الشهيد عبد الرحمن العاروري تاريخ يجب أن يسجل ... بقلم : فؤاد الخفش

السبت 12 يناير 2013

الشهيد عبد الرحمن العاروري تاريخ يجب أن يسجل

فؤاد الخفش

في يوم من أيام شهر 10 من عام 1992 ساقتني أقداري ولم يكن عمري حينها تجاوز السبعة عشر عاماً وكنت في أوج نشاطي وحيوتي وحماسي وهمتي إلى سجن مجدو قسم الغرف وكان يطلق عليه في لغة الأسرى القطار، وهناك التف من حولي الأسرى يتفحصون القادم الجديد الذي لم تكن نبتت ولو شعرة واحدة في وجهه.

وكعادة السجون تجتمع القوى والفصائل بالأسير الجديد وتسأله عن انتمائه السياسي وعن أي فصيل يريد أن يمضي اعتقاله، في تلك الأثناء وقعت عيني على رجل متوسط الحجم أسمر البشرة تزين وجهة الوضاء لحية صغيرة وعيون تبعث بالقلب راحة.... كان ينظر إليّ وهو يبتسم، فقلت لهم أني أريد أن أعيش عند تنظيم هذا الرجل الملتحي، فنظر له الشباب من القوى والفصائل الأخرى وقال ربح الرهان أبا النور، فقد قال لنا من لحظة دخولك للقسم أنك من جماعته وتنظيمه فبادرت الضحكات بابتسامة وقمت وصافحت الرجل وهمّ بعناقي ومضيت معه.

مضيت مع عبد الرحمن العاروري أول أمير لي في السجون إلى المكان المخصص لنومنا ولم يكن معي كثير ملابس وثياب وتوجهنا إلى زواية القسم وطلب أن يتعرف علي.. كنت متحمساً للحديث وكنت مندفعاً بشكل كبير للكلام فقد مضى وقت طويل لم أتحدث به لأحد ولم ألتق إنساناً أثق به فبدأت أحدث الرجل عن التحقيق وما مورس ضدي وكيف لم أعترف وعن طريقة الاعتقال ورحلتي من الكويت لفلسطين وكان يستمع لي بطريقة عجيبة وينظر لي ويبدي لي أنه مستمتع بحديثي ويحثني من خلال أسئلته على الكلام إلى أن حضر الطعام ووضع أمامنا وكنت جائعاً لحد الجنون وبدأت بالأكل وكان الصحن ونطلق عليه بلغة السجون "مجاش" لشخصين وكان هو يشاركني الطعام دون أن يأكل ويقدم من أمامه لي ويقول لي عليك أكل كل هذا الطعام أنا لست جائعاً.

طلبت منه أن يعرفني على نفسه فقال لي أخوك في الله " أبو النور " عبد الرحمن العاروري من بلدة عارورة قضاء رام الله مضى من العمر 30 عاماً متزوج ولي من الأولاد (أنوار ومنار ونور الدين) وموقوف غير محكوم سألته عن الفترة التي أمضاها في التحقيق قال لي فترة طويلة ومازحني وقال لي لم أعترف.

أمضيت مع هذا الرجل فترة أسبوعين كاملين ولم يكن معنا أي شخص آخر وكان في هذه الفترة معنياً بشكل كبير في تعليمي وتثقيفي وتربيتي وزرع معاني عديدة في نفسي وقد تواعدت وإياه على أمور كثيرة، وكنت معنياً بشكل كبير أن أكون عند حسن ظنه، لم يتحدث لي عنه نفسه كثيراً....

ومضت الأيام مسرعة وأتى قرار نقلي لأقسام أخرى وقدم إليّ وقال لي ستنزل لقسم الخيام، فقلت لا أريد، أريد أن أبقى معك استغرب من قراري وابتسم وقال لي هناك أفضل وأوسع وهناك شباب كثر، فقلت له لكن هناك لا يوجد أبو النور قال لي صعب إلغاء القرار وأعدك أن نلتقي..

مضيت بعد أن ودعته وعانقته عناقاً حاراً لا أعرف أن أصف ذلك الشعور ولكن والله أني أشعر بدفئه الآن وبعد أكثر من عقدين من الزمان، ومن عرف معنى الأخوة يفهم قصدي ويعرف هذا الشعور.. نزلت لقسم 4 في سجن مجدو وهناك استقبلني الأسرى والكل كان ينظر إليّ والى عمري الصغير وكنت أسيرا كما علّمني أبو النور رافع الرأس فخوراً بديني وانتمائي..

في قسم 4 سألني الشباب عن أبي النور وعن أخباره وهل أرسل معي رسائل فقلت لهم هذا إنسان عظيم ورائع وبدأت أعدّد مناقبه فقالوا لي ولماذا قبلت بالنقل فقلت لهم أجبرتني الإدارة وكنت أتمنى لو بقيت عند هذا الرجل فوجدت الجميع ممن مر على هذا الرجل كان له نفس الموقف يريدون البقاء عنده مفضلين حياة الغرف الضيقة على الخيام الواسعة حباً في هذا الرجل.

حدثني الأسرى عن حب الشباب له وعن أنه مرب، ولكن ما استوقفني كثيراً وتحدث عنه الأسرى أكثر وأكثر هو صمود الرجل الأسطوري في التحقيق رغم استخدام جميع الأساليب والوسائل معه من أجل نزع اعتراف من الرجل دون نتيجة، فقد عجز جميع المحققين عن انتزاع أي كلمة من الرجل..

زاد حبي له وزاد شوقي للرجل ودعوت الله أن ألتقيه لأسأله عن أساليب التحقيق التي تحدّث لي بها الأسرى عنه وكيف استطاع الصمود وكيف كان يتحدى ضباط التحقيق بانتزاع كلمة منه..

بعد فترة من الزمن علمت أن أبا النور تم نقله لأقسام السجن ونزل إلى قسم 5 القريب منا فحزنت وقلت للأسرى أريد الانتقال عند أبي النور فقال لي المسؤول كل السجن يريد أن ينتقل ليعيش عند هذا الرجل فقلت لهم أنا على يقين أن أبا النور سيطلب أن أحضر إليه لأن هذا الرجل يحبني، فقال لي الأسرى ونحن على يقين أن أبا النور يحبّنا أيضاً وسيطلبنا..

أيام قليلة وإذا بفاجعة تحدث داخل السجن قوات كبيرة تقتحم قسم 5 وتختطف الرجل وتذهب به إلى مكان مجهول ظننّا أنه إلى مركز التحقيق وبعد أيام وإذا بالرجل _ على شاشات التلفاز وكان قد أدخل التلفاز للسجون من أيام قليلة _ مع مبعدي مرج الزهور بين الثلوج صرخت وصرخ الأسرى هذا العاروري، هذا أبو النور وصرت أنادي عليه وهو في مرج الزهور، الجميع تفاجأ من الخبر والمنظر، من مجدو لمرج الزهور.

كان الأسرى الكبار في العمر يقولون اليهود يريدون أن يتخلصوا من هذا الرجل لأنه لم يعترف وهناك معلومات خطيرة يملكها، وكانوا يقولون أن هذا الرجل عسكري ويعمل في الجناح العسكري لحماس ولم يكن في حينها كتائب عزالدين القسام كنت أستمع وأتخيل منظر الرجل وحنانه ورقته وحديثه وكيف كان يحثني على حفظ القرآن وكيف كان يرعانا..

حزن شديد تسرب لنفسي وصدري، ومرت الأشهر وعاد الرجل من مرج الزهور بعد انتصار كبير حقّقه المبعدون وكنت فقط أسأل عن الرجل، وعلمت أنه أفرج عنه، أمضيت عامين في السجون، خرجت لأسمع خبراً هز كل كياني...

قوات خاصة إسرائيلية تدق منزل عبد الرحمن العاروري يخرج لهم الرجل تطلق على صدره زخات من الرصاص يقع الرجل شهيداً تهرب الوحدات الخاصة ويشاع الخبر ويهب الصغير والكبير ليشيع الفارس المقدام والأسد الهصور العاروري أبا النور وبعد 9 شهور من الإفراج عنه وبالتحديد في 6/12/1993...

بعد استشهاده كثرت التحليلات لأسباب اغتياله وكلها كانت تصب باتجاه واحد أن الرجل أسس لعمل عسكري في الضفة الغربية وهو قائد عسكري لا يمكن انتزاع أي اعتراف منه لذلك الحل الوحيد التخلص منه لأنه يشكل خطراً كبيراً على أمن الاحتلال.

مضى أبو النور وترك خلفه زوجة لا كأي زوجة حفظت الغيبة وربّت بناتها الثلاث حيث كانت وقت استشهاد زوجها تحمل في أحشائها طفلتها (ثبات) وولدها الوحيد أفضل تربية، منهن من درس التصميم وأخرى درست علم النفس وثالثة تدرس الإنجليزي ونور يدرس ادارة الأعمال مؤمنة متوكلة صابرة محتسبة تتمنى لو كان زوجها حاضراً زفاف ابنتيها ونجاح أطفالها في المدارس والجامعات ولكن قدر الله كان أسرع ولا رادّ لقضاء الله.

أم النور نموذج حي لتلك الفلسطينية الماجدة التي ضمّت تحت جناحيها أطفالها وزرعت فيهم حب فلسطين فنور الدين على درب أبيه قد سار فاعتقل وسجن وعذب وصمد وصبر فروح أبيه قد تسربت في نفسه وهو أمل وعين أمه التي تنظر إليه كأنه أبوه لا حرمها الله منه ومنهم وعوضها عوض خير.

مضى أبو النور إلى ربه دون أن نلتقي في هذه الدنيا وأسأل الله أن يجمعنا في مستقر رحمته ومن نحن حتى نكون في منازل الشهداء أصحاب القامات السامقات والمقامات الأرفع والجبين الأغر.

ولكن وقبل أن أنهي شهادتي هذه بحق هذا الرجل يجب أن نعترف كفلسطينيين أن هناك أموراً كثيرة من تاريخنا ونضالنا وجهادنا لم توثّق بطريقة صحيحة ولم يكتب عنها ولا عن أبطالها الذين صنعوا لنا مجداً وعزاً نفخر ونفاخر به ومن بين هؤلاء فارس مقالي هذا الشهيد الحي عبد الرحمن العاروري جمعنا الله به في جناته.

جبل يدعى حماس
سأموت ولكن لن ارحل
يا رب انت العالم
يوم تجثو كل أمّــة
علم .. مقاومة .. حرية

الشبكات الاجتماعية

تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية

القائمة البريدية