إبراهيم حامد قائد عسكري ومفكر مبدع
علاء الريماوي
في فهم العلاقة بين القلم وفوهة البندقية حكاية مريرة تعيشها الثقافة العربية هذه الأيام ، حيث تحولت المعاني الكبيرة إلى سلعة للمتاجرة والثراء حتى أننا لنلمح في عالمنا أشباه المثقف يجر خلفه إمبراطورية من الأغبياء الذين أجروا عقولهم في خدمة البسطار الغربي على الأرض العربية.
في مزاد الضمائر تتهاوى كل النفوس المريضة التي أشكل عليها فهم الكرامة والتضحية والحرية وقبلت سهل العيش بين حفر الوادي الذي يحتضن كل نطيحة متردية يعافها سبع جائع منبوذ.
في فلسطين يدخل العقل مزاد المساومات وتثمن المواقف بقناطير الذهب والعيش الرغيد وتبذل في سبيلها هماليج ودقدقة وقصور فارهات وحرية توزع عبر بطاقات الحصانة والراحة ومتعة التجوال.
في فلسطين تشترى الذات وما حوت بألقاب المدير والوزير والغفير ومعها تعيش النفس لوهلة العروض بين قدسية الصمود وفتنة الحاجة والمنطق والقدرة.
لكن يبقى في الناس صنف يحرق ألاعيب المزادات وتجار الذمم حين يغلق العرض بالثمن الأكبر وهو الموقف بالدم، والكلمة بإطلالة العنق التي تواجه مقصلة الظالم بتحد يخجل العروش المتهالكة على فتات الشهوات السخيف.
من بين من عرفنا من الناس في سني حياتنا داخل المعتقل إبراهيم حامد الذي فتح له عقله المتميز أبواب جامعة بير زيت منذ تخرجه ليعيش الكتابة والبحث في التاريخ الفلسطيني وفي تراثه وعلى حدود جغرافيته حتى نال الإعجاب ونافس أساتذته ومعلميه.
وعده الكثير دعمه في السفر إلى الدولة التي يشاء ليزين حائط مكتبه بالمراتب العلمية الكبرى ، و كعادته المتواضعة الهادئة يشعرك موافقة العرض لكن حين ترى عينيه يوقفك جدار من الطموحات الكبيرة خارج المألوف.
لقيته في رحلة السجن في العام 94 في سجن مجدو كان حينها في مقتبل شبابه وفي أوج أحلامه التي لا تنتهي كان حينها يكني نفسه بالحارث.
كانت كنيته الدقيقة هي وصف لصفاته التي كنا نتندر بها عليه ، كان يحمل في كل صباح كتاب يعتكف عليه حتى ينهيه ثم يجمل فهمه على ورق يحكيه لنا على شكل حلقة من علم يضيف عليها ثم ينقد ثم يعطي خلاصة.
برغم سنه حينها والذي لم يزد عن 25 عاماً إلا أننا كنا نسميه حكيمنا الذي لا تخطئ قراءته وخاصة حين كان يلبس قبعته الحمراء المصنوعة من الصوف في فصل الصيف والذي كان يرمز بها للحافزية والتوقد.
الجديد الذي كان يضيفه في علمه هو قراءة المستقبل والذي تحدث فيها عن الأحداث ومجريات السلام ومستقبل الحركة الإسلامية كأنه يقرأ من كتاب الغيب.
إبراهيم الذي حولته حياة الزوجية إلى أبي علي تعرف بالقائد عادل عوض الله ليبدأ معه مشوار الجهاد والمقاومة فأسس في العام 97 لما يعرف بجيش حماس الذي فككته السلطة وأمنها بعد اغتيال الشهيد محي الدين الشريف ليقع هو في أسر دام خمس سنوات في مدينة أريحا .
ظل السجن الفلسطيني يحد من فاعليته وطموحه حتى تكسر مع انتفاضة الأقصى وانطلاقه لقيادة كتائب القسام في الضفة الغربية مؤسسا ومجنداً ومنظماً حتى غدا في التصنيف الإسرائيلي الأشد خطرا على أمنه بعد مسؤوليته المباشرة عن قتل أكثر من ثمانين صهيونيا وآلاف من الجرحى .
في أيام مطاردته ظل كابوس الأجهزة الإسرائيلية والتي فشلت في اعتقاله لأكثر من تسع سنوات نجح فيها ألف مرة في البرهنة على أن المثقف الهادئ لا يسكن دفق قلمه نثر رصاصاته حين تطلب الأرض رواية الدم.
عاش حياة الجهاد حتى وقع في الأسر في العام 2006 ليضرب مرة أخرى مثل البطولة في مواجهة التحقيق بكل ثبات ليأخذ بعد ذلك إلى العزل الانفرادي بحجة أن عقل الرجل سيؤثر على محيطه وسيعزز الإرهاب.
قبل عام ونصف من اليوم وفي سفرنا إلى محكمة الاحتلال وإذا برجل مكبل يحيط به عشرات من الجند يدخل إلى زنزانة بالقرب منا وإذ به إبراهيم الذي تدافع عليه من معي من الأسرى يسألونه حاله ، وعيشة العزل وتعذيب الجلادين وهو يحمد الله مع كل سؤال ويبتسم.
وحين سكن التفاعل طلب منا أن نبلغ المحامي أنه يمنع قراءة الكتب لذلك ما يرجوه هو رفع قضية على الاحتلال لتدخل إليه قرطاس وقلم وكتاب.
ثم أفصح انه جمع من خلال ما يدخل إليه من قصاصات الورق كتاب من مئات الصفحات يتحدث فيه عن القضية الفلسطينية ومستقبل أيامها.
ضحكت حينها وقلت في ذهني قبح الله (إسرائيل) ما أضعفها حين تعجز حصار الفكر والثقافة وحتى الفعل ، في جيل لا ينكسر أبدا ولا يموت ولا يندحر بكل يقف في كل مرحلة كأنه مارد ولدته الأرض من جديد.
في المحكمة جاءت وسائل الإعلام والصحافة تريد تصويره وهو يقف للقاضي فجاءه ضابطها ليساومه على دخول أمه لتراه مقابل فقط الوقوف حين سؤاله من قاضي المحكمة ، ضحك حينها وقال للضابط أبلغ من بعثك : أننا قوم لا نقف إلا حين نريد ولا نجلس إلا حين نشاء ولن نرضخ لمساومتكم الرخيصة.
بعد ذلك دخل المحكمة ورد على وسائل الإعلام في موقف لا ينسى حين قال : لن نقر لكم دولتكم ولن نوقف المقاومة ولن نموت بالطريقة التي تشاؤون وإنما ستشهدون زوال دولتكم في قريب سيكون أسرع مما تتصورون.
في سطوري المقتضبة عن رجل فذ وقائد مفكر أردت رسالة إلى الأدمغة المستأجرة في وطني أن أفيقوا من ثمل الدولار وعيشوا مرة بكرامة تعلموها من إبراهيم المجاهد كي تفوزوا مرة باحترام ذواتكم وإلا سيدثركم التاريخ كشاور العربي الملعون.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية