جاء توقيع إعلان الدوحة الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس يوم 6 فبراير/شباط الجاري ليضع حداً لعنوان مستعص ظل مثار خلاف واختلاف في مسار المصالحة الوطنية الفلسطينية، ليس بين حركتي فتح وحماس فقط، وإنما بين مجموع القوى الفلسطينية المختلفة بما فيها فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وداخل حركة فتح ذاتها.
فما هو الجديد بهذا الشأن؟ وما هي الآفاق المتوقعة على صعيد تحقيق المصالحة الفلسطينية على الأرض بعيد توقيع إعلان الدوحة؟ وما هي المخاوف التي تنتاب البعض خشية تحول إعلان الدوحة إلى مجرد إعلان على الورق أو إلى مجرد إعلان دعائي لا أكثر ولا أقل، خصوصاً أن الفلسطينيين عموماً باتوا ينظرون إلى تفاهمات حركتي فتح وحماس بعين الحذر وعدم اليقين؟
ولا ننسى أن تجارب الاتفاقات السابقة من اتفاق القاهرة الموقع عام 2005، إلى وثيقة الوفاق الوطني الموقعة عام 2006، إلى اتفاق مكة الموقع عام 2007، إلى إعلان صنعاء عام 2008، إلى الورقة المصرية التي تم التوقيع عليها عام 2009، إلى اتفاق المصالحة الأخير الموقع في القاهرة منتصف العام 2011، جعلت الناس في حالة من البلبلة والشك في جدية ما تم التوصل إليه.
إشكالية رئيس الحكومة
في البداية، لا بد من القول بأن مسألة تشكيل حكومة وحدة وطنية وإلغاء الازدواجية الحكومية شرط ضروري -وإن كان غير كاف- للشروع العملي في إنجاز المصالحة وترجمتها على أرض الواقع.
وقد اصطدمت تلك المسألة بعقبات كثيرة طوال الفترات الماضية نتيجة التباين في الرؤية بين الجميع بشأن كيفية تشكيلها، هل هي حكومة وحدة وطنية يجري تشكيلها من القوى والفصائل إضافة إلى المستقلين، أم هي حكومة تكنوقرط مهنية انتقالية من المستقلين ومن الكفاءات كما كانت تطالب غالبية الفصائل، تقتصر مهامها على التحضير لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وإعادة إعمار قطاع غزة، وتوحيد الأجهزة الأمنية بين الضفة الغربية وقطاع غزة وكافة مؤسسات السلطة الفلسطينية؟
إضافة إلى ذلك فقد كان هناك خلاف مستحكم على اسم المرشح المطلوب لرئاسة الحكومة، فبينما كان التوجه العام لدى الرئيس محمود عباس هو ترشيح سلام فياض رئيساً للحكومة الموحدة القادمة لأسباب تتعلق بعلاقاته الدولية وقبوله لدى الغرب والدول المانحة، كانت حركة حماس تعارض هذا الاختيار بشكل كبير.
وهذه المعارضة نتيجة لملاحظاتها السياسية على شخص فياض انطلاقاً من التزكية الأميركية والغربية له، كما كانت تعارض ترشيحه أيضاَ شخصيات وقيادات معروفة من حركة فتح، انطلاقاً من اتهامها له بتهميشه لكوادر الحركة وإقصائه لهم من مواقعهم التي يستحقونها داخل أطر ومؤسسات ووزارات السلطة الفلسطينية.
وهكذا، فقد كان اسم المرشح لرئاسة الحكومة الانتقالية الموحدة مثار إشكالية كبيرة، طالما اعترضت ملف تشكيل الحكومة عند كل لحظة يتم فيها التوقف عند هذا الملف، الذي يعتبر بدوره ملفاً حساساً على صعيد إنجاح مسيرة إعادة بناء الوحدة الوطنية وتحقيق المصالحة الوطنية الفلسطينية -قولاً وعملاً- على أرض الواقع، عبر إعادة توحيد المؤسسات الحكومية بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
وكما تشي الوقائع، فإن إعلان الدوحة الفلسطيني جاء بعد ترشيح حركة حماس الرئيس عباس لرئاسة الحكومة التوافقية كمخرج خلاق لإشكالية داخلية بعد تعذر تشكيل حكومة موحدة لاستحالة التوافق على اختيار اسم شخص محدد لرئاستها، رغم طرح عدد جيد من الأسماء من أصحاب الكفاءات المرموقة.
أما الاعتراض القائل بأن ترشيح عباس لرئاسة الحكومة مخالف للقانون الأساسي (الذي ينص على فصل السلطات، وعدم مزاوجة شخصية واحدة بين مهام رئيس السلطة ورئيس الوزراء)، فإن المخرج الخلاّق يفسح المجال أمام مرونة لتحقيق توافق وطني دون الوقوف عند حرفية القانون، فما جرى كان مخرجاً من مأزق.
الانتخابات تشترط حكومة موحدة
وعليه، فإن اختيار عباس لرئاسة الحكومة الانتقالية من شأنه أن يبدد بعض المخاوف التي تتعلق بالممولين الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، حيث يصعب عليها في هذه الحالة وقف المساعدات لحكومة كفاءات مهنية فلسطينية موحدة يترأسها عباس.
كما يصعب على "إسرائيل" وقف تحويل المستحقات المالية للسلطة، حيث لا يوجد لديهم أي مبرر الآن لتنفيذ أي من التهديدات التي استمع إليها الفلسطينيون في الأشهر الماضية.
وبالطبع، فإن ما تحقق في إعلان الدوحة، وتخطي الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل إشكالية حالت دون تشكيل رئاسة حكومة الكفاءات المهنية الفلسطينية جرى الاتفاق عليها في مايو/أيار الماضي، يفتح الطريق أمام إمكانية الإعلان الرسمي عن الحكومة الفلسطينية الجديدة الموحدة في اجتماع للجنة منظمة التحرير الفلسطينية يُرتقب عقده قريباً في العاصمة المصرية القاهرة، كما يتوقع أيضاً أن يجري عرضها على المجلس التشريعي لنيل الثقة بحسب القانون الأساسي الفلسطيني.
من جانب آخر، فإن إنجاز تشكيل حكومة وحدة وطنية كان وما زال شرطاً لا بد منه من أجل إنجاز الملف المتعلق بإجراء الانتخابات التشريعية للمجلس التشريعي للضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني.
فمن حيث المنطق لا يمكن إجراء انتخابات موحدة تتمتع بالنزاهة والمصداقية دون حكومة وحدة وطنية، فإنهاء ملف الازدواج الحكومي كان وما زال أمراً لا بد منه للوصول إلى تلك الانتخابات المرجوة، لا سيما بعدما اتضح أن ليس لدى لجنة الانتخابات ما يكفي من الوقت لإجراء الانتخابات يوم 4 مايو/أيار المقبل كما جرى الاتفاق عليه سابقاً بين جميع القوى الفلسطينية.
وعليه فقد جاء في نص إعلان الدوحة أن على حكومة التوافق الوطني الإعداد وتوفير الأجواء لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية وانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، وهو ما يستوجب أن تبدأ لجنة الانتخابات المركزية عملها في غزة، وهو ما تم التأكيد عليه في بند منفصل في إعلان الدوحة حين حُدّد بالفقرة التالية "التأكيد على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في القاهرة لبدء عمل لجنة الانتخابات المركزية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس".
تهيئة أجواء الانتخابات
إن الانتخابات الديمقراطية المطلوبة تعزز ثقة الشعب الفلسطيني بمؤسساته، وهو ما يفترض تهيئة الأجواء والمناخات الصحية الضرورية والمناسبة لإجراء تلك الانتخابات، والعمل على تنفيذ بنود المصالحة على الأرض لجهة توحيد المؤسسات المدنية والعسكرية وحتى الأمنية في عموم الأرض المحتلة عام 1967.
يضاف إلى ذلك الإسراع في تنفيذ كافة بنود المصالحة، خاصة ما يتعلق منها بحرية العمل السياسي لكافة القوى في الضفة الغربية وقطاع غزة وإنهاء ظاهرة الاعتقال والاستدعاء لأسباب سياسية والإفراج عن كل المعتقلين السياسيين، وهو ما يتطلب أيضاً الإفراج الفوري عن كل المعتقلين السياسيين دون تأخر أو تباطؤ.
والتباطؤ في تنفيذ هذا الأمر سينعكس سلباً على إعلان الدوحة، وسيدفع بالمتضررين من المصالحة إلى إعلاء صوتهم والمشاغبة في الشارع وتوجيه نقدهم الحاد، بل وتعطيل الأمور إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
إن بزوغ بشائر إمكانية تشكيل حكومة الوحدة الوطنية لا يعني أن باقي الملفات المطروحة على طاولة المصالحة قد تيسرت وباتت على سكة سلسة، فهناك ملفات عديدة ما زالت تحتاج إلى جهد كبير من أجل إنجازها وتذليل المصاعب التي تعترض طريق إغلاقها بنجاح.
وفي طليعة تلك الملفات موضوع إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيع إطارها بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وخطوات تفعيل وتطوير المنظمة تتم عبر إعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني بشكل متزامن مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
ومن جهة أخرى يستمر عمل اللجان التي تم تشكيلها وهي لجنة الحريات العامة المكلفة بمعالجة ملفات المعتقلين والمؤسسات وحرية السفر وعودة الكوادر إلى قطاع غزة وجوازات السفر وحرية العمل، ولجنة المصالحة المجتمعية.
خلاصات واستنتاجات
إن إعلان الدوحة الفلسطيني رزمة واحدة يجب أن يُطبق بكل تفاصيله وعلى كافة الأصعدة والملفات وبالتوازي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وصولاً إلى إنجاز المهام المرجوة والمطلوبة من الحكومة الفلسطينية القادمة.
وما يهمنا في هذا المجال هو التأكيد على القول بأن المواطن الفلسطيني لا يريد أن يسمع أقوالاً فقط، بل يريد أن يرى الأمور على أرض الواقع عبر نتائج ملموسة ومحددة، وهو ما يعني بالنسبة له الإسراع في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه من أجل إعادة اللحمة إلى الصف الوطني وإنهاء الانقسام المؤذي.
إن إعلان الدوحة يأتي في لحظات حاسمة من حياة المنطقة التي تشهد ارتجاجات كبيرة وهزات متتالية، لها علاقة بمجموعة التحولات الجارية في الإقليم وحتى في العالم بأسره، والفلسطينيون ليسوا خارج تلك التفاعلات ولا بمنأى عنها، بل هم في قلبها.
فالمرحلة الحالية التي تشهد صعود تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، وضعت مجمل الحالة الفلسطينية أمام مفترق طرق صعب، كما وضعت حركة حماس أمام استحقاقات كبيرة لها علاقة بتشعب الوجود والانتشار التنظيمي للحركة في فلسطين والشتات، كما أن لها علاقة بالمتغيرات الجارية في بعض بلداننا، مترافقاً معها فشل وانسداد أفق المسار التفاوضي مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما عزز من إمكانية التلاقي الفتحاوي الحمساوي.
إن تلك التحولات الإقليمية المشار إليها أعلاه، تطرح أمام الفلسطينيين وبقوة مهمة إعادة بناء قواهم وتوحيد جهودهم ووضع حد للانقسام المدمر في صفوفهم، وعلى حركتي فتح وحماس وباقي القوى أن تعي ذلك بكل حرص وبمسؤولية عالية.
عقبات ومآلات
من جانب آخر، يُتوقع أن تلقى الخطوات التنفيذية لإعلان الدوحة الفلسطيني منغصات كثيرة وقد تكون كبيرة، جزء منها من داخل البيت الفلسطيني كاستمرار الاعتقالات السياسية والعجز عن توحيد المؤسسات خاصة العسكرية والأمنية منها، أو البدء بتنفيذه على مضض وتسويف في ظل معارضين له من داخل حركتي فتح وحماس حتى لو كانوا أصحاب نفوذ متواضع.
أما الجزء الأوسع من تلك المنغصات فسيأتي -كما هو متوقع- من الطرف الإسرائيلي الذي لا يريد أن يرى توافقاً وطنياً فلسطينياً، ولا يريد أن يرى حالة فلسطينية متماسكة.
وانطلاقاً من ذلك أعلن بنيامين نتنياهو عن إدانته لإعلان الدوحة الفلسطيني، داعياً الرئيس محمود عباس إلى الاختيار بين ما أسماه السلام مع إسرائيل، أو التحالف مع حركة حماس، حيث لا يمكن المضي في كلا الاتجاهين حسب نتنياهو.
وبكل الحالات، فإن إعلان الدوحة خطوة جيدة ومتقدمة في مسار المصالحة، وفي مسار اجتراح حل إبداعي خلاق لتذليل عقبة تشكيل الحكومة الفلسطينية الموحدة، لكن ملفات المصالحة بتعقيداتها طويلة ولن يتم حلها في وقت قصير، وهي ما زالت تحتاج إلى مزيد من الإنضاج أولاً ومزيد من التفاني ثانياً، ومزيد من التغلب على الأنانيات والعصبويات التنظيمية ثالثاً، ومزيد من الارتقاء في وعي المصالح الوطنية العليا والكف عن المصالح الخاصة لهذا الفصيل أو ذاك رابعاً.
الجزيرة نت
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية