غزة فى عيون عائد
د.أسعد جودة
د.أسعد جودة
حالة الترقب وحزم الأمتعة في دمشق الشام، دامت قرابة شهرين؛ لحين استكمال موجبات السماح بالدخول لمصر، ومنها لغزة...مشاعر مختلطة متداخلة؛ فها نحن سوف نعود لنستقر فى غزة، مسقط الرأس، ومكان لجوء العشيرة المهاجرة من مدينه أسدود...وماذا بعد؟ لقد غادرنا الشام الحاضنة والناصرة، والألم يعتصرنا على ما حل بها، داعين الله أن تتعافى وتضمد جراحها، وتعود شامخة عزيزة، وعصية جميلة... أقلعت الطائرة، وحطت فى مطار القاهرة، الوقت يداهم عطلة عيد الأضحى المبارك، وغداً يعني إقفال المعبر؛ لذا كانت الهمة عالية عند الجميع فى المواصلة، إلى أن وصلنا إلى المعبر الفلسطيني، وقبلتنا اليافطة المكتوب عليها: (فلسطين ترحب بكم)...فلسطين؟! إنها فعلاً لحظة لا توصف، شعور يخالجني لأول مرة فى حياتى، إنه شعور الداخل إلى بيته متحللاً من كل خوف وارتهان وانتظار، ومع ذلك فهو مشوب بالحذر من أن يتبع كلَّ ذلك اعتقال..ما هى الا دقائق معدودة، حتى كانت جميع الأوراق والجوازات منجزة. فى تلك اللحظات طافت بي الذاكرة، لأتخيل لحظة مغادرتي الأخيرة، عام 1991، حينما كان المعبر وغزة تحت الاحتلال، لقد كانت الحالة مغايرة بالكلية، كانت رعباً وخوفاً ومنعاً وتنكيداً .
على بوابة الخروج كانت البداية لمراسم الأفراح، كم هو جميل أن تلتقي مع من تحب، بعد فراق طويل. الأشقاء كانوا في الانتظار لساعات طويلة، فالأمر لم يكن عادياً، مما لفت أنظار من حولنا من الناس، لحظات امتزج فيها الفرح بالبكاء، إلى أن قطع كل ذلك ركوب الأسرة في سيارات عدة، هدفها جميعاً أن تقطع المسافة من رفح إلى مخيم جباليا، مما يعني أنها ستقطع كل قطاع غزة، السيارة التي كانت تقلنا، كانت تسير ببطء شديد؛ وذلك لسببين: الأول؛ أن الشارع الرئيسي -وهو شارع صلاح الدين- يعاني من انقطاع فى التيار الكهربائي، مما يعني انعدام الإنارة الليلية، ناهيك أن الجزء الأكبر منه بقي على حاله دونما توسعة، والسبب الثاني للبطء في المسير؛ هو الإفاضة في الحديث واسترجاع شريط الذكريات. لقد كانت مناظر جيش الاحتلال ومتاريسه عى الطرقات، ناهيك عن شبكه المستوطنات التى تلف القطاع وتقتطع ستين بالمئة من إجمالي مساحته بثلامئة وستين كم فيما يقطن قرابة مليوني نسمة فيما تبقى ؟
وأخيراً توقفت السيارة أمام بوابه بيت العائلة، ويالها من لحظه إنسانية..لقد كانت أشبه بمعركة.. الكل يسلم ويعانق.. لا تعرف من تعانق..هذا يشدك وهذا يعرفك.. بكاء وزغاريت..هكذا كان التعبير الإنساني التلقائي الصادق. أقول نعم.. لقد كانت أشبه بمعركة لكن من نوع آخر، والدليل على ذلك تعالي أصوات الرصاص الذي أطلقه الأحبة إعلاناً وتاكيداً على أننا أحرار، وأن سطوة الجلاد والمحتل الذى غيبنا لم تعد موجودة..فهانحن قد عدنا بتوفيق الله، وعاد معنا الأمل الذى لم يكن يفارقنا بأننا إن شاء الله عائدون يوماً ... ومن توفيق الله في تلك العودة أن كان توقيتها رائعاً؛ فقد حظينا بمشاركة أهلنا وربعنا وأبناء شعبنا بهجة عيد الأضحى المبارك، الذى حرمنا منه قرابة ثلاثين عاماً، وكما هي عادة مجتمعنا، بعد الصلاة توجهنا إلى المقبرة للسلام على أحبائنا (الوالدين)، الذين وافتهم المنية أثناء مشوار الغربة. وزرنا أرحامنا وأحباءنا ومن ثم استقبلنا الأحباب.
المشاهد والمواقف كثيرة.. ولكن ماذا عن غزة التى كنت لها عاشقاً وسفيراً. و ردد كل من يعرفني أنها ساكنة فى قلبي رغم أني لا أسكنها..ما الجديد الذى لمسته فيها؟ الحقيقة أني لا أعرف من أين أبدأ؛ لأن الحديث عن غزة..وما بغزة.. ماضي غزة، وحاضرغزة، ومستقبل غزة، كل ذلك يحتاج إلى مجلدات.
غزة التى شاهدتها بعد هذا الغياب الطويل، تعج بالشموخ والكبرياء، والحركة والاستنفار، حركة بناء مذهلة، غيرت كل ملامح القطاع، حركة تعطى رسائل سريعة، بأن الإصرار والصمود والتمسك بالأرض عادت عنواين ثابتة فى مسيرة شعبنا، ولكن هذا صاحبه اختفاء البيارات، والمسطحات الخضراء التى كانت أهم ما يميز غزة.
من حيث الرعاية الصحية؛ لاحظت ازدياداً فى أعداد المستشفيات، والمراكز الصحية، ولاحظت توزعها على معظم مناطق القطاع بما في ذلك عيادات الأونروا.– علماً بأن القطاع بكثافته السكانية يحتاج أضعاف الموجود عدداً ومعداتٍ - .
من الناحية التعليمية، شاهدت مدارس الوكالة وقد أعيد بناؤها على أسس حديثة وقوية إنها -بالقياس إلى ما كان- أبنية جميلة. لقد ازدادت المدارس الحكومية، ناهيك عن النمو فى أعداد ونوعية الجامعات والمعاهد والكليات، وعن توزعها في كل مناطق القطاع.
أما عن المساجد؛ فقد ازدادت وتوسعت لتشتمل على مراكز ثقافية، ومراكز تحفيظ للقرآن الكريم. والحقيقة أنه أسعدني جداً الإقبال الرائع والكثيف على الصلاة وفى كل الأوقات.
وعن الحالة الأمنية فقد شاهدتها مستقرة وهادئة، والكل بات على قناعة أن سلطة النظام هي المعنية بفك النزاعات، يدعمها لجان متخصصة، وشبكة مخاتير، وأن الأمن مسئولية السلطة القائمة. وطبعاً العدو لا تروق له هذه الحالة؛ لذا تجده بين الفينة والفينة، يرسل صواريخه الآثمة بعد منتصف الليل، على أهداف تخص بُنى المقاومة؛ ليؤكد أنه حاضر، وأنه مازال الأقوى ...
وأما عن الحالة الاجتماعية، فشعبنا بطبيعته محزب ومسيس، البيت الواحد يحتوى على كل أنواع التنظيمات، وهذا التنوع والاختلاف -إذا لم يوظف فى الاتجاه الخطأ- هو المناخ الصحي لبلد كغزة، يعاني من كل أنواع الظلم والاضطهاد. تلمس نوعاً من التذمر والترصد الخفيف لممارسة إدارة حماس فى الحكم، وذلك من قبل بعض المنتسبين والمقربين لفتح ومن قبل غيرهم أحياناً ,ولكن هذا حال من في السلطة دوماً، عليه أن يتحمل النقد، ومع كل ذلك فإن فرصة الاقتراب والانسجام بين الأفرقاء أقرب من ذي قبل، وذلك بحسب ما شاهدت وسمعت.
قد يقول قائل..إن المتابع لحديثك يلمس أنك قد رسمت مشهداً وردياً منافياً لما يذكره الآخرون عن غزة..أوليس هناك وجه آخر يمكنك أن تقدمه لنا؟..ولكن قبل ذلك هلا حدثتنا عن حادثة أو موقفٍ أثر فيك؟
أقول عذراً.. لو تركتني أكمل لجئتُك بحديث آخر. ولكن -وجواباً للطلب- أقول نعم أثر فيّ مشهدان: المشهد الأول؛ أتذكر يوماً من أيام عام 1978، حيث أخرجت من سجن غزة المركزي إبان الاحتلال الإسرائيلي، وكنت مسجوناً مع والدي وشقيقي، الذين أكرمهما الله بالشهادة، تحت وطأة التعذيب والتنكيل بهما من قبل اليهود... يومها.. وقفت على باب السجن مكسوراً متذللاً لله تعالى و قلت: يارب أسألك أن تستبدل هذا المسلخ بمتنزه؛ لتمسح من ذاكرتنا هذا البؤس، والحمد لله عدت الآن فوجدت السجن وقد أزيل، وحسبما فهمت أنه يخطط له ليكون أكبر متنزه فى غزة كلها. وأما الشيء الثاني الذي أثر فيّ؛ فهو مشاهدة حفيدتي (ابنة ابني الأكبر) دانية، وعلامات الراحة والفرح تبدو عليها، أراها وأسمعها تنطق بأسماء كل أهلها، وتعرفهم وتناديهم بأسمائهم، وتألفهم جميعاً. أحياناً تأبى أن تنام حباً منها للعب مع الجميع...
أعود لأكمل عن حال غزة، فقطاع غزة الشجاع يواجهه جملة تحديات مرعبة، فهو في حالة انفجار سكاني، يوازيها انعدام وجود الجغرافيا التي تستوعب هذا النمو المبارك. يخيل إلي أن غزة تحتاج لأربع مساحات غزة الحالية، ليكون وضعها طبيعياً. غزة تعاني من مشكلة مزمنة؛ وهي ارتفاع مضطرد في نسبة الخريجين الأكفياء -من كافة التخصصات- مع انعدام الفرص لاستيعابهم ليحيوا حياة كريمة، وذلك لانعدام وجود بنية صناعية أو زراعية أو حتى وجود آلية لخلق فرص عمل فى الخارج ضمن إطار منظم.
غزة تعاني من انقطاعات طويلة للتيار الكهربائي، فيستعاض عن ذلك بموتورات مزعجة ومكلفة وغير منتجة.
غزة تعاني من مشكلة تجمع القمامة في الساحات العامة، وباتت هذه الظاهرة المقززة شبه مألوفة –للأسف- عند أهل غزة، مع أنه من الملاحظ أن هناك حاويات وسيارات حديثة ومجهزة...
غزة تعاني من العادات الاجتماعية التي تستنزف أهلها، وذلك بالتعود على التكاليف الباهظة في الأتراح وفي الأفراح.
غزة تعاني من ظاهرة الحبوب المثبطة أو قل المخدرة المنتشرة بين الشباب.. الترمال وما شابه..و المزعج والخطير أن آلية معالجتها لا تسير بشكل صحيح.. تعاني من ظاهرة المستنكفين -كما يطلق عليها- الذين فصلوا أو امتنعوا عن أعمالهم، وهي ظاهرة تخلق نوعاً من التذمر المنتشر في المجالس العامة، ولعل هذه القضية هي القضية الوحيدة التى تذكر بالانقسام الحزبي في مجتمع غزة ؟
ومع كل هذا وذاك...غزة التي عدت إليها أنستني الغصة التي صاحبتني في غربتي، متنقلاً بين عواصم عربية وغير عربية. وجدت فيها العزة والكرامة والسيادة. وجدت فيها مشاعر الاستقرار والسكون والأنس والطمأنينة. كل ذلك عشته ومعي كل أفراد أسرتي، فهم يشاطرونني العزة نفسها والأنس نفسه..
أسال الله العظيم أن يحفظ غزة، وأهل غزة، وأن يكرمنا بأن نرى الوطن كله محرراً، وأن يمنح كل مغترب ومبعد فرصة العودة؛ لينعم ويلمس بنفسه كلَّ ما لمست.
وأخيراً..سلامٌ لغزة ..ولأهل غزة.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية