الدور السياسي لعلماء الدين
سري سمّور
ليس في الإسلام «رجال دين» بل علماء دين، علما بأن مصطلح «رجال الدين» ظهر بعد الثورة الفرنسية، وكان في أوروبا ثمة نقمة على هؤلاء بسبب مساوئ حكمهم شبه الفعلي وتزاوج مؤسسة الكنيسة مع طبقة الإقطاع والنبلاء، في حين أن عالم الدين المسلم لا يحصل على مكانته بالطريقة التراتبية القائمة في الديانة المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الهندوسية، وإذا كان هناك مؤسسة أو مؤسسات لعلماء الدين فهي ليست مؤسسات كهنوتية، كما أن عالم الدين المسلم ليس مطلوبا منه أن يعترف أمامه المذنب بذنبه بل هذا ليس للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- بل إن ما حصل مع ماعز والغامدية في واقعة الرجم المعروفة أنهما توجها للنبي باعتباره الحاكم المنفذ لشرع الله وليس باعتباره وسيطا لتوبتهما أمام الله، لأن علاقة العبد بربه في الإسلام مباشرة ولا تحتاج وسيطا، ويجب عدم التهاون في تداول المصطلحات خاصة الوافدة من الغرب، ولو بذريعة وقف الجدل.
والبعض يحاجج بأن كلمة «عالم» تطلق على من ابتكر شيئا جديدا في أحد العلوم التطبيقية أو الإنسانية، فما الذي ابتكره علماء الدين؟ وهذا الطرح ينم عن جهالة؛ فعلماء الرياضيات أو الفيزياء المعاصرين ليسوا مثل رول أو آينشتاين من حيث فكرة الابتكار وتأسيس النظريات، ولكن لديهم أبحاثا أو فهما للنظريات والقوانين في مجال اختصاصهم، فهم بذلك علماء، كما أن علماء الدين الذين درسوا العلوم الدينية المختلفة علماء في هذا المجال؛ فمثلا المتخصص في علم الحديث الشريف لديه علم في تخريج الأحاديث وتفصيلات المتون والأسانيد والجرح والتعديل، بل إن الجرح والتعديل بحد ذاته علم له أصوله وقوانينه.
وطريقة تحصيل العلم الشرعي قد تكون بالتلقي عن شيوخ أو علماء متمكنين مجازين، أو من خلال الدراسة في كليات وجامعات ومعاهد، وقد يقوم البعض بالدراسة الذاتية من الكتب الموجودة، ولكنه يبقى بحاجة إلى إجازة يحصل عليها من علماء آخرين في حال رغب في الإفتاء أو ما شابه.
وقد كانت علاقة العديد من علماء الدين في بلاد الإسلام مع الحكام عبر العصور يشوبها التوتر، إما بسبب الرأي من مسائل دينية مثلما حصل مع الإمام أحمد بن حنبل فيما عرف بفتـنة القول بخلق القرآن، حيث أن السلطة السياسية التي كان يمثلها العباسيون قد لجأت إلى استخدام سطوتها وجلد ظهر الإمام الجليل لأنه رفض النزول عند رأيها الذي تبنى فكر المعتزلة، وهي بالمناسبة مدرسة فقهية لها علماؤها ومتكلموها، وكما حصل مع ابن تيمية في مسائل عدة ومنها ما تعمل به المحاكم الشرعية جميعا من كون الطلاق في جلسة واحدة لا تحسب منه إلا طلقة واحدة لا ثلاثة وإن تلفظ الزوج بها، وقد مات ابن تيمية في السجن، على خلفية رأيه المعمول به حاليا!
والسبب الآخر لاصطدام العلماء بالسلطة السياسية القائمة في عصورهم سياسي؛ حيث أنه في مراحل معينة قد يخالف رأي أو موقف الحاكم موقف العالم المستند إلى نصوص شرعية أو إلى اجتهاد مغاير، وقد رأينا أن بعض العلماء كان صمودهم وإصرارهم سببا في إنقاذ الأمة من أخطار داهمة مثلما حصل من العز بن عبد السلام إبان حكم المماليك، وكان موقفه كما يجمع غالبية المؤرخين سببا في انتصار مصر على الغزو المغولي في معركة عين جالوت.
ولا يمكن القول بعدم تدخل علماء الدين في الشأن السياسي؛ لأن النصوص تمتلئ بما يرتب وينظم الحالة السياسية للأمة، من آيات كريمة أو أحاديث شريفة، فهل الذين يطرحون هذه المقولة جهلة بهذه النصوص، أم أنهم يرغبون بحذفها وتجاهلها؟!
كما أن هؤلاء الذين يتشدقون بمثل هذه المقولة لا مانع لديهم من أن يكون عوفاديا يوسف مثلا زعيما دينيا وسياسيا في الكيان العبري، وأن يفتي فتاوى سياسية لخدمة حزبه وطائـفته الدينية، باعتبار أن إسرائيل دولة علمانية خالصة بزعمهم، فيركزون هجمتهم على العلماء المسلمين...اللهم إلا إذا وافقوا أهواءهم وآراءهم السياسية!
وسلطة علماء الدين كانت وما زالت وستظل أدبية أخلاقية، وليست تنفيذية إلا في بعض المجالات مثل مؤسسات الوقف وإدارة المساجد مثلا، ولكن ليس هناك ما يمنع عالم الدين من لعب دور سياسي، فلا مانع من ترشحه لانتخابات ذات صبغة سياسية، أو تعيينه في منصب سياسي، فكما يحق لمن درس الرياضيات أو الاقتصاد أو العلوم العسكرية، بل من لم يدرس شيئا أن يتبوأ هذه المناصب فلا مانع من أن يتولاها عالم دين، والقول المكرور بأن عالم الدين سيعتبر نفسه مقدسا وما يصدر عنه كأنه وحي السماء في مسائل دنيوية هو قول سخيف؛ فإذا كان رأي العالم أو حتى الصحابي والتابعي في علوم الدين يؤخذ ويرد فكيف في شؤون الدنيا؟ولم نعلم أن علماء الدين، بسوادهم الأعظم، قد طلبوا أو تصرفوا على أن ما يطرحونه حق ما سواه باطل من منطلق القداسة والمكانة.
ولمعرفة الحكام عبر العصور بمدى تأثير العلماء والمشايخ على الناس وأهمية دورهم فقد قربوا بعضهم من بلاطهم، ونشأ مصطلح «وعاظ أو علماء السلاطين» ومن الناحية الشرعية والمبدأية لا مانع ولا ضير في أن يتقرب الحكام من علماء الدين والمشايخ، بل إن هذا أمر مندوب محمود، ولكن المشكلة تكمن في استخدام هذه الفئة في الترويج لأمور محرمة يفتي هؤلاء بأنها حلال، أو بمبالغتهم في مديح الحكام بما ليس فيهم، وتضليل الناس عبر المنابر والكتب والفتاوى فيتحولون إلى ما يشبه شعراء البلاط...وقد أخذ الإمام مالك بن أنس مالا من هارون الرشيد، ولكنه رفض أن يغادر المدينة المنورة لتعليم أولاد الرشيد، وقد كان لحسن علاقة الإمام بالخلافة العباسية أثر طيب في أمور شتى منها إقناع الإمام للخليفة بعدم إعادة بناء الكعبة كي لا يسن سنة تجعل البيت لعبة بيد الحكام، فتسقط هيبته من قلوب الناس، ولكن مالكا وأمثاله لم يجاروا الحكام في مخالفة الشرع أو إصدار فتاوى مفصلة على مقاس أهواء ورغبات الحكام، مثلما فعل بعض العلماء؛ فالعلماء ليسوا سواسية مثلهم مثل الفئات الأخرى في هذا الأمر.
ولكن المشكلة الأكبر التي واجهت علماء الدين هي اعتمادهم على المال الذي بيد الحاكم في معيشتهم، مما سهل له التحكم بالمؤسسة، وتجنب غضبهم أو دعوتهم للتصدي له؛ فمحمد علي باشا والي مصر في القرن التاسع عشر تمكن من تحويل مؤسسة الأزهر الشريف القائمة ذاتيا من تبرعات ومساهمات الشعب منذ قرون إلى مؤسسة تتبع الدولة عبر إغداقه المال عليها وإغواء المشايخ –بدهائه المعروف- بأن مال الدولة أكثر وربما أفضل من مال التبرعات، فصار تعيين رئيس مشيخة الأزهر أمرا منوطا بالسلطة السياسية وقد سار من بعده على نهجه حتى الآن.
وقد حاول شاه إيران لعب نفس الدور مع علماء الشيعة وإتباع الحوزات العلمية إلى مؤسسة حكمه سنة 1906م بإلغاء اعتماد الحوزات على أموال الخمس وغيرها مما تحصل عليه الحوزة من العامة فتنبه علماء الحوزة إلى الأمر ورفضوا الفكرة بقوة أجبرت الشاه على التراجع عن قراره، وهو أمر جعل الحوزة مستقلة بل خرج منها بعد عشرات السنين من يقود ثورة تطيح بالنظام الشاهنشاهي وهو الخميني.
والعلماء في التعاطي مع الشأن السياسي ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ الأول وهم الغالبية يلتزمون الحياد وعدم الخوض في القضايا السياسية الراهنة وينكبون عن الوعظ والترغيب والترهيب، وسرد سير السلف الصالح بلا ربط يذكر مع الواقع، وذلك خوفا من بطش النظم الحاكمة أو سلطة الاحتلال الأجنبي، ويعللون ويبررون بأن إصلاح القلب والنفس مقدم على القضايا الأخرى، أو درء الفتنة، أو أن الأمة تعاقب من ربها بسبب معاصيها!
وقسم ثان يمالئ النظم الحاكمة أو حتى الاحتلال الأجنبي، ويـصبح صوتا لها ويفتي بما تريد، أو بما يعلم أو يحس أنها تريد، مع مدح مبالغ فيه، فقد سمعت أحدهم يقول لزعيم عربي مات قبل سنين:والله إنك لأعدل من عمر!...وهو أو زميله ذكر أبا بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة والخلفاء ثم توجه بكلامه لذاك الزعيم قائلا:كانوا مثلك! ويحظى هؤلاء عادة بامتيازات ومنافع شخصية ومعنوية، ولكن ذكرهم يمحى بزوال الحالة السياسية التي يحيونها حتى لو كانوا حائزين على درجات علمية متقدمة.
وقسم ثالث قليل يواجه النظم الاستبدادية سواء بالنصح أو بتجييش الناس ضد سياسات الحكام، أو بالوقوف في وجه الاحتلال الأجنبي بالجهاد بالسنان أو اللسان؛ ولنا في التاريخ القريب والبعيد أمثلة على ذلك، مثل وقفات ابن تيمية والعز بن عبد السلام ضد التتار، وفي عصر الاستعمار الغربي الحديث كان بعض العلماء والمشايخ مثل عبد الكريم الخطابي في المغرب وعمر المختار السنوسي في ليبيا وعبد الحميد بن باديس في الجزائر وعز الدين القسام في سورية وفلسطين مواقف رجولية مشرفة ضد المحتل الإسباني أو الإيطالي أو الفرنسي أو الإنجليزي، وقد استشهد عز الدين القسام في معركة مع جيش الانتداب الإنجليزي في أحراش يعبد بفلسطين وهو الشيخ القادم من جبلة السورية الأزهري التعليم، وكان الشيرازي وهو عالم دين شيعي قد أفتى بالثورة ضد الإنجليز مما ساهم في اشتعال ثورة العشرين بقوة في العراق(بعكس موقف السيستاني من احتلال الأمريكان)، مما يعني أن عالم الدين بغض النظر عن مذهبه ومدرسته يمكن أن يقوم بهذا الدور المهم.
ولا شك أن انخراط علماء الدين في حرب الاحتلال فيزيائيا أو نظريا له أثر كبير جدا في حشد الجماهير ورفع معنوياتها وتحقيق إنجازات على الأرض، حيث أن عالم الدين حينما يخاطب الناس فإنه يربط دنياهم بآخرتهم وبيده نصوص تجعل للمجاهد والشهيد مكانة سامية، وهذا ما استفز المستعمر المحتل وجعله يسعى دوما لتفريغ مؤسسات العلوم الشرعية والمنابر من محتواها التعبوي.
وكان بمكنة العلماء الذين سلكوا هذا الدرب المليء بالصعاب والذي قد يؤدي بهم إلى السجن أو القتل أو العقاب بطرق مختلفة أن يسهبوا في شرح أحكام الوضوء، وأن يغرقوا في تـفصيلات مسائل الحيض والنفاس أو مقدار صدقة الفطر، فيسلمون وهم يقنعون أنفسهم ويقنعون بعضا من العامة أن هذا فقط دورهم، ولكنهم اختاروا أصعب الدروب.
ولهذا خلّدهم التاريخ، وكانوا وما زالوا وسيبقون منارة يهتدي بها من سيسير على نهجهم، مع العلم أنه في زمانهم ليس شرطا أن يكونوا أكثر علما وحفظا للمتون والشروح وتحصيلا للدرجات العلمية من غيرهم، فما خلدهم أن علمهم لم يبق في الإطار النظري المجرد، أو لم يقتصر على مسائل العبادات وشروح العقيدة وغيرها، بل إن كل من لا ينتسبون للمذهب الحنبلي يجلون موقفه وصموده وصبره في مسألة خلق القرآن، مع أن مسنده فيه كثير من الأحاديث الضعيفة مثلما يقول المحققون، فمكانة الرجل عظمت أكثر بسبب موقفه أكثر من رأيه الفقهي في قضايا أخرى أو علمه ونتاجه المكتوب.
بيد أن الأمة جميعا بمن فيها حتى من يتبنون أفكارا غير إسلامية تحترم وتجل العالم والشيخ الذي يقارع المحتل، ولكنها حياله أو حيال أي عالم دين يتصدى للنظم الاستبدادية تكون منقسمة بتأييده سرّا أو جهرا، أو معارضته حد التشكيك بنيته والطعن في شخصه وعائلته، وهي مسألة نلحظها بوضوح.
ولهذه المفارقة أسبابها المختلفة؛ منها أن المحتل يظل أجنبيا غريبا لا يدين بدين الأمة ولا ينطق بلسانها بعكس الحاكم المستبد، ومنها أن الحاكم يتحكم بمجموعة علماء ويظهر أنه مع الإسلام الصحيح، بل يذهب حد الزعم أن من يعارضه يخالف الشرع!
وبعد الثورات العربية انتقل الخلاف إلى أوساط مجموعة العلماء أنفسهم؛ فمنهم من شجع ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالفتوى ومن على المنبر وبالمقال والكتاب، وهؤلاء أنفسهم اختلفوا حول حاكم معين أو نظام سياسي قامت ضده ثورة، ووصل الأمر أن يشهروا ببعضهم على الملأ، وطبيعي أن ينتقل الأمر إلى الجمهور في الشارع العربي والمسلم فينقسم الناس بين مريد لهذا العالم أو ذاك في رأيه مما يجري، أو ناقم عليه ناعتا إياه بأوصاف قبيحة.
ولا بد من خطوط عريضة يجتمع عليها العلماء للخروج برأي موحد، ونبذ أي عالم أو مؤسسة تـبـيح الاستبداد أو تشجع القتل من أي حاكم كان، بأي ذريعة كانت، وهذا يبدو بعيدا لأن الأمة منقسمة مذهبيا وسياسيا، وعلماؤها عموما انخرطوا في هذا الانقسام البغيض بطريقة أو بأخرى.
ومع ذلك يبقى دور العلماء السياسي أصيلا ومطلوبا في هذه المرحلة، ولا بد للعلماء أن يضطلعوا بدورهم فإن رأى بعضهم أن التخلص من المستبد أمر مقدم على غيره، ورأى آخرون أن هذا مجلبة لفتنة أشد تراق فيها دماء كثيرة وجب حقنها، فليجتمعوا على كلمة سواء وميثاق شرف بينهم، كي لا تظل الأمة منقسمة في رأي علمائها مثلما هي منقسمة بين أحزابها وسياسييها ومـثـقفيها، وهذا الميثاق بات حاجة ملحة في هذه المرحلة بالذات...فهل سنراه يوقع قريبا، ويلتزم به من يوقعونه؟!
سري سمّور
ليس في الإسلام «رجال دين» بل علماء دين، علما بأن مصطلح «رجال الدين» ظهر بعد الثورة الفرنسية، وكان في أوروبا ثمة نقمة على هؤلاء بسبب مساوئ حكمهم شبه الفعلي وتزاوج مؤسسة الكنيسة مع طبقة الإقطاع والنبلاء، في حين أن عالم الدين المسلم لا يحصل على مكانته بالطريقة التراتبية القائمة في الديانة المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الهندوسية، وإذا كان هناك مؤسسة أو مؤسسات لعلماء الدين فهي ليست مؤسسات كهنوتية، كما أن عالم الدين المسلم ليس مطلوبا منه أن يعترف أمامه المذنب بذنبه بل هذا ليس للنبي-صلى الله عليه وآله وسلم- بل إن ما حصل مع ماعز والغامدية في واقعة الرجم المعروفة أنهما توجها للنبي باعتباره الحاكم المنفذ لشرع الله وليس باعتباره وسيطا لتوبتهما أمام الله، لأن علاقة العبد بربه في الإسلام مباشرة ولا تحتاج وسيطا، ويجب عدم التهاون في تداول المصطلحات خاصة الوافدة من الغرب، ولو بذريعة وقف الجدل.
والبعض يحاجج بأن كلمة «عالم» تطلق على من ابتكر شيئا جديدا في أحد العلوم التطبيقية أو الإنسانية، فما الذي ابتكره علماء الدين؟ وهذا الطرح ينم عن جهالة؛ فعلماء الرياضيات أو الفيزياء المعاصرين ليسوا مثل رول أو آينشتاين من حيث فكرة الابتكار وتأسيس النظريات، ولكن لديهم أبحاثا أو فهما للنظريات والقوانين في مجال اختصاصهم، فهم بذلك علماء، كما أن علماء الدين الذين درسوا العلوم الدينية المختلفة علماء في هذا المجال؛ فمثلا المتخصص في علم الحديث الشريف لديه علم في تخريج الأحاديث وتفصيلات المتون والأسانيد والجرح والتعديل، بل إن الجرح والتعديل بحد ذاته علم له أصوله وقوانينه.
وطريقة تحصيل العلم الشرعي قد تكون بالتلقي عن شيوخ أو علماء متمكنين مجازين، أو من خلال الدراسة في كليات وجامعات ومعاهد، وقد يقوم البعض بالدراسة الذاتية من الكتب الموجودة، ولكنه يبقى بحاجة إلى إجازة يحصل عليها من علماء آخرين في حال رغب في الإفتاء أو ما شابه.
وقد كانت علاقة العديد من علماء الدين في بلاد الإسلام مع الحكام عبر العصور يشوبها التوتر، إما بسبب الرأي من مسائل دينية مثلما حصل مع الإمام أحمد بن حنبل فيما عرف بفتـنة القول بخلق القرآن، حيث أن السلطة السياسية التي كان يمثلها العباسيون قد لجأت إلى استخدام سطوتها وجلد ظهر الإمام الجليل لأنه رفض النزول عند رأيها الذي تبنى فكر المعتزلة، وهي بالمناسبة مدرسة فقهية لها علماؤها ومتكلموها، وكما حصل مع ابن تيمية في مسائل عدة ومنها ما تعمل به المحاكم الشرعية جميعا من كون الطلاق في جلسة واحدة لا تحسب منه إلا طلقة واحدة لا ثلاثة وإن تلفظ الزوج بها، وقد مات ابن تيمية في السجن، على خلفية رأيه المعمول به حاليا!
والسبب الآخر لاصطدام العلماء بالسلطة السياسية القائمة في عصورهم سياسي؛ حيث أنه في مراحل معينة قد يخالف رأي أو موقف الحاكم موقف العالم المستند إلى نصوص شرعية أو إلى اجتهاد مغاير، وقد رأينا أن بعض العلماء كان صمودهم وإصرارهم سببا في إنقاذ الأمة من أخطار داهمة مثلما حصل من العز بن عبد السلام إبان حكم المماليك، وكان موقفه كما يجمع غالبية المؤرخين سببا في انتصار مصر على الغزو المغولي في معركة عين جالوت.
ولا يمكن القول بعدم تدخل علماء الدين في الشأن السياسي؛ لأن النصوص تمتلئ بما يرتب وينظم الحالة السياسية للأمة، من آيات كريمة أو أحاديث شريفة، فهل الذين يطرحون هذه المقولة جهلة بهذه النصوص، أم أنهم يرغبون بحذفها وتجاهلها؟!
كما أن هؤلاء الذين يتشدقون بمثل هذه المقولة لا مانع لديهم من أن يكون عوفاديا يوسف مثلا زعيما دينيا وسياسيا في الكيان العبري، وأن يفتي فتاوى سياسية لخدمة حزبه وطائـفته الدينية، باعتبار أن إسرائيل دولة علمانية خالصة بزعمهم، فيركزون هجمتهم على العلماء المسلمين...اللهم إلا إذا وافقوا أهواءهم وآراءهم السياسية!
وسلطة علماء الدين كانت وما زالت وستظل أدبية أخلاقية، وليست تنفيذية إلا في بعض المجالات مثل مؤسسات الوقف وإدارة المساجد مثلا، ولكن ليس هناك ما يمنع عالم الدين من لعب دور سياسي، فلا مانع من ترشحه لانتخابات ذات صبغة سياسية، أو تعيينه في منصب سياسي، فكما يحق لمن درس الرياضيات أو الاقتصاد أو العلوم العسكرية، بل من لم يدرس شيئا أن يتبوأ هذه المناصب فلا مانع من أن يتولاها عالم دين، والقول المكرور بأن عالم الدين سيعتبر نفسه مقدسا وما يصدر عنه كأنه وحي السماء في مسائل دنيوية هو قول سخيف؛ فإذا كان رأي العالم أو حتى الصحابي والتابعي في علوم الدين يؤخذ ويرد فكيف في شؤون الدنيا؟ولم نعلم أن علماء الدين، بسوادهم الأعظم، قد طلبوا أو تصرفوا على أن ما يطرحونه حق ما سواه باطل من منطلق القداسة والمكانة.
ولمعرفة الحكام عبر العصور بمدى تأثير العلماء والمشايخ على الناس وأهمية دورهم فقد قربوا بعضهم من بلاطهم، ونشأ مصطلح «وعاظ أو علماء السلاطين» ومن الناحية الشرعية والمبدأية لا مانع ولا ضير في أن يتقرب الحكام من علماء الدين والمشايخ، بل إن هذا أمر مندوب محمود، ولكن المشكلة تكمن في استخدام هذه الفئة في الترويج لأمور محرمة يفتي هؤلاء بأنها حلال، أو بمبالغتهم في مديح الحكام بما ليس فيهم، وتضليل الناس عبر المنابر والكتب والفتاوى فيتحولون إلى ما يشبه شعراء البلاط...وقد أخذ الإمام مالك بن أنس مالا من هارون الرشيد، ولكنه رفض أن يغادر المدينة المنورة لتعليم أولاد الرشيد، وقد كان لحسن علاقة الإمام بالخلافة العباسية أثر طيب في أمور شتى منها إقناع الإمام للخليفة بعدم إعادة بناء الكعبة كي لا يسن سنة تجعل البيت لعبة بيد الحكام، فتسقط هيبته من قلوب الناس، ولكن مالكا وأمثاله لم يجاروا الحكام في مخالفة الشرع أو إصدار فتاوى مفصلة على مقاس أهواء ورغبات الحكام، مثلما فعل بعض العلماء؛ فالعلماء ليسوا سواسية مثلهم مثل الفئات الأخرى في هذا الأمر.
ولكن المشكلة الأكبر التي واجهت علماء الدين هي اعتمادهم على المال الذي بيد الحاكم في معيشتهم، مما سهل له التحكم بالمؤسسة، وتجنب غضبهم أو دعوتهم للتصدي له؛ فمحمد علي باشا والي مصر في القرن التاسع عشر تمكن من تحويل مؤسسة الأزهر الشريف القائمة ذاتيا من تبرعات ومساهمات الشعب منذ قرون إلى مؤسسة تتبع الدولة عبر إغداقه المال عليها وإغواء المشايخ –بدهائه المعروف- بأن مال الدولة أكثر وربما أفضل من مال التبرعات، فصار تعيين رئيس مشيخة الأزهر أمرا منوطا بالسلطة السياسية وقد سار من بعده على نهجه حتى الآن.
وقد حاول شاه إيران لعب نفس الدور مع علماء الشيعة وإتباع الحوزات العلمية إلى مؤسسة حكمه سنة 1906م بإلغاء اعتماد الحوزات على أموال الخمس وغيرها مما تحصل عليه الحوزة من العامة فتنبه علماء الحوزة إلى الأمر ورفضوا الفكرة بقوة أجبرت الشاه على التراجع عن قراره، وهو أمر جعل الحوزة مستقلة بل خرج منها بعد عشرات السنين من يقود ثورة تطيح بالنظام الشاهنشاهي وهو الخميني.
والعلماء في التعاطي مع الشأن السياسي ينقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ الأول وهم الغالبية يلتزمون الحياد وعدم الخوض في القضايا السياسية الراهنة وينكبون عن الوعظ والترغيب والترهيب، وسرد سير السلف الصالح بلا ربط يذكر مع الواقع، وذلك خوفا من بطش النظم الحاكمة أو سلطة الاحتلال الأجنبي، ويعللون ويبررون بأن إصلاح القلب والنفس مقدم على القضايا الأخرى، أو درء الفتنة، أو أن الأمة تعاقب من ربها بسبب معاصيها!
وقسم ثان يمالئ النظم الحاكمة أو حتى الاحتلال الأجنبي، ويـصبح صوتا لها ويفتي بما تريد، أو بما يعلم أو يحس أنها تريد، مع مدح مبالغ فيه، فقد سمعت أحدهم يقول لزعيم عربي مات قبل سنين:والله إنك لأعدل من عمر!...وهو أو زميله ذكر أبا بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة والخلفاء ثم توجه بكلامه لذاك الزعيم قائلا:كانوا مثلك! ويحظى هؤلاء عادة بامتيازات ومنافع شخصية ومعنوية، ولكن ذكرهم يمحى بزوال الحالة السياسية التي يحيونها حتى لو كانوا حائزين على درجات علمية متقدمة.
وقسم ثالث قليل يواجه النظم الاستبدادية سواء بالنصح أو بتجييش الناس ضد سياسات الحكام، أو بالوقوف في وجه الاحتلال الأجنبي بالجهاد بالسنان أو اللسان؛ ولنا في التاريخ القريب والبعيد أمثلة على ذلك، مثل وقفات ابن تيمية والعز بن عبد السلام ضد التتار، وفي عصر الاستعمار الغربي الحديث كان بعض العلماء والمشايخ مثل عبد الكريم الخطابي في المغرب وعمر المختار السنوسي في ليبيا وعبد الحميد بن باديس في الجزائر وعز الدين القسام في سورية وفلسطين مواقف رجولية مشرفة ضد المحتل الإسباني أو الإيطالي أو الفرنسي أو الإنجليزي، وقد استشهد عز الدين القسام في معركة مع جيش الانتداب الإنجليزي في أحراش يعبد بفلسطين وهو الشيخ القادم من جبلة السورية الأزهري التعليم، وكان الشيرازي وهو عالم دين شيعي قد أفتى بالثورة ضد الإنجليز مما ساهم في اشتعال ثورة العشرين بقوة في العراق(بعكس موقف السيستاني من احتلال الأمريكان)، مما يعني أن عالم الدين بغض النظر عن مذهبه ومدرسته يمكن أن يقوم بهذا الدور المهم.
ولا شك أن انخراط علماء الدين في حرب الاحتلال فيزيائيا أو نظريا له أثر كبير جدا في حشد الجماهير ورفع معنوياتها وتحقيق إنجازات على الأرض، حيث أن عالم الدين حينما يخاطب الناس فإنه يربط دنياهم بآخرتهم وبيده نصوص تجعل للمجاهد والشهيد مكانة سامية، وهذا ما استفز المستعمر المحتل وجعله يسعى دوما لتفريغ مؤسسات العلوم الشرعية والمنابر من محتواها التعبوي.
وكان بمكنة العلماء الذين سلكوا هذا الدرب المليء بالصعاب والذي قد يؤدي بهم إلى السجن أو القتل أو العقاب بطرق مختلفة أن يسهبوا في شرح أحكام الوضوء، وأن يغرقوا في تـفصيلات مسائل الحيض والنفاس أو مقدار صدقة الفطر، فيسلمون وهم يقنعون أنفسهم ويقنعون بعضا من العامة أن هذا فقط دورهم، ولكنهم اختاروا أصعب الدروب.
ولهذا خلّدهم التاريخ، وكانوا وما زالوا وسيبقون منارة يهتدي بها من سيسير على نهجهم، مع العلم أنه في زمانهم ليس شرطا أن يكونوا أكثر علما وحفظا للمتون والشروح وتحصيلا للدرجات العلمية من غيرهم، فما خلدهم أن علمهم لم يبق في الإطار النظري المجرد، أو لم يقتصر على مسائل العبادات وشروح العقيدة وغيرها، بل إن كل من لا ينتسبون للمذهب الحنبلي يجلون موقفه وصموده وصبره في مسألة خلق القرآن، مع أن مسنده فيه كثير من الأحاديث الضعيفة مثلما يقول المحققون، فمكانة الرجل عظمت أكثر بسبب موقفه أكثر من رأيه الفقهي في قضايا أخرى أو علمه ونتاجه المكتوب.
بيد أن الأمة جميعا بمن فيها حتى من يتبنون أفكارا غير إسلامية تحترم وتجل العالم والشيخ الذي يقارع المحتل، ولكنها حياله أو حيال أي عالم دين يتصدى للنظم الاستبدادية تكون منقسمة بتأييده سرّا أو جهرا، أو معارضته حد التشكيك بنيته والطعن في شخصه وعائلته، وهي مسألة نلحظها بوضوح.
ولهذه المفارقة أسبابها المختلفة؛ منها أن المحتل يظل أجنبيا غريبا لا يدين بدين الأمة ولا ينطق بلسانها بعكس الحاكم المستبد، ومنها أن الحاكم يتحكم بمجموعة علماء ويظهر أنه مع الإسلام الصحيح، بل يذهب حد الزعم أن من يعارضه يخالف الشرع!
وبعد الثورات العربية انتقل الخلاف إلى أوساط مجموعة العلماء أنفسهم؛ فمنهم من شجع ودعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية بالفتوى ومن على المنبر وبالمقال والكتاب، وهؤلاء أنفسهم اختلفوا حول حاكم معين أو نظام سياسي قامت ضده ثورة، ووصل الأمر أن يشهروا ببعضهم على الملأ، وطبيعي أن ينتقل الأمر إلى الجمهور في الشارع العربي والمسلم فينقسم الناس بين مريد لهذا العالم أو ذاك في رأيه مما يجري، أو ناقم عليه ناعتا إياه بأوصاف قبيحة.
ولا بد من خطوط عريضة يجتمع عليها العلماء للخروج برأي موحد، ونبذ أي عالم أو مؤسسة تـبـيح الاستبداد أو تشجع القتل من أي حاكم كان، بأي ذريعة كانت، وهذا يبدو بعيدا لأن الأمة منقسمة مذهبيا وسياسيا، وعلماؤها عموما انخرطوا في هذا الانقسام البغيض بطريقة أو بأخرى.
ومع ذلك يبقى دور العلماء السياسي أصيلا ومطلوبا في هذه المرحلة، ولا بد للعلماء أن يضطلعوا بدورهم فإن رأى بعضهم أن التخلص من المستبد أمر مقدم على غيره، ورأى آخرون أن هذا مجلبة لفتنة أشد تراق فيها دماء كثيرة وجب حقنها، فليجتمعوا على كلمة سواء وميثاق شرف بينهم، كي لا تظل الأمة منقسمة في رأي علمائها مثلما هي منقسمة بين أحزابها وسياسييها ومـثـقفيها، وهذا الميثاق بات حاجة ملحة في هذه المرحلة بالذات...فهل سنراه يوقع قريبا، ويلتزم به من يوقعونه؟!
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية