إلى أصحاب المبادرات..ليتكم كنتم مثل كعب
ديمة طهبوب
تناول المفسرون ظلالا كثيرة لقصة المتخلفين عن غزوة تبوك، والقصة ومعانيها تظلّ حاضرة متجددة، وما ذلك إلاّ للدرس القرآني الذي يؤكد صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، وبالذات في الأصول والمبادئ مع ترك الهامش للاختلاف في الفروع.
يعلّق سيد قطب على قصة المتخلفين الذين صدقوا الله ورسوله بعد تخلّفهم عن جماعة المسلمين، إذ كانوا سابقا من صالحي الصحابة وبالذات كعب بن مالك الذي كان سباقا ولم يتخلّف عن مشهد مع الرسول ، باستثناء بدر، وشهد بيعة العقبة: «إنّها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ومتانة بنائها وصفاء عناصرها ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة وتكاليف الدعوة ولقيمة الأوامر ولضرورة الطاعة».
لقد تخلّف أو اختلف كعب مع المسلمين ونزل به العقاب والإبعاد، ولكنه ظلّ ملازما لهم، صادقا في مبدئه وكان بإمكانه أن يبرر ويناقش ويدافع وقد أُثر عنه قوة الحجة وقال عن نفسه: «لقد أعطيت جدلا» ولكنه آثر الصدق، وليس الصدق هنا خلاف الكذب، ولكنه صدق المبادئ والالتزام بالجماعة كمنهاج حياة وليس فقط كخلق ولذا علّق على موقفه فقال: «ما علمت أنّ الله قد أبلى أحدا على الصدق مثلما أبلاني وإنّي لأرجو فيه عقبى من الله» وجاءت الآية ختاما وملخصا لأخلاق الخلاف وكيفية النجاة منه بالتقوى والصدق فقال تعالى: «يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» وحال الكينونة هذه خُلُق في النفس وتطبيق في واقع الحياة لا يستقر في وجدان المرء ولا يستحق صفته إلاّ إذا مارسه من المهد إلى اللحد، ومن البدء إلى المنتهى.
لم يرض كعب أن يبتعد عن جماعة المسلمين لا اختيارا ولا اضطرارا حتى مع وجود الإبعاد القسري، بل وعدَّ ذلك من الاستدارج الشيطاني يوم وصلته رسالة استمالة من ملك غسان تمدح وتواسي وتعرض الزلفى والقربى فاعتبرها بلاء وامتحانا آخرا وألقاها في النار ولزم صف المسلمين.
إنّ قادة وأبناء الحركة الإسلامية بحاجة إلى استذكار وتمثُّل أخلاق هذا المعين التربوي الأصيل في لزوم جماعة المسلمين أيّا كانت الأحوال، وصدق العهود والوعود مع الله ومن ثم للمبادئ التي لا تعرف أشخاصا ولا مواقع، بل تعرف الله وترضى بما أقامها الله فيه، إن كان في المقدمة أو الساقة، فما يرفع الأعمال والأسماء هو عزة الله التي يلقيها على عباده وأعمالهم وسيرهم وآثارهم «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا».
إنّها لمواقف بالغة الأذى والألم أن ينفصل بعض قادة العمل الإسلامي عن المفاهيم التي قضوا ردحا وهم يعلمونها ويبنونها في الأجيال التي لحقتهم عن التجرد للفكرة والإخلاص للمبدأ وعدم التبديل ولا الاستقالة ولا القبول بالإقالة وأنّ العمل للإسلام له طريق دخول فقط وليس فيه طريق خروج، سواء كانت الظروف مؤهلة أو معسرة أو كان العاملون مساعدين أو معاندين، وأن يكون المرء مع إرادة الله فيه إن شاء أقامه في العلن أو أقامه في السر.
إنّ بعض مصائب الحركة الإسلامية من داخلها وبأيدي أبنائها عندما يرى بعضهم أنّهم كبروا عليها وأنّها أصبحت لا تستوعب تقدمهم ولا طاقاتهم ولا المجتمع من حولهم وأنّ العمر والتاريخ والتجربة التراكمية أصبحت قاصرة على استيعاب التطورات الراهنة والتحولات الجديدة! وبدل البر بالحركة التي رعتهم وجعلت لهم أسماء ومواقع ومكانة بين الناس في الداخل والخارج يعقّونها باستبدالها بصور ومسميات وهيئات جديدة تبدو بهجة للناظرين وفتنة للمفكرين وما هي في حقيقتها سوى شرخ ونزع وتقسيم ولو جاء في ثوب الملائكة وحجة الحكماء!
إنّ النوايا الصافية والأفكار العظيمة بحاجة إلى حواضن وعوامل مساعدة ووضوح وظروف مواتية حتى لا تجتمع عليها الشبهات ويخدمها الفلول فينقلب صفاؤها كدرا ووبالا، أمّا في وقت الشدة والزعزعة والفتنة فإنّ لزوم الخندق المكين والتكاتف والتجميع هو عين العقل وغير ذلك هو فتح وخرق نساعد به كل متربص ليضرب الصف، ومثال حاطب بن أبي بلتعة خير شاهد عن رجل صاحب بداية مشرقة خلطها بنهاية لا يرضى عنها الله ورسوله وكان يظن أنّه يحسن صنعا.
وبالمقابل هذا لا يعفي الحركة الإسلامية من ضرورة التجديد والمراجعة وتداول السلطة وضخ الدماء الجديدة وعدم القبول بهيمنة طرف على طرف فالصلاح والإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل وهو في اختلاف الآراء وتعدد الشخصيات ضمن الإطار الواحد، فالحركة الإسلامية لا يجب أن تكون أسيرة لقائد ملهم ومن معه تبع على نفس لونه ودرسه أو كما يقول المثل «قاريين على شيخ واحد»! الصلاح والإصلاح في أن تنقلب الحركة الإسلامية على نفسها من نفسها وتغيّر أوضاعها وتراجع سياساتها بيدها لا بيد من لا يريدون لها خيرا ويمكرون بها وأن تسع الكبير والصغير والذكر والأنثى والمخالف قبل الموافق والشاب جنبا إلى جنب مع الشيخ، وإلاّ فلا عتب بعد ذلك على من وجد السقف واطئ لا يتّسع له وخرج ليبحث عن أطر ومبادرات.
إنّ لإصحاب المبادرات الجديدة حجة ومنطقا محكما، ففي يوم من الأيام كنّا تلاميذ وطلاب جامعات في محاضراتهم في مفاهيم السياسة الشرعية والاصطلاحية وكانوا أعلاما في التنظير للفكر السياسي الإسلامي فلن أغلبهم بقوة المنطق ولكني آمل أن أذكرهم وأصل إليهم بالصدق أن يراجعوا أنفسهم ولا يجعلوا عملهم مثارا لشبهة ولا يفتحوا الباب ولا النار على حركة ضحّوا هم شخصيا من أجلها لرفعة الإسلام وخدمة المجتمع، فإنّ الناس إذا رأت واحدا خارج الصف لا يقولون خرج واحد ولكن يقولون صف أعوج.
ومن رضي بذلك فقد تنكّر لمبادئه وتاريخه ولن ينفعه مستقبله، ومن رمى بحجر في النهر الذي سقاه عند عطش وأمدّه عند حاجته لن ينفعه حفر الجداول والسواقي، فالأثر لا يغني عن العين ولا فرع قوي بغير أصل.
فاللزوم اللزوم والثبات الثبات والصدق الصدق وللجميع أن يسع بعضنا بعضا.
ديمة طهبوب
تناول المفسرون ظلالا كثيرة لقصة المتخلفين عن غزوة تبوك، والقصة ومعانيها تظلّ حاضرة متجددة، وما ذلك إلاّ للدرس القرآني الذي يؤكد صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، وبالذات في الأصول والمبادئ مع ترك الهامش للاختلاف في الفروع.
يعلّق سيد قطب على قصة المتخلفين الذين صدقوا الله ورسوله بعد تخلّفهم عن جماعة المسلمين، إذ كانوا سابقا من صالحي الصحابة وبالذات كعب بن مالك الذي كان سباقا ولم يتخلّف عن مشهد مع الرسول ، باستثناء بدر، وشهد بيعة العقبة: «إنّها صورة بارزة الخطوط عن القاعدة الصلبة للمجتمع الإسلامي ومتانة بنائها وصفاء عناصرها ونصاعة تصورها لمعنى الجماعة وتكاليف الدعوة ولقيمة الأوامر ولضرورة الطاعة».
لقد تخلّف أو اختلف كعب مع المسلمين ونزل به العقاب والإبعاد، ولكنه ظلّ ملازما لهم، صادقا في مبدئه وكان بإمكانه أن يبرر ويناقش ويدافع وقد أُثر عنه قوة الحجة وقال عن نفسه: «لقد أعطيت جدلا» ولكنه آثر الصدق، وليس الصدق هنا خلاف الكذب، ولكنه صدق المبادئ والالتزام بالجماعة كمنهاج حياة وليس فقط كخلق ولذا علّق على موقفه فقال: «ما علمت أنّ الله قد أبلى أحدا على الصدق مثلما أبلاني وإنّي لأرجو فيه عقبى من الله» وجاءت الآية ختاما وملخصا لأخلاق الخلاف وكيفية النجاة منه بالتقوى والصدق فقال تعالى: «يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين» وحال الكينونة هذه خُلُق في النفس وتطبيق في واقع الحياة لا يستقر في وجدان المرء ولا يستحق صفته إلاّ إذا مارسه من المهد إلى اللحد، ومن البدء إلى المنتهى.
لم يرض كعب أن يبتعد عن جماعة المسلمين لا اختيارا ولا اضطرارا حتى مع وجود الإبعاد القسري، بل وعدَّ ذلك من الاستدارج الشيطاني يوم وصلته رسالة استمالة من ملك غسان تمدح وتواسي وتعرض الزلفى والقربى فاعتبرها بلاء وامتحانا آخرا وألقاها في النار ولزم صف المسلمين.
إنّ قادة وأبناء الحركة الإسلامية بحاجة إلى استذكار وتمثُّل أخلاق هذا المعين التربوي الأصيل في لزوم جماعة المسلمين أيّا كانت الأحوال، وصدق العهود والوعود مع الله ومن ثم للمبادئ التي لا تعرف أشخاصا ولا مواقع، بل تعرف الله وترضى بما أقامها الله فيه، إن كان في المقدمة أو الساقة، فما يرفع الأعمال والأسماء هو عزة الله التي يلقيها على عباده وأعمالهم وسيرهم وآثارهم «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا».
إنّها لمواقف بالغة الأذى والألم أن ينفصل بعض قادة العمل الإسلامي عن المفاهيم التي قضوا ردحا وهم يعلمونها ويبنونها في الأجيال التي لحقتهم عن التجرد للفكرة والإخلاص للمبدأ وعدم التبديل ولا الاستقالة ولا القبول بالإقالة وأنّ العمل للإسلام له طريق دخول فقط وليس فيه طريق خروج، سواء كانت الظروف مؤهلة أو معسرة أو كان العاملون مساعدين أو معاندين، وأن يكون المرء مع إرادة الله فيه إن شاء أقامه في العلن أو أقامه في السر.
إنّ بعض مصائب الحركة الإسلامية من داخلها وبأيدي أبنائها عندما يرى بعضهم أنّهم كبروا عليها وأنّها أصبحت لا تستوعب تقدمهم ولا طاقاتهم ولا المجتمع من حولهم وأنّ العمر والتاريخ والتجربة التراكمية أصبحت قاصرة على استيعاب التطورات الراهنة والتحولات الجديدة! وبدل البر بالحركة التي رعتهم وجعلت لهم أسماء ومواقع ومكانة بين الناس في الداخل والخارج يعقّونها باستبدالها بصور ومسميات وهيئات جديدة تبدو بهجة للناظرين وفتنة للمفكرين وما هي في حقيقتها سوى شرخ ونزع وتقسيم ولو جاء في ثوب الملائكة وحجة الحكماء!
إنّ النوايا الصافية والأفكار العظيمة بحاجة إلى حواضن وعوامل مساعدة ووضوح وظروف مواتية حتى لا تجتمع عليها الشبهات ويخدمها الفلول فينقلب صفاؤها كدرا ووبالا، أمّا في وقت الشدة والزعزعة والفتنة فإنّ لزوم الخندق المكين والتكاتف والتجميع هو عين العقل وغير ذلك هو فتح وخرق نساعد به كل متربص ليضرب الصف، ومثال حاطب بن أبي بلتعة خير شاهد عن رجل صاحب بداية مشرقة خلطها بنهاية لا يرضى عنها الله ورسوله وكان يظن أنّه يحسن صنعا.
وبالمقابل هذا لا يعفي الحركة الإسلامية من ضرورة التجديد والمراجعة وتداول السلطة وضخ الدماء الجديدة وعدم القبول بهيمنة طرف على طرف فالصلاح والإصلاح الحقيقي يبدأ من الداخل وهو في اختلاف الآراء وتعدد الشخصيات ضمن الإطار الواحد، فالحركة الإسلامية لا يجب أن تكون أسيرة لقائد ملهم ومن معه تبع على نفس لونه ودرسه أو كما يقول المثل «قاريين على شيخ واحد»! الصلاح والإصلاح في أن تنقلب الحركة الإسلامية على نفسها من نفسها وتغيّر أوضاعها وتراجع سياساتها بيدها لا بيد من لا يريدون لها خيرا ويمكرون بها وأن تسع الكبير والصغير والذكر والأنثى والمخالف قبل الموافق والشاب جنبا إلى جنب مع الشيخ، وإلاّ فلا عتب بعد ذلك على من وجد السقف واطئ لا يتّسع له وخرج ليبحث عن أطر ومبادرات.
إنّ لإصحاب المبادرات الجديدة حجة ومنطقا محكما، ففي يوم من الأيام كنّا تلاميذ وطلاب جامعات في محاضراتهم في مفاهيم السياسة الشرعية والاصطلاحية وكانوا أعلاما في التنظير للفكر السياسي الإسلامي فلن أغلبهم بقوة المنطق ولكني آمل أن أذكرهم وأصل إليهم بالصدق أن يراجعوا أنفسهم ولا يجعلوا عملهم مثارا لشبهة ولا يفتحوا الباب ولا النار على حركة ضحّوا هم شخصيا من أجلها لرفعة الإسلام وخدمة المجتمع، فإنّ الناس إذا رأت واحدا خارج الصف لا يقولون خرج واحد ولكن يقولون صف أعوج.
ومن رضي بذلك فقد تنكّر لمبادئه وتاريخه ولن ينفعه مستقبله، ومن رمى بحجر في النهر الذي سقاه عند عطش وأمدّه عند حاجته لن ينفعه حفر الجداول والسواقي، فالأثر لا يغني عن العين ولا فرع قوي بغير أصل.
فاللزوم اللزوم والثبات الثبات والصدق الصدق وللجميع أن يسع بعضنا بعضا.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية