الثورة المصرية وفوبيا الأحزاب!
لمى خاطر
منذ انطلاق الثورة المصرية الميمونة التي كانت بالفعل تتحدث عن نفسها، انشغلت معظم وسائل الإعلام ومعها كتاب ومثقفون وسياسيون، وعلى نحو مبالغ فيه في التقليل من دور أحزاب المعارضة المصرية الأساسية والتشنيع عليها أو نعتها بالانتهازية تارة، واتهامها بمحاولات سرقة إنجازات الثورة تارة أخرى.
ولا أقصد هنا ذلك الانتقاد البناء كالموقف من الحوار مع النظام أو المبادرات السياسية المبكرة، بل تلك الأحكام السلبية المسبقة والمطلقة بحق أحزاب المعارضة المصرية، والقدح في نواياها بشكل تعميمي مجحف دون أي استثناءات، رغم أن الأحزاب بشكل عام يفترض أنها تقليد سياسي راقٍ يعبر عن انتظام المجتمع وتطور تفكيره وتأطير أهدافه، لكننا شهدنا على هامش الثورة المصرية حساسية مفرطة تجاه الأحزاب ومحاولات مقصودة لتهميش دورها وخصوصاً جماعة الإخوان المسلمين، التنظيم الأكبر والأكثر تعرضاً لقمع النظام المصري على مر تاريخه.
(إخوان فوبيا) هي امتداد (لإسلام فوبيا)، وهو الهاجس الشرك الذي يقع فيه كل خصوم الإسلاميين، فيتم استغلال أية فرصة لتصفية حسابات خاصة أو أيديولوجية مع جماعة الإخوان، واستغلال المنابر الإعلامية -المفتوحة على مصراعيها هذه الأيام- لتحريض الشعب عليهم والتخويف منهم وإثارة الشبهات من حولهم، وذلك على الرغم من أن الإخوان المصريين لم يقولوا أبدا إنهم صانعو الثورة أو الأوصياء عليها، وأكدوا مراراً وتكراراً على أنهم شاركوا فيها منذ البداية كجزء من الشعب بشبابهم ونسائهم وقادتهم، عدا عن أنهم وحتى عند مشاركتهم في الحوار الأخير مع عمر سليمان ( رغم موقفنا المعارض لفخ الحوار) لم يدّعوا أنهم يتكلمون نيابة عن الجماهير أو أنهم بصدد فرض رؤيتهم عليها أو إلزامهم بأي شيء، بل ظلوا مصرّين على أن مطالب الجماهير هي الأساس وأن إرادة الشباب الثائر هي الفيصل.
ومن جهة أخرى فقد بات واضحاً أن عهد الانقلابات التي تطيح بدكتاتور لتأتي بآخر قد ولّى، وأن نجاح الثورة المصرية سيتمخض عن قيام نظام ديمقراطي يتيح للشعب أن يختار ممثليه من كل الأطياف وبكل نزاهة، وأنه ليس ثمة مبررات منطقية لهذا الهلع الموهوم من الإخوان أو غيرهم، وللتخوفات المزعومة من محاولات اختطاف الثورة وسرقة إنجازات الجماهير، أو العزف المستمر على وتر ركوب الموجة، والتباكي على جهود الشباب البريء كما تصفه بعض وسائل الإعلام التي يهمّها نفي أية صبغة سياسية عن الثورة.
انتهازية بعض الأحزاب أمر وارد دون شك في أية ثورة أو نظام سياسي، لكن سحب الحكم ذاته على مختلف التلاوين السياسية والحركية المشاركة في مسيرة التغيير أمر يخلو من الإنصاف والنظرة الموضوعية السليمة، وفي المشهد المصري هناك أحزاب وتجمعات لها دور حقيقي ووازن، وفوق كل هذا كان لها عداء تاريخي مع النظام الذي استهدفها بشتى وسائل الإضعاف تخوفاً من تبعات دورها على الساحة، فدور إسلاميي مصر الذين ظلوا على الدوام عنوان المواجهة الأبرز مع النظام لا يجوز إنكاره وشطبه، وكذلك حزب العمل المصري، وحركة كفاية التي يشهد لها أنها أول من حمل شعار لا للتوريث وشخّصت مكمن الداء، ووجهت خطابها الرافض مباشرة لرأس النظام وليس لحكومته أو أجهزته الأمنية كما دأبت بعض الأصوات الخجولة المعارضة في غير بلد عربي أن تفعل.
وفي مصر شخصيات وطنية مخلصة حزبية أو مستقلة، وهذه لن يخشى أبداً منها على الثورة، فهناك عبد الحليم قنديل وفهمي هويدي ومحمد سليم العوا ومجدي حسين، وعصام العريان، وغيرهم الكثير من الكبار، وفي نهاية مطاف أية ثورة لا بد من تبلور قيادة منبثقة عنها تحظى بثقة الجمهور لتنتقل به الخطوة التالية. ولكن من العبث أن يُسرف وقت أكثر من اللازم في التلاسنات الداخلية، وفي التشنيع على حركات المعارضة التاريخية والتشكيك في نواياها، وفي التماشي مع محاولات النظام شقّ الصف الوطني وتشتيت أولويات الثائرين وبث الفرقة بين قياداتهم وأحزابهم.
الأحزاب بدورها ينبغي أن تلتفت لحقيقة مهمة للغاية على الأرض وهي أن الجمهور صوته عال وعزيمته متينة ومطالبه واضحة، وهذا وفّر عليها جهوداً كبيرة كانت تحتاجها لإيصال الشعب لهذه القناعة، إذ يندر في العادة أن يتوحد الشعب بمختلف أطيافه على قضية واحدة وبمثل هذا النفس القوي الذي ظهر في الثورة المصرية، ولذلك كان الحوار مع النظام هو خطوة متعثرة وغير موفقة، فما دام الصوت على الأرض يؤكد على مطلب محدد وواضح وهو رحيل النظام، كان الأصل استثمار هذا الغضب باتجاه تطوير الثورة والانتقال بها خطوات متقدمة وتسريعها وتصعيد وتنويع آليات احتجاجها، لأن انتقال الأحزاب إلى صفوف الريادة يتطلب منها مواقف تحظى بتقدير واحترام الجمهور الغاضب إن على مستوى الخطاب الإعلامي أو المشاركة الميدانية أو اجتراح وسائل وآليات تصعيد إبداعية، وهي فرصة لتعزيز الثقة ما بين الجمهور والأحزاب ولاختبار قدرات الأخيرة ومواقفها على حد سواء، أما الحكم فسيكون تاليا للثورة وليس مستبقاً لها.
إن بركان الغضب الذي ما زال مشتعلاً في نفوس الثائرين يجب أن يظل منصبا على النظام، ومن الخطأ تشتيته باتجاهات أخرى، كما ينبغي أن يكون سوء الظن بنوايا النظام مقدما على كل ما يبديه من مرونة شكلية ومراوغة تهدف إلى تمييع الثورة والفت من عضد تصاعدها.
الأولوية في مصر اليوم هي لتصعيد الثورة واستثمار حالة الإجماع الشعبي على إسقاط النظام، أما الانشغال بتفاصيل الخلافات الشكلية فهو أكبر معيق أمام هذا التقدم، وما دام الجميع متفقاً على الهدف فلا بد من تمتين الثقة الداخلية بين المنتفضين أحزابا وجمهورا، والحذر من الإصغاء للنصائح الجاهلة أو الخبيثة، إلى جانب الاهتمام بكيفية نقل الثورة خطوة تالية للتعجيل بتحقيق أهدافها وإسقاط النظام، وبعدها سيكون هناك متسع لبحث ونقاش كل شيء، وللنظر في التباينات المختلفة، ولحوار وطني موسع يخلص لرؤية موحدة شاملة ترضي الجميع، وتؤسس للنظام السياسي القادم
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية