عشت قسراً في سجون السلطة الفلسطينية لما يقارب العام على خلفية الانتماء لقضايا الوطن وهمومه، واعتقلت في سجون الاحتلال لمدة تزيد عن العامين على نفس الخلفية ،وبنفس تفاصيل التهمة التي هي شرف لكل فلسطيني.
وطوال هذه الفترة زاحمتني مجموعة من الأسئلة الغريبة ،وراودتني مجموعة أخرى من الاستفسارات المركزية لم أجد لها جواباً شافياً ،فأردت أن أبثها إلى المسئولين الفلسطينيين لعلي أجد عند أحدهم إجابة شافية ،وأحببت أن أطلع عليها القارئ الكريم لأنني أعده الحكم الأول والمدقق لكل التصريحات التي تنقل من هنا وهناك، في قضية شغلت الساحة الفلسطينية طوال سنوات الانقسام العجاف حول موضوع "الاعتقال السياسي"، وما رافقه من تجاذبات وأحاديث .
أول هذه الأسئلة تدور حول مشروعية ما حدث ولا يزال يحدث للأسف الشديد بعد المصالحة في فلسطيننا الحبيبة ( الضفة الغربية) من اعتقال لخيرة أبناء الشعب الفلسطيني ، وحرمانهم من المشاركة في بناء الوطن ، فهل يتوقع القائمون على شئون الضفة الغربية أن تنمية اقتصادية واجتماعية من الممكن أن تحدث وهم عملياً يهمشون فئات مهمة وفاعلة، بل يسعون إلى تغييبهم بالاعتقال تارة وبالفصل الوظيفي تارة أخرى وبالتهميش المجتمعي الذي يأخذ أشكالاً متعددة استخدمها بعض الدكتاتوريين المندحرين في عالمنا العربي تارة ثالثة...؟! وهل يجوز حرمان هؤلاء المعتقلين السياسيين من ذويهم وأبنائهم، وهم من قضوا زهرات أعمارهم في سجون الاحتلال وأبعدوا عن عائلاتهم بما فيه الكفاية ؟ فهل هذا التكريم الذي نمنحه لهم على جهادهم ونضالهم؟! وهل هذه الحياة الكريمة التي نملأ الدنيا صراخاً بأننا نسعى لتوفيرها لهم؟!.
والغريب في هذه الاعتقالات أنها تتم على يد من كان في يوم من الأيام شريكاً لنا في وجع الاعتقال ، فسجان اليوم هو من كان يشاركنا "البرش" ولقمة العيش وهموم الوطن وآلامه بالأمس القريب ، فكم حديث دار بيننا في ظلمة السجن الإسرائيلي حول مستقبل القضية الفلسطينية ، وكم من هؤلاء السجانين من كان يشاركنا الحلم في إقامة "دولة فلسطينية" "يسودها العدل والحرية والتنمية والمساواة ، فهل حقيقةً أن ما وصلنا إليه هو دولة القانون التي كنا نحلم بها؟! .
وثمة سؤال آخر ألمحه في كل كلمة تخرج من المعتقلين السياسيين يسألون فيه عن سبب تفويض قرار التعذيب وأسلوبه وشدته إلى الرتبة العسكرية الأدنى ويحتفظ بقرار الإفراج عن المعتقلين السياسيين في "المستويات العليا"؟! ومن وحي التجربة الشخصية أقول إن شخصاً ما أطلقت عليه لقب "دعجل" كان قادراً- لا يملك مؤهلاً أو معرفةً ولا يدرك للإنسانية معنىً - على شبحنا وحرماننا من النوم وضربنا وشتمنا وإذاقتنا من صنوف العذاب الشيء الكثير ، وفي ذات الوقت لم يكن باستطاعة أي شخص من الرتب العليا ولا حتى مدير عام الجهاز- حسب حديثهم معنا - قادراً على الإفراج عنا ، وكان كل واحد من هؤلاء المسئولين يخبرنا بأنه سيرفع توصيات إلى الجهات العليا للإفراج عنا ، وكنا دوماً نسأل من هي الجهات العليا القادرة على إنفاذ قرار الإفراج ؟ وحق لشعبنا أن يعلم بيد من كانت قرارات الإفراج .
وعند الحديث عن القانون والمحاكمات تبرز أسئلة من نوع خاص تتمحور حول ماهية القوانين والمحاكم التي نعرض عليها، وهنا أسوق حواراً حدث معي شخصياً مع شرطي احتلالي كان يوجه لي تهمة الانتماء للوطن وهمومه وفي أثناء توجيه الاتهام دار هذا الحوار:
قال الشرطي :كم الفترة التي قضيتها في الاعتقال عند السلطة؟.
قلت: قريباً من العام .
قال : بعد كم يوم عرضت على محكمة.
قلت :لم أعرض على أي قاض ولم يسمح لي بلقاء أي محام طوال العام .
فقال : ألا تدرك أننا أفضل من السلطة؟!، فنحن لا نعتقل أي واحد دون عرضه على محكمة ، وأردف الشرطي يقول: نحن صحيح نعدكم "مخربين" ولكننا نعاملكم حسب القانون.
حينها وبالرغم من خلافي مع نهج السلطة وألمي الشديد مما حصل معي من تعذيب وانتهاك ألا أنني رددت عليه قائلا :"عن أي قانون تتحدث ، فأنتم تفصلون القانون على مزاجكم"، وسقت له أمثلة عن جنود محتلين قتلوا أطفالاً فلسطينيين وأن محاكمهم "الإنسانية العادلة" أصدرت أحكاماً على الجندي القائل بدفع ثلاثة شواكل ثمناً لقتل الفلسطيني.
هل يستطيع قانون على وجه الأرض تعويضنا عن اللحظات الصعبة التي مررنا بها في أقبية التحقيق ؟! وخاصة تلك اللحظات التي ودعانا فيها بعض رفاقنا شهداء، أو حينما رأينا أن بعضنا قد كسرت ذراعه، وبعضنا الآخر كتب عليه أن لا يستطيع المشي على قدميه طوال حياته ، أو حينما رأينا الموت حاضرا بين أعيننا مرات عديدة ، أم حينما تمنينا الموت ولم نجده ؟وهل يستطيع الموقعون إرجاع اللحظات التي وضعنا فيها في العزل الانفرادي "المدان وطنياً حينما ترتكبه سلطات الاحتلال الإسرائيلي "لمدة تزيد عن ستة أشهر ؟!.
وسؤال مهم يلح علينا بذكره رغم المصالحة: هل كان سيادة الرئيس الفلسطيني يعلم بكل ما يجري من انتهاكات في أقبية التحقيق، أم أن الأمر خارج عن سيطرته وأن كل الذي كان يجري من خلف ظهره؟! وهل بإمكان المصالحة التي بدأت توضع على السكة الصحيحة إعطاء الضمانات الحقيقة لعدم عودة تلك الأيام ومآسيها، والأحداث في الضفة الغربية تنبأ بعكس ذلك؟! .
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية