيّة اتّسمت بنوع من العدائيّة في مراحل مختلفة، و لا يمكن تحميل فكر الحركة وأسلوب عملها مسؤولية ما جرى، بل يُعزى هذا الصّدام للخلاف السّياسي وكيفية اعتلاء مناطق صنع القرار فيه بشكل رئيسي، مطعّماً بالأيديولوجيا أحياناً، و تجذّر الانقسام بعد اتفاقيّة أوسلو وما نتج عنها من مؤسسات، فقد رأت الحركة أنّ اتفاقيّات التّسوية إضافةً لكونها تشق الصّف الفلسطيني وتجهض طموحاته الوطنيّة وتتنازل عن جزء مهم من أرضه وعن حقّه في العودة لدياره التي هجّر منها، بل جعلت من الفلسطيني عدوّاً للفلسطيني وهو ما أدّى في النّهاية لصدام عنيف بعد أن قررت الحركة المشاركة في الانتخابات، وفُرِض الحصار عليها بعد فوزها ورفضها الاعتراف بشروط الرّباعيّة التي وافقت عليها منظّمة التّحرير عندما ولجت طريق التّسوية، ولذلك شكل التوافق الدّاخلي معضلة أمام الحركة، وسعت وتسعى لإيجاد مناطق التقاء مع خصومها، وشكّلت معركة ( حجارة السّجيل ) فرصة نادرة لتقريب وجهات النّظر، فقامت الحركة بمبادرات عديدة في هذا الاتجاه كإطلاق سراح معتقلين والسماح لآخرين بالعودة لبيوتهم بعد أن غادروا قبل سنوات وقت الانقسام، والحرص على إشراك خصومها السياسيين في فعاليات الاحتفال بانتصارات المقاومة في الحرب الأخيرة، بل ربّما جازفت قيادة الحركة بموقف غير شعبي من قواعدها، بإعلانها ( دعم مسعى المطالبة بدولة مراقب في الأمم المتحدة بدون تنازلات عن الحقوق الوطنيّة) وكان واضحاً أنّ الحركة لا تسعى للصدام الإعلامي فيما يخصّ ذلك المسعى، بالرّغم من قناعتها بأنّ هذا المسعى لن يجلب إنجازاً يلمسه المواطن على أرض الواقع، وفيه ما يتناقض مع رؤيتها وأيديولوجيّتها، وكان واضحاً أنّ الهدف هو إيجاد مساحة وفاق بالحدود الدّنيا مع حركة " فتح" ودفع النّوايا والأجواء الأخوية بخطوات على الأرض لإنجاز ملف المصالحة وفق رؤية وطنيّة شاملة.
رئيس المكتب السّياسي للحركة قال أنّ الحركة تقوم كل فترة ب "إعادة تقويم ودراسة واستخلاص للعبر للمراحل التي مرّت بها" وبالتالي فالحركة تحتاج لمثل هذه الوقفة ولكن برويّة وشموليّة، لأنّ العالم العربي كلّه على مفترق طرق، والحركة مطالبة بصوغ خارطة طريق عمليّة وإعلاميّة تضبط أداءها الميداني والإعلامي، ففيما مرّت مخطّطاتها العمليّة بالقليل من الأخطاء، إلا أنّ أداءها الاعلامي شهد بعض العثرات، خاصّة فيما يخصّ بعد المواقف التي أثارت نوعاً من الاستياء.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية