بعد منتصف الليل قام احمد من "برشه" وبدء يقطع الغرفة ذهاباً واياباً، ويغلق شفتيه ليكتم ألماً يكاد أن يخرج رغماً عنه، ويتحرك بخفه حتى لا يزعج زملاء الأسر النائمين، وخاصة أولئك الذين لم تتسع الغرفة لهم فينامون على الأرض، ولكن هيهات لرفاق القيد أن يأخذهم النوم وزميل لهم يتألم، فبدءوا يستيقظون واحداً تلو الأخر يواسون احمد الذي لولا الخشية من شماتة الجلاد لصرخ بأعلى صوته من شدة الألم الذي يعانى منه نتيجة وعكة أصابت أسنانه .
لم يكن هذا اليوم هو الأول للأسير أحمد الذي يعانى فيه من وجع في أسنانه بل هو الثاني والستين ، وقد قدم طلباً أكثر من مرة للإدارة لكي يتم عرضه على طبيب أسنان متخصص ليكتشف سبب تلك الآلام الرهيبة التي تجتاحه بعد منتصف كل ليلة ولكن ليس هناك جواب.
وبعد مناشدات عدة من الأسرى، ومن مسئول القسم الذي يقبع فيه احمد، اخبره السجان بأن له موعداً مع الطبيب غداً، استبشر احمد خيراً بان معاناته سوف تنتهي، وانه سينام ملء جفنيه ، بعد أن فارقه النوم لشهور طويلة، وفى تلك الليلة لم ينم احمد، ليس شوقاً للقاء الطبيب ، إنما اشتد عليه الألم بشكل كبير، وكأن أسنانه قد علمت بان له موعداً مع الطبيب فأرادت الانتقام منه .
تجهز احمد في اليوم التالي وانتظر طويلاً ، دون جدوى فلم يحضر السجان لاصطحابه إلى العيادة ، وحين السؤال اكتشف بان الطبيب في إجازة للاحتفال "بعيد ميلاد جاره العزيز"، وبذلك ألغى الحجز الخاص به، وعليه الانتظار حتى يُحجز له مرة أخرى، وتبخرت أحلام احمد براحة البال ، واستمر عذابه لأسبوعين جديدين حتى تم إبلاغه مرة أخرى بأنه سيعرض على الطبيب .
وفى اليوم التالي بالفعل حضر الشرطي وأخرجه من الغرفة ، واقتاده حتى باب غرفة الطبيب ، وهناك فقد قيوده ، وتهامس السجان مع الطبيب وهما ينظران إلى احمد نظره حقد وكراهية ، فهم من خلالها أن السجان يوصى الطبيب بان يسعى بكل طاقته لاستمرار ألام احمد لأنه يعد احد المخربين الإرهابيين .
جلس احمد على الكرسي الخاص بعلاج الأسنان، على أمل أن تنتهي تلك الأيام السوداء، وجلس السجان قريباً منه، وإذا بذلك الشخص المسمى طبيب يلقى نظرة سريعة على أسنان احمد ، ثم يتناول من جواره آله حادة "كماشة" ويقول له افتح فمك ، يسأله احمد ماذا تريد أن تفعل بهذه الآلة المخيفة ؟ قال له أريد أن اخلع لك 3 من طواحينك انتهت صلاحياتها، ولا اضمن لك مضاعفات وتداعيات الخلع ، استهجن احمد هذا العلاج السريع دون فحص أو تصوير، وقال هذا هو العلاج لديكم، ألا يوجد بديل فأسناني بحاجة إلى تنظيف وحشو أو زراعة وليس لخلع وإعدام، فرد عليه الطبيب بلهجة قاسية تخلو من كل معاني الإنسانية التي يقسم عليها الأطباء حين مزاولة أعمالهم " نحن نخلع ولا نزرع"، فإما أن تخلع أو تعود إلى غرفتك، ولا تطلب الطبيب مرة أخرى، وهو يشير بيديه إلى السجان الذي تهياً بالفعل لإعادة احمد إلى الغرفة، فاسقط من يد الأسير، فآلامه لا يتحملها بشر، فاضطر إلى خلع ثلاثة من أسنانه رغماً عنه دون شفقه أو رحمه حيث لم يخضع الأسير للبنج الذي يستخدم في مثل هذه الحالات ،وألقى له بعدة حبات من الاكاموال ليستخدمها كمسكن للألم .
عاد احمد إلى غرفته وهو يترنح ولا يكاد يشعر بنفسه ، وألقى جسده على اقرب سرير قابلة، ولا يعرف مصدر الألم، ففي البداية كانت أسنانه تؤلمه، أما الآن فجسده كله يئن تحت وطأة عملية الخلع، وابتلع 3 حبات من ذلك المسكن مرة واحدة ،علها تخفف قليلاً من آلمه ولكن دون فائدة.
هذا هو حال الأسير الفلسطيني الذي يتعرض لألام في الأسنان، ليس من علاج سوى الخلع وبطريقة العصور الوسطى لكي يفكر غيره من الأسرى ألف مرة قبل طلب الطبيب، ولعل العبارة الصغيرة التي نطق بها ذلك الطبيب قاصداً موقفاً بعينه، لخصت تاريخ ذلك الكيان الغاصب الذي قام على القتل والدمار والمجازر، وبني وعمَّر دولته الزائلة على أنقاض منازلنا ومساجدنا ومدارسنا، فهو بالفعل "يخلع ولا يزرع " .
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية