25 يناير
اليوم تهل علينا ذكرى مناسبتين عظيمتين, مختلفتين فى المكان و الزمان و من حيث الطابع و الشكل, لكن المضمون واحد و الأسباب و النتيجة تكاد تكون واحدة.
إن الربيع العربي الذى هبت نسائمه و أينعت أزهاره فى تونس و مصر و المغرب و بلدان أخرى قد مر من هنا من فلسطين. المطلب واحد ووحيد اجتمعت عليه الشعوب باختلاف ثقافاتها ووعيها وتوجهها وهو الحرية و العدالة الاجتماعية.
إن النار التى اشتعلت فى جسد البوعزيزى قد ألهبت تونس لا بل و كل شعوب المنطقة و التى أكل الظلم ماضيها و حاضرها, و لم يكن يعلم البوعزيزى نفسه أن النار تلك ستُحرك شعب تونس لا بل و كل الشعوب.
من قلب شتاء تونس وفى 17 ديسمبر 2010 التهبت الأرض من تحت أقدام الطغاة لتنادى الحناجر برحيل نظام بن على, وفعلا قد هرب الطاغية, و امتد اللهب إلى أرض الكنانة لتستعر الأرض نارا و بركانا على النظام البوليسي الدكتاتوري المتواطئ وليهتف الشعب بهتاف تغنت من بعده به كل الشعوب " الشعب يريد إسقاط النظام ", و فعلا فى 11 فبراير سقط النظام, تسارعت وتيرة الثورة و اشتعلت فى ليبيا و البحرين و اليمن و المغرب و سوريا و الأردن, وأنهكت الأنظمة نفسها فى التسميات و اشتغلت بكيفية المعالجات لتلك الأزمات التى هبت كريح صرصر عاتية, فمنها من قمع شعبه و منها من خرج بتسوية و منها من تجاوب مع مطالب شعبه و منها من لا يزال يشتغل بالمعالجات!
البلدان التى استطاعت أن ترتب أمورها و تخطو خطى متقدمة لتترجم مطالب الثوار إلى واقع على الأرض والتي تحديدا جرت فيها الانتخابات كتونس و المغرب و مصر قد فازت فيها الشعوب, لأنها كانت أول انتخابات شفافة و ديمقراطية و لأنها عبرت عن نبض تلك الشعوب ببرلمانات قد حملت هموم الوطن و المواطن و ما أجمل أن تكون البرلمانات العربية برلمانات الثورات. ليس غريبا أن تفوز الأحزاب الإسلامية بتلك الانتخابات و تكون نواة لتلك الحكومات, فالأنظمة التى بُنيت على باطل و أُسقِطت حتما سيكون نقيضها الحق و حملة لوائه, لكن الغريب و المستهجن أن يستكثر البعض ممن أفرزتهم الثورات على الإسلاميين الفوز, و الغريب أن هؤلاء يتعاملون بصفصطائية غريبة فى فهمهم لدورهم و كأن الأمر أكثرية و أغلبية أكثر منه استعداداً لتحمل المسؤوليات لأن التركة التى تركتها الأنظمة البائدة ثقيلة و ثقيلة جدا و تحتاج من الجميع العمل كخلية نحل ضمن فريق واحد, و أنا أنصح هنا هؤلاء بألا يُشغلوا أنفسهم بذلك فقد أشتغل القوم قبلهم هنا فى فلسطين بمثل هذا و قد خابوا و خسروا!
المناسبة و الثورة الأولى كانت من هنا من فلسطين و تحديدا فى 25 يناير لكن من العام 2006 ! فلسطين أرض الرباط, بوصلة الحقوق و القوة و الحرية فى العالم كله, أرض الإسراء و المعراج, أرض الرسالات و قبلة المجاهدين, فلسطين درة ساكنة فى سويداء قلوب الثوار و الأبطال فى كل الميادين.
فلسطين كانت الشرارة الأولى حقاً و المحرك الرئيس لكل تلك الثورات و جموع الشعوب, لقد بدأت ثورة 25 يناير فى العام 2006 من هنا من فلسطين, نعم لأنها حملت نفس المضمون " الحرية و العدالة الاجتماعية ", و كانت النتيجة نفس النتيجة التى توقعها كل صاحب عقل و بصيرة, صعود الإخوان و المزلزل لعروش الظلم و الطغيان! بدأت الثورة حينها فى ذلك اليوم و انتهت فى اليوم نفسه, الأقصر و الأقل تكلفة فى كل تاريخ الثورات فى العالم قاطبة, تجلت فى الانتخابات التشريعية, هذه الانتخابات التى جاءت بحماس لتكون درعا واقيا للمقاومة و حصنا حصينا للأمن القومي ليس الفلسطينى فحسب بل العربي كله, و لعل الثورات العربية قد أثبتت صدق ما نقول. لقد كانت انتخابات حرة و نزيهة شهد لها العالم بأسره و تآمر على نتيجتها العالم بأسره! هنا فى فلسطين تجد كل التناقضات, ليس لشئ لكن لأن العالم بكله و كليله يدرك بأن القضية الفلسطينية هي قضية الأمة الإسلامية المركزية. لكن العالم هذا أيضا لا يريد أن يرى برنامج المقاومة و الحقوق و الثوابت ينتصر على برنامج الرضوخ و الإملاءات و التنازلات.
إن الانتخابات أثمرت من ربيع ذلك العام بفوز حماس و أزهرت بحكومة المقاومة الفلسطينية, و التى كانت أحد أسباب سقوط عروش الظلم و الفساد فى أقطارنا العربية, و لا سيما مصر العظيمة و الشقيقة و صاحبة الرابطة الجيوسياسية و الجار الأقرب إلى غزة حيث مسقط رأس تلك الحكومة. و لست مغالياً إذا ما قلت بأن السبب الرئيس لسقوط تلك الأنظمة المهترئة هو صمود المقاومة الفلسطينية و على رأسها حكومة حماس.
كان الرهان صعبا و قاسيا على أنظمة الخيانة و التآمر, فكان لا بد من إسقاط مشروع الأمة لضمان بقاء تلك الأنظمة, فبقائها مرتبط بمدى التزامها بضمان أمن الكيان المزعوم, و كان بن على و مبارك و القذافى و من لف لفهم يعلمون أن كل يوم تصمد فيه المقاومة و حماس أكثر هو يُنذِر بقرب زوال عروشهم و تدمير بنيانهم, لذلك لم يكن غريباً أن يتآمر الفلسطينى على الفلسطينى, و لم يكن عجيبا أن يخون أرباب أوسلو أبناء جلدتهم, كما أنه لم يكن مستهجناً أن يتآمر قادة الذل و العار فى بعض البلدان العربية على أبناء عروبتهم و دينهم و جيرانهم, و كان المثال الأبرز و الصديق الوفي للصهاينة مبارك و أصدقائه المبجلين من القادة و بعض الزعماء العرب...
من هنا أبدأ و من هنا يفهم القارئ الكريم أن 25 يناير 2006 فى فلسطين صادفتها فى الذكرى و الأهمية فقط ثورة 25 يناير 2011 فى مصر. إن المتابع لدقة الأحداث يعلم أن هذا ليس مصادفة عفوية, و الذى يؤمن بأن الله عز و جل يُعز من يشاء و يُذل من يشاء يعلم ذلك, يعلم أيضا أن الله تبارك و تعالى يداول الأيام بين الناس. إن المتتبع لسير الأحداث و المتأمل لحركة التاريخ و الأيام يُدرك لماذا بدأت الثورة على الظلم و الظالمين من خلال الانتخابات فى فلسطين؟ ويدرك لماذا كان المطلوب سحق حماس و لماذا حُوصرت غزة و شعب بأكمله من ذوى القربى؟ و إذا بدأنا بالتأمل المستفيض نُدرك لماذا تحركت مصر فى 25 يناير بالذات مع أن مبارك كانت كل أيامه ظلم!؟ إن مصر هي القلب من الجسد و الأم الحنون لنهضة الشعوب العربية, فيها خير أجناد الله فى الأرض, و هي التى إذا صلُحت صلُح الوطن العربي بأكمله و إذا تراجع دورها تراجع الموقف الرسمي العربي بأكمله.
لم نستهجن أو نستغرب أن تُُحارب المقاومة و حماس فى أول يوم لفوزها, و ليس عجباً أن تُسحب صلاحيات الحكومة العاشرة برئاسة هنية من قِبل الرئيس عباس, و ليست مفاجأة أن يرفض النظام الرسمي العربي التعامل مع قادة ووزراء حماس آنذاك إلا من رحم ربك. وكان واضحاً لنا لماذا يحارب مبارك و وزير داخليته و مدير مخابراته و نظامه البائد حماس بأظافرهم و أسنانهم أكثر مما يحاربها الصهاينة!؟
وفى ظل هذه المناسبة التى تحمل الذكرى بفوز حماس و ما مثله هذا الفوز من إرساء دعائم حقوق وثوابت الشعب الفلسطينى, و الذكرى الأولى لانطلاق الثورة المجيدة فى أرض الكنانة لا يسعني إلا أن أتذكر ما قيل وقتها و تحديدا فى العام 2006 و تحديدا من مصر بأنه لو صمدت حكومة حماس ثلاثة أشهر فسيكون هذا إنجازا تاريخيا يُحسب لها! إن الراية لم تسقط, و الحصون لم تُخترق, و المواقف لم تُنتزع, و لم يكن مقبولاً من أبناء الأمة و شعوبها الحرة أن تسقط حماس و ألا تصمد, ليس لشئ و لكن و بكل بساطة لأن حماس أخذت على عاتقها حمل هذه الأمانة الجسيمة, لأنها قضية كل مسلم على وجه الأرض, حملها من ارتضاهم رب السماوات و الأرض و اختارهم لحملها, فلم يبدلوا تبديلا, و الفضل لله من قبل و من بعد.
إن على الحكومات العربية المنبثقة عن الثورة أن تتعلم من حماس و من صمود غزة و ثبات الضفة, فهذا ليس عيباً أو تجريحاً لأحد, أما العيب أن يُخفق الأخ الأكبر فيما نجح فيه أخيه الأصغر! و عليهم أن يتذكروا ما نسيته الأنظمة من أن من أسخط الله فى رضا الناس سخط الله عليه و أسخط عليه الناس, فلن تنفعهم لا أمريكا و لا غيرها, كما أنها أيضا لن تضرهم, إذا ما صدقوا شعوبهم, عليهم أن يدركوا ما أدركته غزة و حكومتها من أنهم خدم لشعوبهم فى النهار, و طالبي رضوان الله فى الليل.
إن الله بيده المُلك, يُعز و يُذل من يشاء, فسبحان الذى وضع رأس النظام البائد فى الليمان فيما أخرج ساكنيه ليكونوا هم العنوان! و سبحان الذى أسكن العادلى فى نفس الغرفة التى سكن فيها الشاطر و العريان! سبحان الذى رفض استقبال قادة و رموز الحكومة الفلسطينية الشرعية بالأمس يتسابق اليوم على استقبالهم و التشرف بلقائهم!
إن نجاح حماس فى تجربة الحكم و فى مشروع الجهاد قد مهد الطريق و أعطى مثالاً ناصعاً لصعود الإسلام السياسي خاصة فى مصر, و قدرته على قيادة السفينة إلى شاطئ الأمان, السفينة التى يخشى أن يراها على شواطئه من حارب الله و رسوله! لكنه فى الوقت ذاته قد ألقى حملاً ثقيلاً على كاهل هذه الأحزاب الإسلامية, فالفشل هنا ممنوع, و الشعوب قد أعطت ثقتها بهؤلاء الرجال ليحملونهم إلى الحرية و العدالة, إلى الأصالة, نحو النور, يشيدون لهم البناء الراسخ و يصنعون لهم بذلك إصلاحاً و التنمية.
إن شعوبنا تتوق إلى الحرية والكرامة و العدالة الاجتماعية لإرساء دعائم الأمن و التمكين, و على الأحزاب الإسلامية أن تتقى الله عز و جل فى شعوبها, و خاصة بعد أن أعطت لهم الشعوب الشرعية لقيادتها. و عليها أن تتعاون على البر و التقوى, و أن تتعاون مع الجميع دون استثناء فيما فيه خير و نهضة تلك الشعوب المظلومة و المحرومة من أبسط مقومات العيش الحر الكريم!
وحتى لا يفوتني فإنني ناصح كريم لمن أراد أن يُفشل تجربة الإسلاميين فى الحكم بألا يشتغل فى ذلك, و لتكن حماس فلسطين عبرة له, لأنها أسقطت كل من أراد أن يسقطها, و حاصرت محاصريها, و لينظر إلى العدالة و التنمية فى تركيا ليعلم أن ذلك من أصعب المستحيلات, و أقول هنا بأن من خاف من الموت فقد يموت من الخوف.
د/ أحمد الأشقر
عضو القيادة السياسية لحركة المقاومة الشعبية
25.01.2012
غزة - فلسطين
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية