أنا ويحيى عياش ...بقلم : ماجد الكاتب

الخميس 05 يناير 2012

 
أنا ويحيى عياش


ماجد الكاتب


علي أن أعترف من الحرف الأول بين يدي هذه الكلمات أن تقديري لنفسي يتضاءل جدًا حينما أكتب عن الشهداء، خاصة أولئك الذين اجتهدوا أن يغسلوا قلبي -أنا على وجه الخصوص، أو هكذا عشت زمناً أعتقد ولا أزال-، أن يغسلوه بدمائهم، وبلحظات فريدة مشحونة بالفرح المتوتر، لحظات المطاردة، والترقب والانتظار، ترقب مواجهة طارئة، أو خبر عن مبعوث الفرح الوطني، الشهيد المرسل!

ولطالما قررت الكف عن الكتابة، مستشعراً حد الغرق خجلي من نفسي، أيضاً علي أن أخجل، فثمة من كتب ولم يخجل من كونه مجرد يكتب، لأن قلبه لم يكن كأي قلب -ليس مثل قلبي على الأقل- ينبض دماً لونه أحمر، فهذا الدم الأحمر ليس لشحن الجسد بالحياة -كما هو شأنه مع أمثالي- إنما هو فقط مدخر للحظة المناسبة التي ينسفح فيها شحناً للناس والزمان والمكان بالحياة، أما ماذا تنبض قلوبهم، وكيف يعيشون، فإنما هذا سر الله المودع فيهم، وأنّى لمثلي أن يعرف سر خاصة الله وأهله ومتخذيه الأصفياء: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ)، كان سيد قطب يكتب شهادته، عاش شطر عمره يكتب اللحظة الأخيرة، يهندس ساعة التجلي البشري الأعظم التي لا تتأتى لبشر إلا حينما يطلب الإرادة الإلهية بيقين نحت بإتقان في غور عميق من ضمير شفاف رقيق، إنه صنع الذات على عين الله، التقاء عجيب بين الإرادة البشرية المخلوقة وإرادة الله الخالق تعجز الضعفاء أمثالي عن الفهم، والإدراك، أو مجرد مقاربة التصور، لكن كل الذي أعلمه أنهم أرادوا فاستجاب الله لهم، وذلك متحقق في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، فالله تعالى لا يختار إلا من كان أهلاً بجدارة واستحقاق للاختيار، فلم يغير سيد قطب الذي كتب بفخر وثقة لا بخجل مرتبك مثلي حياته وحسب، وإنما كان خطه من أوضح الخطوط على صفحة الزمان وفي صحيفة الملايين من بعده، وها هي كلماته لا تزال، ورغم كل شيء الأكثر حياة من بين كلمات البشر.

نعم، أعترف بخجلي، وأشعر أن هذا واجب علي كلما ذكرت شهيدًا، لأن كل من لم يكن مثلهم، أقله في التخطيط للحظة الأخيرة لا مجرد أمنية عزلاء، بل رجاء وعملاً وصدقاً متيقناً، عليه حينما يذكرهم أن يخجل بصدق، أن يعرق خجلاً، أن يبكي رثاء لحاله، أن يتلظى صدره من حر إشفاقه على نفسه، لأنه هش اليقين، لم يراكم على أثر الشهداء في نفسه، يتلو سورة الشهداء، ويقرأ قول الله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) ثم لا يستبين من نفسه على وجه اليقين إرادة الآخرة، ويقرأ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)، ثم يكمل ما بقي له من عمر غافلاً عن "إذن الله" الحاسم!

هل يجوز لطم الخدود وشق الجيوب؟ هذا هو المقام الوحيد الذي يجوز فيه ذلك، هذا مقام العاجزين، لا بكاءً على الشهداء الذين هم أحياء، وإنما بكاءً على الحال الواهن، وشقاء الدنيا المتحقق، وخسارة الخلود بلا انقطاع، خسارة الوصل الأكيد العزيز بين الدنيا والآخرة، خسارة الانتقال إلى المتحقق حتماً المعلوم سلفاً من جسد الدنيا إلى حواصل الطير الخضر، فحياة دائمة بلا انقطاع سوى لحظة الانتقال العابرة!

يااااااااااااه، تعيشُ زكاةَ أيام عياش التي لا تتكرر، تتقلب على جوانب قلبك أصابع الأسطورة الحقيقية، تدغدغ لذة سارية في كيانك كالروح؛ فوق المعرفة وفوق اللغة، ينشغل رأسك الطفولي؛ المراهق؛ في خلق الخيالات الجميلة، الخيالات الشاخصة وكأنها الحقيقة لأن الوحي الذي ألهم عقلك الشارد بها أنفاس الحقيقة ذاتها، تشرد عن كل ما حولك، تتخيل عياش والرفقة الجميلة، وتجعل نفسك بينهم، وحيثما وغز حلمك الجميل شيء تستفيق على لذة الحلم وحسرة الوهم، ويمر على قلبك الخيال كله الذي هو الحقيقة كلها، الجمال كله، الفرح كله، الرجال الذين عرفتَهم وأحببتَهم ومنحوك الطفولة الأجمل، والمراهقة الأكثر حلماً وخيالاً، وتلك اللذة التي هي فوق المعرفة وفوق اللغة، ثم لا تمر على قلب أحبك!

يلقيك ربك في التجارب، تُظلم نفسك ضعفاً وجزعاً، فيسطع فيها برهان ربك رحمة ووداً، يهتف بك النور الناطق: "تريد الدنيا ويراد لك الآخرة"، وكأنك المقصود في قول النبي : (عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ)، وكأنه يراد لك الشرف رغمًا عنك: (لَا يَزَالُ اللَّهُ عز وجل يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ بِغَرْسٍ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي طَاعَتِهِ)، ثم ورغم برهان الله الذي ينطق بالنور في ظلمة نفسك الجزعة، لا ينصرف عنها السوء: حب الدنيا التي لا تمنح راغبها سوى الشقاء، وطول الأمل الغافل عن "إذن الله"، تكبر، وكأنه يتحقق فيك شيء من قوله : (لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الْأَمَلِ).

نعم، منحني يحيى عياش شيئاً جميلاً، لا تسألوني عن وصفه، لأنه فوق المعرفة وفوق اللغة، ولا تسألوني، كيف اصطدم الحلم يوم انفجر الخبر في رأسي الحالم الشارد بخيالاته، إنه المستحيل، إنها الساعة الوحيدة التي فهمت فيها موقف عمر رضي الله عنه حين مات النبي : "إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ، وَلَكِنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَبُّهُ كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُوسَى، فَلَبِثَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُقَطِّعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَاتَ"؛ هل يمكن أن نصف ماذا منحهم النبي ، أليس شيئاً فوق الوصف ودونه اللغة كلها؟ ألا يمنح الشهداء ما يمنح الأنبياء؟ يمنحون قبل أن يرتفعوا على مراقي الشهادة، يمنحون وهم يصنعون الدهشة في العقول إذ يجسمون الأسطورة حقيقة ومع ذلك يبقون فيها روح الأسطورة، ماذا يريد الإنسان أكثر من حلم، أكثر من سبب لوجوده في هذه الدنيا، أكثر من إجابة على كل الأسئلة الحائرة، أكثر من "خيمياء" حقيقية تحيل الحديد الفاني إلى ذهب خالد، من ثمرة الخلد والملك الذي لا يبلى!

تلك اللذة السارية، والخيالات الأسطورية الشاردة ما حسبت أن تنفجر في رأسي الذي تستغرقه الأحلام، اليوم، وأنا أستعيد الذكريات، أستعيد موقف عمر، يمنحنا الشهداء ما يمنحنا الأنبياء غير أنه لا يوحى إليهم، أليس (العلماء ورثة الأنبياء) ورثوا علماً، فإن الشهداء ورثوا الحياة التي أرسل بها الأنبياء، وملّكوا من ربهم ما لم يملّكه غيرهم: جعلهم شهداء على المحطات الثلاث الكبرى في عمر البشرية، شهداء على الذين من خلفهم في الدنيا، وشهداء على وصل الدنيا بالآخرة: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)، وهم الشهداء على مصائر الناس في آخر المحطات، وبوابة البشر إلى مصائر الخلود: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً).

اليوم، وأنا أستعيد تلك الذكريات، اتساءل، وقد طاش عقلي ساعتها، هل استقر بعد ذلك، ووجدت في قول أبي بكر وازعاً يربط على قلبي: "مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَمْ يَمُتْ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا، وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)"؟ واستعيد وعيي من صحوة عمر: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قُلْتُ أَمْسَ مَقَالَةً، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ كَمَا قُلْتُ، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ الْمَقَالَةَ الَّتِي قُلْتُ فِي كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَلَا فِي عهد عهده إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَدْبُرَنَا- يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ - فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ، فَاعْتَصِمُوا بِهِ تَهْتَدُوا لِمَا هَدَى الله".؟

وبعد نور الله، بقي نور الشهداء نهتدي به، ونعتصم: (وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ)، فكيف حالي اليوم، وأنا استعيد تلك الذكريات، وأتلمس قلبي من جديد، وأتفقد ذلك الشعور الذي منحوني إياه في تلك الأيام، هل أجده؟ إنه فوق المعرفة، فوق الوصف، عصي على اللمس، كالروح تماماً.. آه! نعم؛ كالروح! كيف إذا خرجت الروح من الجسد؟ كيف إذا غادرني ذلك الشعور الذي منحوني إياه يوماً، أترى فيه رمق؟ أثم شيء من بعدهم يسقي الرمق؟

والله، ليس الأمر هيناً، كما قد يبدو لمن لم يتنعم بمثل ما منحني إياه هؤلاء الشهداء، وليس يسيراً، بل مستحيل على الوصف بيان تلك المنحة، لأنها فوق المعرفة، فوق اللغة، لكني ورغم خجلي لأنني فقط أكتب؛ أو أكتب بغير القلب الذي كتب به الذين صنعوا اللحظة الواصلة بإصرار بين الدنيا والآخرة، فإن علي أن أقول؛ أن هؤلاء الشهداء قد منحوني "أنا" على وجه الخصوص شيئًا عظيماً هو فوق المعرفة، وفوق اللغة، وقد عجزت أن أرد لهم شيئاً من ذلك الفضل سوى أن أقول ممتناً وأنا العاجز: أنهم منحوني ذلك الشيء، وسوف أبقى أنتحب نشيجاً كل مرة في مثل هذا اليوم، لأنني لم أمر على قلب كما مر عياش على قلبي!

جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية