إلى الإسرائيليين.. انتظروا عفريت المستوطنين
د. محمد خالد الأزعر
عندما هاجم المستوطن باروخ غولدشتاين المصلين في المسجد الإبراهيمي في الخليل فجر 25 فبراير 1994، فقتل 29 وجرح 150 منهم، بادر مسؤولون إسرائيليون إلى التبرؤ من هذه الجريمة بحسبها "عملاً فردياً لا يعبر عن ثقافة أصيلة لدى جمهور المستوطنين..". لكن بعضاً من الساسة والعسكريين والحاخامات في "إسرائيل"، لم يأخذوا بأسلوب المداهنة والتقية، فباحوا بالثناء على هذا القاتل، ومنهم من اعتبره بطلاً.
غولدشتاين طبيب يهودي هاجر إلى "إسرائيل" من حي بروكلين الأميركي، قبل اقتراف جريمته بأحد عشر عاماً، ليسكن مستوطنة كريات أربع في رحاب الخليل.. وطوال هذه الفترة اشتهر بالتطرف الديني المفرط؛ حتى إنه صرح باستحالة أن يسعف فلسطينياً أو عربياً إذا ما استدعت الطوارئ ذلك. وليس من قبيل الصدفة أنه ارتكب جريمته في عيد البوريم اليهودي، الذي يعني "يوم الانتقام من العرب".
يومذاك، لم تحرك قوة الجيش الإسرائيلي المعسكرة على بعد خطوات من المسجد، ساكناً لمنع الجريمة، بل وعرقلت وصول سيارات الإسعاف لإنقاذ بعض المصابين.. وصدرت عن المستوطنين تعليقات تشي بالقناعات العنصرية المريرة القارة في جوارحهم، وما سينجم عنها من تداعيات عنفية إذا ما أتيحت لها فرص الانفلات ضد الفلسطينيين، إذ قال مستوطن إن "غولدشتاين قام بعمل عظيم"، وقال ثان "إنه هدية أرسلت لنا في يوم البوريم"، وقالت طفلة منهم لم تتعد السابعة عشرة "إنه أدى مهمة مقدسة"، وذهبت زميلة لها إلى أنه "كان عملاً بطولياً من قديس..".
ومن إضبارة الجريمة، عرفنا أن التقارير الاستخبارية الخاصة بالمجرم كانت تشير إلى حقده الأسود في حق العرب، وأنه مؤهل لاقتراف أي تصرف دموي ضدهم، بل وضد الموصوفين بعدم التدين من اليهود. ومع ذلك رفض رؤساؤه أثناء خدمته في الجيش، نقله من أماكن الاحتكاك بالعرب. وبعد قتله ساعة الجريمة، رتبت له الحكومة جنازة شارك فيها زهاء ألف ممن هم على شاكلته. وفي تأبينه صرح أحدهم بأنه "كان بإمكانه الهروب وتكرار ما قام به في أربعة مساجد أخرى..".
مؤدى ذلك أن أغلبية الإسرائيليين فرحوا بتلك الجريمة، ورفعوا صاحبها الآثم مكاناً علياً، حتى أسبغ عليه بعضهم القداسة وحولوا قبره مزاراً للتبرك.. ولم يأبهوا لأن عنف المستوطنين اللامحدود ربما ارتد إليهم ذات حين.
وهذا ما حدث بعيد تلك الفعلة، حين أقدم مهووس ديني على اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين.. ثم تطور الأمر إلى صدور فتوى دينية بأن لا يطيع الجنود أوامر قادتهم إذا ما طلبوا منهم التعرض للمستوطنين.
وعموماً، ترتب على الملاطفة الفائضة للمستوطنين وغلاة المتطرفين الدينيين خلال العقدين الأخيرين، أن صاروا قوة يحسب لمواقفها ألف حساب عند اتخاذ قرارات فارقة من لدن أعلى المقامات السياسية في الدولة الصهيونية. وساهمت المؤسسة القضائية في هذا الانحراف، جراء انحيازها للمستوطنين وعنفهم، إلى أن بات قتلهم لأحد الفلسطينيين لا يساوي أكثر من بعض التقريع أو حبس شهر مع وقف التنفيذ.
كان من شأن ذلك كله ونحوه، أن زادت ثقة المستوطنين في أنفسهم، حتى ظنوا أنهم الحراس الحقيقيون للفكرة الصهيونية، وأن هذه المكانة تبيح لهم تجاوز كل الحدود والضوابط، بما في ذلك التعدي على قوات الشرطة والجيش بالقول والفعل، إذا ما حالت بينهم وبين تصرفات بعينها.. وخلال العام 2011 ارتفعت معدلات عنفهم وخروجهم عن الطاعة تجاه هذه القوات، إلى درجة أقلقت كثيراً من القادة العسكريين. وفي مايو الماضي علق ضابط كبير مخضرم بالقول "ما يجري في الضفة يكاد يفضي إلى بروز ثلاث دول: إسرائيل، وفلسطين، وبينهما دولة المستوطنين المتطرفين".
جاء هذا التعليق تعقيباً على قيام المستوطنين بقذف وحدة عسكرية تتولى حمايتهم، بجوار قبر يوسف في نابلس بالحجارة. وحينها لم تستبعد الأجهزة الاستخبارية أن تتعرض وحدات الجيش لإطلاق الرصاص من جانب المستوطنين الرافضين لإخلاء بؤر استيطانية.
المدهش أن هذا التصور كاد يقع حرفياً في آخر ديسمبر الماضي، حين اقتحم 50 مستوطناً قاعدة عسكرية قرب أريحا، وألقوا عليها حجارة وأتلفوا مركبات تخصها.. حدث ذلك على خلفية شائعة (مجرد شائعة) بأن الجيش سيخلي مستوطنة معزولة في الضفة. هذه الحادثة فتحت أعين الساسة الإسرائيليين عن آخرها، على ما حاولوا إغفاله وتجاهله، منذ جريمة غولدشتاين وما قبلها وبعدها.. وهي تضخم قوة المستوطنين إلى ما بعد الخطوط الحمر ضد الدولة وأبرز رموزها.. الجيش.
فالرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز رأى في الهجوم إهانة كبرى، ووزير الدفاع إيهود باراك اعتبر المهاجمين مجرمين متطرفين، والمتحدث باسم الجيش يوناف موردخاي قال إن الجناح اليميني تخطى كل المحظورات.. لكن المداخلة الأكثر واقعية وفهما للظاهرة، جاءت على لسان زعيمة المعارضة تسيبي ليفني "الحكومة الإسرائيلية هي التي أججت التطرف وسمحت للجماعات المتشددة بتحديد مصيرنا". وفي 27 ديسمبر الماضي تظاهر أكثر من 3000 إسرائيلي في القدس الغربية، تنديداً بعنف المستوطنين، وما وصفوه بمحاولتهم فرض رؤاهم على اليهود الآخرين.
أين هذه التعليقات في نهاية 2011 من أصداء فعلة غولدشتاين والتابعين لملته الإجرامية قبل عقد ونصف؟!
في الوقت الراهن، يوشك خروج عفريت المستوطنين من قمقمه أن يكتمل، ولم يعد من الجائز تنسيب إجرامهم إلى مجرد فرد أهوج أو قلة لا يخشى سعارها.. إنهم كثرة في طريقها إلى تحقيق نبوءة الذين رأوا فيهم دولة داخل الدولة، وربما فوق الدولة...إنه السحر الذي راح ينقلب على الساحر.
صحيفة البيان الإماراتية
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية