استحقاق أيلول الفلسطيني الغامض حتى الآن
بلال الحسن
تثير الرئاسة الفلسطينية في رام الله ضجة كبيرة حول خطة الذهاب إلى الأمم المتحدة، وبهدف الحصول على صفة العضوية للدولة الفلسطينية. وتبرز مقابل ذلك معارضة أميركية - إسرائيلية شديدة. وحين يتابع المراقبون ما يقال حول النية الفلسطينية، وما يقال حول الاعتراض الأميركي - الإسرائيلي، يبدو وكأن هناك معركة ضارية وشرسة حول أهداف استراتيجية لهذا الطرف أو ذاك، فما حقيقة هذه المعركة التي تدور علنا وتشارك فيها دولة عظمى؟ وبكلمات أقل صخباً: ما حقيقة الموقف الفلسطيني، وما حقيقة الموقف الأميركي - الإسرائيلي؟
أنصار الذهاب إلى الأمم المتحدة من الفلسطينيين يطرحون المسألة وكأنهم ذاهبون إلى هناك لتحقيق نصر استراتيجي للقضية الفلسطينية، أو أنهم ذاهبون «لينتزعوا» من "إسرائيل" ما رفضت أن تقدمه للفلسطينيين عبر سنوات طويلة من التفاوض، فما إن تنال فلسطين صفة «دولة فلسطينية» حتى يتم تسجيل هزيمة سياسية كبرى ل"إسرائيل"، تضطر بعدها لأن تسلم بوجود دولة فلسطينية، ثم تجري مفاوضات «سهلة» لوضع هذه الدولة على الخريطة الجغرافية. فهل هذه هي صورة الأمر حقاً؟
أولاً نريد أن نقول إن الذهاب إلى الأمم المتحدة، هو من حيث المبدأ أمر مقبول ولا غبار عليه. والمسألة ليست أن نذهب أو لا نذهب. المسألة في الجوهر؛ ماذا نريد أن نقول حين نذهب؟ يمكن مثلاً أن يذهب الطرف الفلسطيني ليطلب دولة فلسطينية في حدود عام 1967، مع الاعتراف بدولة "إسرائيل" فوق كل ما تبقى من أرض فلسطين، أي دولة فلسطينية فوق نسبة من الأرض لا تتجاوز 22 في المائة، مع الاعتراف بدولة "إسرائيل" فوق نسبة من الأرض تساوي 78 في المائة. وهنا يصبح الأمر خسارة كبيرة للفلسطينيين، ذلك أن الأمم المتحدة كمرجعية قانونية هي صاحبة قرار تقسيم فلسطين الذي يعطي الفلسطينيين 45 في المائة من الأرض. والحصول على القرار بالصيغة الجديدة سيشكل هزيمة للفلسطينيين حتى على صعيد قرارات الأمم المتحدة. فهل هذا هو المطلوب؟
ثمة احتمال آخر.. أن يذهب الفلسطينيون إلى الأمم المتحدة ليقولوا: إن أرض الضفة الغربية احتلت بعدوان من دولة "إسرائيل" على دولة الأردن ذات السيادة في عام 1967. وبما أنها دولة معتدية ومحتلة فلا بد إذن من قرار يدعوها لإنهاء عدوانها والانسحاب الكامل من أرض الضفة. وفي حالة من هذا النوع، فإن الأمر لا يتطلب اعترافا، ولا يتطلب معاهدة سلام. وحتى لو احتاج الأمر إلى تعاون مع «دولة الأردن» فلا أحد يتصور أن الأردن سيحجم عن هذا التعاون، بل ربما يكون طرح المسألة بهذه الطريقة مدخلا لرفع مستوى التعاون بين الطرفين، ولنشوء علاقة من نوع جديد بينهما. والحصول على قرار بهذه الصيغة سيشكل نصراً للفلسطينيين والأردنيين، وهزيمة سياسية ل"إسرائيل"، على صعيد قرارات الأمم المتحدة؛ فهل من الممكن العمل حسب هذا التوجه؟
تبرز في الواجهة معارضة "إسرائيل" لطرح الموضوع في الأمم المتحدة من حيث المبدأ. وتتلوها معارضة أشد من الولايات المتحدة. ويبدو من خلال هذا الرفض المزدوج أن كلا من الطرفين الإسرائيلي والأميركي، يخشى هذا التحرك الفلسطيني. نعم، إنهما يخشيان هذا التحرك الفلسطيني، ولكن ليس لأنه يشكل خطرا سياسيا عليهما، بل لأنهما لا يريدان إحداث أي تغيير في قواعد اللعبة. وقواعد اللعبة القائمة تقول إن معالجة المسألة تقوم على عمودين: العمود الأول هو تفاوض ثنائي بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية. والعمود الثاني أن هناك طرفاً واحداً وحيداً هو الطرف الأميركي الذي يحق له أن يكون «الراعي النزيه» لهذه المفاوضات. والذهاب إلى الأمم المتحدة إذا نجح، سيدخل الأمم المتحدة كطرف جديد في عملية التفاوض، وهو ما ترفضه "إسرائيل" لأنها ترفض الاحتكام إلى قرارات الأمم المتحدة، وهو ما ترفضه أميركا أيضاً، لأنها ترفض دخول وسيط آخر سواها في عملية التفاوض. ولهذا السبب تهدد أميركا باستخدام الفيتو، وليس لأنها تخشى من التحرك الفلسطيني ونتائجه. وبدليل أن الرئيس الفلسطيني يقول إنه إذا نجحت خطة التحرك التي يعمل عليها، فسيعود بعدها إلى المفاوضات فوراً. وبدليل أن واشنطن تتعهد للرئيس الفلسطيني بطرح مشروع جديد للتفاوض إذا هو أراد ذلك، خاصة حين نعلم أن استخدام أميركا للفيتو ضد المسعى الفلسطيني يحول موضوع الاعتراف بالدولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، من «اعتراف رسمي» إلى «اعتراف معنوي».
وهناك جانب آخر في المسألة، إذ يبرز رفض فلسطيني لخطة الذهاب إلى الأمم المتحدة إلى جانب الرفض الأميركي والإسرائيلي. وهنا يبرز استغراب: كيف يلتقي الطرفان على هذا الموقف؟ والحقيقة أن هناك فارقاً نوعياً بين الرفض الفلسطيني والرفض الأميركي - الإسرائيلي. الرفض الفلسطيني ينطلق من القول إن السعي إلى صيغة الدولة الفلسطينية، ستكون نتيجته تعامل «دولة إسرائيل» مع «دولة فلسطين»، وهذا يهدد موضوع حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، ومن هنا منطلق الرفض. أما الرفض الأميركي - الإسرائيلي فعماده الحفاظ على قواعد التفاوض القائم من دون أي تغيير. ولذلك فإن الحديث عن تلاقي الموقفين لا أساس له من الصحة.
ثم نشير إلى نقطة أخرى مهمة، وهي أن الرئاسة الفلسطينية التي تعمل من أجل استحقاق سبتمبر (أيلول) في الأمم المتحدة، بحماس إعلامي شديد، تكاد تحصر عملها في الغرف المغلقة، أولاً مع الجهاز الإداري الفلسطيني، وثانياً مع المستشارين الدوليين الذين تعتمدهم، وثالثاً مع رؤساء بعض الدول التي يزورها الرئيس الفلسطيني، سواء كانوا عرباً أو أجانب. ويغيب عن هذه الصورة الطرف الفلسطيني؛ الطرف الفلسطيني الشعبي في المدن والقرى والمخيمات، والطرف الفلسطيني السياسي المنظم في فصائل أو أحزاب، والطرف الفلسطيني المتمثل في القوى الاجتماعية سواء كان في المخيمات أو في النقابات أو ما يماثلها. هذا الغياب الشعبي الفلسطيني عن المعركة الإعلامية يمثل نقطة ضعف أصبحت سمة من سمات عمل الرئاسة الفلسطينية التي اعتادت على العمل الدبلوماسي المكتبي، وهذا أمر يفقدها دائماً قوة ضاغطة تتسلح بها في معاركها السياسية. نستثني من ذلك موضوع «الكرسي» الذي يجري العمل عليه بدأب وإتقان ليكون كرسي فلسطين في الأمم المتحدة.
ويبقى أن نلاحظ باستهجان، أنه على الرغم من الحملة الإعلامية التي تروج لفكرة الذهاب إلى الأمم المتحدة، فإن أحداً لا يعلم حتى الآن حقيقة الموقف الذي ستطرحه السلطة الفلسطينية على الأمم المتحدة، ويثير هذا الغموض الشكوك والمخاوف من صيغة تمثل تنازلاً فلسطينياً جديداً.
وبما أن أحداً لا يعرف حقيقة موقف الرئاسة الفلسطينية إلا في جانبه الإعلامي، فإن الإعلام نفسه يتحدث عن رفض أميركي، وعن خطة أميركية لبدء مفاوضات إسرائيلية - فلسطينية جديدة، فهل سيقبل الجانب الفلسطيني هذه المحاولة الأميركية؟ من المحتمل أن يقبل ما دامت الأسرار تحيط بالموقف السياسي حتى الآن.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية