الصمت الأمريكي.. استراتيجية لتفكيك وإعادة تركيب المنطقة العربية
بعيداً عن نظرية المؤامرة، وبعيداً عن شماعة تحميل الإدارة الأمريكية المسؤولية عما آلت إليه الأمور في المنطقة، إلا أنه لا بد من التوقف ملياً في قراءة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وأزماته الطاحنة.
معلوم أن الإدارة الأمريكية لديها مصالح استراتيجية في المنطقة العربية، وهي مستعدة للتدخل بكل قوتها لحماية تلك المصالح ـ وهذا مفهوم في السياسة الدولية ـ ومن تلك المصالح:
أولاً: حماية أمن إسرائيل.
ثانياً: تأمين مصادر الطاقة.
ثالثاً: تأمين سوق السلاح، والاستهلاك للبضائع الأمريكية في الشرق الأوسط.
تلك المصالح بقيت على الدوام شبه مؤمنة خلال القرن الماضي، واستطاعت واشنطن معالجة أي تهديد لها بالسياسة، أو بالقوة العسكرية في منطقة الخليج العربي تحديداً، والتي كان آخرها الحرب الأمريكية على العراق (نظام صدام حسين)، ومنذ ذلك الحين لم تتعرض المصالح الأمريكية لتهديد حقيقي إلا عبر فزاعة "الإرهاب".
استمر ذلك المسار إلى أن جاءت موجة الثورات العربية، التي أعتقد أنها شكلت مفاجأة لواشنطن كما العديد من الدول العربية، مشكلة انعطافة حادة في المنطقة عبر الإطاحة بالعديد من حلفاء واشنطن كالرئيس زين العابدين، والرئيس حسني مبارك (الموصوف بالكنز الاستراتيجي لإسرائيل)..، الأمر الذي أطلق صفارة إنذار داخل البيت الأبيض خشية أن تؤدي تلك التغييرات إلى المساس بالمصالح الأمريكية، عبر "انعدام اليقين" بمستقبل المنطقة، حيث التساؤلات القلقة بشأن طبيعة وشكل البدائل التي يمكن تأتي بديلاً عن الأنظمة العربية الحليفة لواشنطن. وما زاد القلق لدى الإدارة الأمريكية، وصول الإسلاميين إلى الحكم خاصة في مصر ـ التي تعد قاطرة العالم العربي ـ قلقاً تمثل بالسؤال عن مستقبل معاهدة كامب ديفيد وعلاقة مصر الثورة بإسرائيل وأمنها؟ ومدى تأثير نجاح التغيير في مصر على دول الخليج صاحبة المخزون الاستراتيجي من النفط والغاز الطبيعي؟
أمام هذا القلق وانعدام اليقين، تجلت مصلحة الإدارة الأمريكية كما مصلحة العديد من الأنظمة العربية، في الالتفاف على موجة التغيير الثوري. لكن الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس باراك أوباما كانت لها أهداف أبعد من مجرد الالتفاف على موجة التغيير الصاعدة، لإدراكها أن الثورات العربية هي ظاهرة وترجمة لأسباب معقدة ومركبة في عمق الوعي الجمعي للجماهير العربية الشابة منها؛ فالثورة دافعها الاستبداد، والظلم، والفقر..، وأهدافها المنشودة الحرية، والتغيير، والديمقراطية التي قد تأتي بخصوم لواشنطن وتل أبيب. ومن هنا فإن عملية استبدال حاكم أو رئيس بآخر قد لا تكون عملية مقنعة لشعوب المنطقة العربية الشرهة باتجاه التغيير العميق.
المطلوب إجراءات غير تقليدية:
إضافة لذلك، تدرك واشنطن أن تدخلها المباشر ليس محل ترحيب من قبل شعوب المنطقة عموماً، بسبب نظرتها السلبية للدور الأمريكي الراعي لأمن إسرائيل والصديق لأنظمة استبدادية كفرت بها الشعوب العربية واعتبرتها سبباً لما تعانيه في شتى المجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية منها، ناهيك عن مستوى الكلفة المادية والبشرية التي ستدفعها واشنطن إن هي تدخلت بشكل مباشر خاصة بعد تجربتها في العراق وأفغانستان.
من هنا اندفعت واشنطن والرئيس باراك أوباما لأخذ خيار "الصمت الاستراتيجي" الذي يَعْمَد إلى استبدال التدخل الأمريكي المباشر بدعم وتحريض أطراف إسلامية وعربية ضد بعضها البعض، وضد شعوبها لتحقق تلك الأطراف المتصارعة (أنظمة، وجماعات) ما تعتقد أنه يحقق لها مصالحها القومية والقطرية، وهو في حقيقته مخطط أمريكي يحمل أهدافاً استراتيجية غير تقليدية وغير مصرح بها، صيغت لاستثمار واستغلال مجريات الأحداث في المنطقة العربية بأعلى سقف ممكن، ومن تلك الأهداف:
ـ إحداث "كَيْ" لوعي الجماهير العربية عبر عملية جراحية عميقة ومُكْلِفة تُحيل المواطن العربي إلى الندم على فكرة الحرية والتغيير، ودفعة للترحم على أيام الأنظمة الحليفة لواشنطن والتي أسقطها بفعل الثورة؛ وذلك عبر إشعال الحروب الطائفية، والمذهبية التي تعد من أعقد وأعنف الحروب في التاريخ.
ـ استنزاف دول المنطقة الكبرى في الصراعات الداخلية، والإقليمية، وإرهاقها عسكرياً واقتصادياً عبر ديمومة الصراع، وتغذيته لسنوات مديدة قد تصل إلى عقد من الزمان على أقل تقدير؛ فما يجري في سورية كنموذج يوضح سياسة واشنطن الساعية لإدامة الصراع من خلال منع أي طرف إن كان النظام أو معارضيه ومن ناصرهما كإيران أو تركيا والسعودية لحسم المعركة، فالمطلوب سياسة لا غالب ولا مغلوب، وتدمير البلد، وتدمير المواطن السوري كإنسان.
ـ ابتزاز الدول الوازنة في المنطقة العربية، ونزع أسلحتها غير التقليدية والتي يمكن أن تشكل يوماً ما تهديداً حقيقياً واستراتيجياً على أمن إسرائيل؛ وهذا ما شاهدناه عندما حشدت واشنطن أساطيلها في البحر المتوسط لقصف دمشق رداً على استخدامها الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، ولكن عندما وافق النظام السوري على المبادرة الروسية بتدمير أسلحته الكيماوية تراجعت واشنطن عن الضربة، واستمر سيناريو الاقتتال الداخلي إلى أن أصبح أكثر من نصف الشعب السوري من اللاجئين ونصفه الآخر من النازحين. وهذا ما ينسحب على السلاح النووي الإيراني؛ فإيران تواقة لرفع الحصار بسبب الاستنزاف الاقتصادي الذي تعانيه جراء تدخلها المباشر، ودعمها لحلفائها في كل من العراق، وسورية، ولبنان، واليمن..، ومن هنا فإن الولايات المتحدة بقيادة باراك أوباما استغلت الظرف الاقتصادي الخانق لطهران لدفعها لتقديم تنازلات جوهرية في برنامجها النووي، وهو ما تم باتفاق الإطار في "لوزان" السويسرية مؤخراً.
ـ هدم الدولة القومية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية، من خلال إذكاء الصراعات الإثنية (الأكراد نموذجاً)، والصراعات الطائفية (مسلمين، ومسيحيين، ودروز، وآشوريين، وكلدانيين..)، والصراعات المذهبية (شيعة وسنة)، وتعزيز رغبة الانفصال لدى العديد من الأطراف المتصارعة في كيانات صغيرة، أو فسيفسائية فاقدة في أغلبها القدرة على الحياة والنهوض الذاتي نتيجة دمار البنى التحتية، ودمار الاقتصاد، وانتشار الفقر، والجهل..، وهذا مرشح حدوثه في دول كبيرة الحجم أو الوزن مثل العراق، سورية، اليمن، وليبيا وقد ينسحب الأمر بتطور الأحداث الجارية على إيران، والسعودية، ومصر. فإن حدث ذلك تصبح المنطقة العربية خالية من دولة مركزية قادرة على استقطاب الدول العربية لتشكيل نهضة حقيقية.
ـ ديمومة الصراع والقتال والدمار، يعني تحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي بشكل أساس، حيث الصناعات العسكرية التي ستحتاجها الدول والجماعات المتصارعة..، وعلى المدى البعيد فإن الكيانات الناشئة على دمار مدنها ستكون بأمس الحاجة لإعادة الإعمار الذي سيفتح السوق على مصراعيه للشركات الأمريكية والأوروبية.
شرط نجاح سيناريو التفكيك وإعادة التركيب:
ما ذكرته من أهداف أمريكية استراتيجية، تحقَّقَّ جزء منه عبر نظرية "الصمت الاستراتيجي" للرئيس أوباما، وقد يتحقق الجزء الأخطر منه لاحقاً وهو تفكيك المنطقة ودولها القومية، وإعادة تركيبها على أسس عرقية، وطائفية، ومذهبية بما يخدم المصالح الأمريكية الاستراتيجية الثلاث (أمن إسرائيل، ومصادر الطاقة، والسوق الشرق الأوسطية الاستهلاكية).
وشرط نجاح سيناريو تفكيك وإعادة تركيب المنطقة من جديد هو الزج بالدول الشرق أوسطية الكبيرة ـ والتي ما زالت متماسكة لحد الآن ـ في أتون معارك طاحنة كـ إيران، والسعودية، ومصر، وتركيا، وهو ما تسعى إليه واشنطن من خلال إغراء وإغراق إيران بمزيد من التمدد والسيطرة المستفز للدول العربية وتركيا، مستغلة بذلك تطلعات إيران التوسعية، وهو السيناريو الآخذ بالتقدم عبر الانقلاب الحوثي بدعم إيراني في اليمن، الذي استجلب بالضرورة ردة فعل السعودية (عاصفة الحزم) لحماية نفسها من التمدد الإيراني الشيعي على حدودها الجنوبية.
وما يفسر خلفية الموقف الأمريكي الضعيف والسلبي حيال الانقلاب الحوثي في اليمن قبل أشهر، هو رغبة واشنطن بتطمين إيران ودفعها لمزيد من التقدم في الملف اليمني؛ حيث أعرب البيت الأبيض في حينه عن قلقه من تطور الأوضاع في اليمن، مؤكداً في ذات الوقت استمرار التنسيق مع الحوثيين لضرب القاعدة هناك. وما دعم إدارة أوباما لـ "عاصفة الحزم" المحدود لاحقاً إلا لتشجيع السعودية لأخذ خطوة متقدمة في التصدي لإيران، لضرب إيران والسعودية ببعضهما البعض وجر المزيد من ردود فعل دول الإقليم.
وفي ذات السياق أتى اتفاق "لوزان" الأخير بشأن ملف إيران النووي، أثناء احتدام المعارك في اليمن التي تشارك فيها واشنطن ـ وهو الاتفاق الذي حرص عليه باراك أوباما شخصياً رغم غضب حليفته إسرائيل ـ لنزع قدرة إيران على امتلاك القنبلة النووية تحت الضغط، ولمنحها الأمل في رفع الحصار لدفعها لاستكمال مشروعها التوسعي المذهبي.
إذن المنطقة العربية مرشحة لمزيد من التعقيد والصراعات البينية، بتوسع المواجهات في اليمن بالدخول إلى الحرب البرية التي يصعب التكهن بنتائجها، لا سيما إذا سعى كل طرف لاستثمار ما يملكه من أوراق قوة للضغط على الطرف الآخر؛ فكما أن لإيران القدرة على اللعب بأحشاء السعودية بتحريض الشيعة في شرق البلاد، فإن للسعودية القدرة أيضاً على اللعب بأحشاء إيران من خلال تحريض العرب السنة في الأهواز (خوزستنان) جنوب غرب إيران، وتحريض قبائل "البلوش" السنة شرق إيران والممتدة عبر الأراضي الباكستانية الحليفة للرياض. هذا ناهيك عن إمكانية التدخل المباشر للأطراف في الأزمة السورية.
أعتقد أن الرئيس باراك أوباما، يتمتع بقدرة عالية على إدارة السياسة الخارجية ببرود أعصاب ودهاء سياسي ملفت، ما جعله يتمكن من دفع إيران لتحقيق رغباتها التوسعية الجامحة، وتوريطها في العراق، وسورية، واليمن..، مدركاً في ذات الوقت أن ذلك سيجلب ردود فعل غاضبة من الدول العربية، وسيفتح الباب على مصراعيه لصراعات طائفية مذهبية، راح البعض لها عن وعي وإصرار، وذهب لها آخرون مضطرين لا خيار لهم إلا بها.
أختم بنقل ما ورد في حوار أجراه الكاتب "توماس فريدمان" مع الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض ـ يوم السبت (4/4/2015) ونشرته صحيفة "نيويورك تايمز" على موقعها الإليكتروني مساء الأحد (5/4/2015) ـ حيث أعرب الرئيس باراك أوباما عن اعتقاده بأن "أكبر التهديدات" التي يواجهها حلفاء واشنطن من "العرب السنة" قد لا تكون قادمة من جهة "إيران المهاجمة"، وإنما "من الاستياء داخل بلدانهم". متسائلاً "لماذا لا يمكننا أن نرى عرباً يحاربون ضد الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت ضد حقوق الإنسان أو يقاتلون ضد ما يفعله الأسد؟"
أحمد الحيلة
وصف العديد من المراقبين الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه شخص متردد، ولا يملك رؤية أو استراتيجية واضحة للتعامل مع أزمات الشرق الأوسط..، وأن أولوياته بعد سحب الجيش الأمريكي من العراق وأفغانستان تتركز على تنمية الاقتصاد، ورفع مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية للشعب الأمريكي..
هذا التوصيف له أنصاره ومنظريه، وفيه وجاهة موضوعية بالنظر لانسحاب الجيش الأمريكي عموماً من أفغانستان والعراق..، ورفض الإدارة الأمريكية التدخل المباشر بجيشها في العديد من الأزمات الشرق الأوسطية كالعراق، وسورية، واليمن مؤخراً.. سوى تقديم إغاثة إنسانية أو دعم لوجستي لهذا الصديق أو ذاك الحليف أو التدخل بالطيران الحربي لإجراء عمليات عسكرية موضعية عنوانها مكافحة الإرهاب والتطرف.
المصالح الاستراتيجية الثلاث:
وصف العديد من المراقبين الرئيس الأمريكي باراك أوباما بأنه شخص متردد، ولا يملك رؤية أو استراتيجية واضحة للتعامل مع أزمات الشرق الأوسط..، وأن أولوياته بعد سحب الجيش الأمريكي من العراق وأفغانستان تتركز على تنمية الاقتصاد، ورفع مستوى الخدمات الاجتماعية والصحية للشعب الأمريكي..
هذا التوصيف له أنصاره ومنظريه، وفيه وجاهة موضوعية بالنظر لانسحاب الجيش الأمريكي عموماً من أفغانستان والعراق..، ورفض الإدارة الأمريكية التدخل المباشر بجيشها في العديد من الأزمات الشرق الأوسطية كالعراق، وسورية، واليمن مؤخراً.. سوى تقديم إغاثة إنسانية أو دعم لوجستي لهذا الصديق أو ذاك الحليف أو التدخل بالطيران الحربي لإجراء عمليات عسكرية موضعية عنوانها مكافحة الإرهاب والتطرف.
المصالح الاستراتيجية الثلاث:
بعيداً عن نظرية المؤامرة، وبعيداً عن شماعة تحميل الإدارة الأمريكية المسؤولية عما آلت إليه الأمور في المنطقة، إلا أنه لا بد من التوقف ملياً في قراءة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وأزماته الطاحنة.
معلوم أن الإدارة الأمريكية لديها مصالح استراتيجية في المنطقة العربية، وهي مستعدة للتدخل بكل قوتها لحماية تلك المصالح ـ وهذا مفهوم في السياسة الدولية ـ ومن تلك المصالح:
أولاً: حماية أمن إسرائيل.
ثانياً: تأمين مصادر الطاقة.
ثالثاً: تأمين سوق السلاح، والاستهلاك للبضائع الأمريكية في الشرق الأوسط.
تلك المصالح بقيت على الدوام شبه مؤمنة خلال القرن الماضي، واستطاعت واشنطن معالجة أي تهديد لها بالسياسة، أو بالقوة العسكرية في منطقة الخليج العربي تحديداً، والتي كان آخرها الحرب الأمريكية على العراق (نظام صدام حسين)، ومنذ ذلك الحين لم تتعرض المصالح الأمريكية لتهديد حقيقي إلا عبر فزاعة "الإرهاب".
استمر ذلك المسار إلى أن جاءت موجة الثورات العربية، التي أعتقد أنها شكلت مفاجأة لواشنطن كما العديد من الدول العربية، مشكلة انعطافة حادة في المنطقة عبر الإطاحة بالعديد من حلفاء واشنطن كالرئيس زين العابدين، والرئيس حسني مبارك (الموصوف بالكنز الاستراتيجي لإسرائيل)..، الأمر الذي أطلق صفارة إنذار داخل البيت الأبيض خشية أن تؤدي تلك التغييرات إلى المساس بالمصالح الأمريكية، عبر "انعدام اليقين" بمستقبل المنطقة، حيث التساؤلات القلقة بشأن طبيعة وشكل البدائل التي يمكن تأتي بديلاً عن الأنظمة العربية الحليفة لواشنطن. وما زاد القلق لدى الإدارة الأمريكية، وصول الإسلاميين إلى الحكم خاصة في مصر ـ التي تعد قاطرة العالم العربي ـ قلقاً تمثل بالسؤال عن مستقبل معاهدة كامب ديفيد وعلاقة مصر الثورة بإسرائيل وأمنها؟ ومدى تأثير نجاح التغيير في مصر على دول الخليج صاحبة المخزون الاستراتيجي من النفط والغاز الطبيعي؟
أمام هذا القلق وانعدام اليقين، تجلت مصلحة الإدارة الأمريكية كما مصلحة العديد من الأنظمة العربية، في الالتفاف على موجة التغيير الثوري. لكن الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس باراك أوباما كانت لها أهداف أبعد من مجرد الالتفاف على موجة التغيير الصاعدة، لإدراكها أن الثورات العربية هي ظاهرة وترجمة لأسباب معقدة ومركبة في عمق الوعي الجمعي للجماهير العربية الشابة منها؛ فالثورة دافعها الاستبداد، والظلم، والفقر..، وأهدافها المنشودة الحرية، والتغيير، والديمقراطية التي قد تأتي بخصوم لواشنطن وتل أبيب. ومن هنا فإن عملية استبدال حاكم أو رئيس بآخر قد لا تكون عملية مقنعة لشعوب المنطقة العربية الشرهة باتجاه التغيير العميق.
المطلوب إجراءات غير تقليدية:
إضافة لذلك، تدرك واشنطن أن تدخلها المباشر ليس محل ترحيب من قبل شعوب المنطقة عموماً، بسبب نظرتها السلبية للدور الأمريكي الراعي لأمن إسرائيل والصديق لأنظمة استبدادية كفرت بها الشعوب العربية واعتبرتها سبباً لما تعانيه في شتى المجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية منها، ناهيك عن مستوى الكلفة المادية والبشرية التي ستدفعها واشنطن إن هي تدخلت بشكل مباشر خاصة بعد تجربتها في العراق وأفغانستان.
من هنا اندفعت واشنطن والرئيس باراك أوباما لأخذ خيار "الصمت الاستراتيجي" الذي يَعْمَد إلى استبدال التدخل الأمريكي المباشر بدعم وتحريض أطراف إسلامية وعربية ضد بعضها البعض، وضد شعوبها لتحقق تلك الأطراف المتصارعة (أنظمة، وجماعات) ما تعتقد أنه يحقق لها مصالحها القومية والقطرية، وهو في حقيقته مخطط أمريكي يحمل أهدافاً استراتيجية غير تقليدية وغير مصرح بها، صيغت لاستثمار واستغلال مجريات الأحداث في المنطقة العربية بأعلى سقف ممكن، ومن تلك الأهداف:
ـ إحداث "كَيْ" لوعي الجماهير العربية عبر عملية جراحية عميقة ومُكْلِفة تُحيل المواطن العربي إلى الندم على فكرة الحرية والتغيير، ودفعة للترحم على أيام الأنظمة الحليفة لواشنطن والتي أسقطها بفعل الثورة؛ وذلك عبر إشعال الحروب الطائفية، والمذهبية التي تعد من أعقد وأعنف الحروب في التاريخ.
ـ استنزاف دول المنطقة الكبرى في الصراعات الداخلية، والإقليمية، وإرهاقها عسكرياً واقتصادياً عبر ديمومة الصراع، وتغذيته لسنوات مديدة قد تصل إلى عقد من الزمان على أقل تقدير؛ فما يجري في سورية كنموذج يوضح سياسة واشنطن الساعية لإدامة الصراع من خلال منع أي طرف إن كان النظام أو معارضيه ومن ناصرهما كإيران أو تركيا والسعودية لحسم المعركة، فالمطلوب سياسة لا غالب ولا مغلوب، وتدمير البلد، وتدمير المواطن السوري كإنسان.
ـ ابتزاز الدول الوازنة في المنطقة العربية، ونزع أسلحتها غير التقليدية والتي يمكن أن تشكل يوماً ما تهديداً حقيقياً واستراتيجياً على أمن إسرائيل؛ وهذا ما شاهدناه عندما حشدت واشنطن أساطيلها في البحر المتوسط لقصف دمشق رداً على استخدامها الأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية، ولكن عندما وافق النظام السوري على المبادرة الروسية بتدمير أسلحته الكيماوية تراجعت واشنطن عن الضربة، واستمر سيناريو الاقتتال الداخلي إلى أن أصبح أكثر من نصف الشعب السوري من اللاجئين ونصفه الآخر من النازحين. وهذا ما ينسحب على السلاح النووي الإيراني؛ فإيران تواقة لرفع الحصار بسبب الاستنزاف الاقتصادي الذي تعانيه جراء تدخلها المباشر، ودعمها لحلفائها في كل من العراق، وسورية، ولبنان، واليمن..، ومن هنا فإن الولايات المتحدة بقيادة باراك أوباما استغلت الظرف الاقتصادي الخانق لطهران لدفعها لتقديم تنازلات جوهرية في برنامجها النووي، وهو ما تم باتفاق الإطار في "لوزان" السويسرية مؤخراً.
ـ هدم الدولة القومية التي نشأت عقب الحرب العالمية الثانية، من خلال إذكاء الصراعات الإثنية (الأكراد نموذجاً)، والصراعات الطائفية (مسلمين، ومسيحيين، ودروز، وآشوريين، وكلدانيين..)، والصراعات المذهبية (شيعة وسنة)، وتعزيز رغبة الانفصال لدى العديد من الأطراف المتصارعة في كيانات صغيرة، أو فسيفسائية فاقدة في أغلبها القدرة على الحياة والنهوض الذاتي نتيجة دمار البنى التحتية، ودمار الاقتصاد، وانتشار الفقر، والجهل..، وهذا مرشح حدوثه في دول كبيرة الحجم أو الوزن مثل العراق، سورية، اليمن، وليبيا وقد ينسحب الأمر بتطور الأحداث الجارية على إيران، والسعودية، ومصر. فإن حدث ذلك تصبح المنطقة العربية خالية من دولة مركزية قادرة على استقطاب الدول العربية لتشكيل نهضة حقيقية.
ـ ديمومة الصراع والقتال والدمار، يعني تحريك عجلة الاقتصاد الأمريكي بشكل أساس، حيث الصناعات العسكرية التي ستحتاجها الدول والجماعات المتصارعة..، وعلى المدى البعيد فإن الكيانات الناشئة على دمار مدنها ستكون بأمس الحاجة لإعادة الإعمار الذي سيفتح السوق على مصراعيه للشركات الأمريكية والأوروبية.
شرط نجاح سيناريو التفكيك وإعادة التركيب:
ما ذكرته من أهداف أمريكية استراتيجية، تحقَّقَّ جزء منه عبر نظرية "الصمت الاستراتيجي" للرئيس أوباما، وقد يتحقق الجزء الأخطر منه لاحقاً وهو تفكيك المنطقة ودولها القومية، وإعادة تركيبها على أسس عرقية، وطائفية، ومذهبية بما يخدم المصالح الأمريكية الاستراتيجية الثلاث (أمن إسرائيل، ومصادر الطاقة، والسوق الشرق الأوسطية الاستهلاكية).
وشرط نجاح سيناريو تفكيك وإعادة تركيب المنطقة من جديد هو الزج بالدول الشرق أوسطية الكبيرة ـ والتي ما زالت متماسكة لحد الآن ـ في أتون معارك طاحنة كـ إيران، والسعودية، ومصر، وتركيا، وهو ما تسعى إليه واشنطن من خلال إغراء وإغراق إيران بمزيد من التمدد والسيطرة المستفز للدول العربية وتركيا، مستغلة بذلك تطلعات إيران التوسعية، وهو السيناريو الآخذ بالتقدم عبر الانقلاب الحوثي بدعم إيراني في اليمن، الذي استجلب بالضرورة ردة فعل السعودية (عاصفة الحزم) لحماية نفسها من التمدد الإيراني الشيعي على حدودها الجنوبية.
وما يفسر خلفية الموقف الأمريكي الضعيف والسلبي حيال الانقلاب الحوثي في اليمن قبل أشهر، هو رغبة واشنطن بتطمين إيران ودفعها لمزيد من التقدم في الملف اليمني؛ حيث أعرب البيت الأبيض في حينه عن قلقه من تطور الأوضاع في اليمن، مؤكداً في ذات الوقت استمرار التنسيق مع الحوثيين لضرب القاعدة هناك. وما دعم إدارة أوباما لـ "عاصفة الحزم" المحدود لاحقاً إلا لتشجيع السعودية لأخذ خطوة متقدمة في التصدي لإيران، لضرب إيران والسعودية ببعضهما البعض وجر المزيد من ردود فعل دول الإقليم.
وفي ذات السياق أتى اتفاق "لوزان" الأخير بشأن ملف إيران النووي، أثناء احتدام المعارك في اليمن التي تشارك فيها واشنطن ـ وهو الاتفاق الذي حرص عليه باراك أوباما شخصياً رغم غضب حليفته إسرائيل ـ لنزع قدرة إيران على امتلاك القنبلة النووية تحت الضغط، ولمنحها الأمل في رفع الحصار لدفعها لاستكمال مشروعها التوسعي المذهبي.
إذن المنطقة العربية مرشحة لمزيد من التعقيد والصراعات البينية، بتوسع المواجهات في اليمن بالدخول إلى الحرب البرية التي يصعب التكهن بنتائجها، لا سيما إذا سعى كل طرف لاستثمار ما يملكه من أوراق قوة للضغط على الطرف الآخر؛ فكما أن لإيران القدرة على اللعب بأحشاء السعودية بتحريض الشيعة في شرق البلاد، فإن للسعودية القدرة أيضاً على اللعب بأحشاء إيران من خلال تحريض العرب السنة في الأهواز (خوزستنان) جنوب غرب إيران، وتحريض قبائل "البلوش" السنة شرق إيران والممتدة عبر الأراضي الباكستانية الحليفة للرياض. هذا ناهيك عن إمكانية التدخل المباشر للأطراف في الأزمة السورية.
أعتقد أن الرئيس باراك أوباما، يتمتع بقدرة عالية على إدارة السياسة الخارجية ببرود أعصاب ودهاء سياسي ملفت، ما جعله يتمكن من دفع إيران لتحقيق رغباتها التوسعية الجامحة، وتوريطها في العراق، وسورية، واليمن..، مدركاً في ذات الوقت أن ذلك سيجلب ردود فعل غاضبة من الدول العربية، وسيفتح الباب على مصراعيه لصراعات طائفية مذهبية، راح البعض لها عن وعي وإصرار، وذهب لها آخرون مضطرين لا خيار لهم إلا بها.
أختم بنقل ما ورد في حوار أجراه الكاتب "توماس فريدمان" مع الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض ـ يوم السبت (4/4/2015) ونشرته صحيفة "نيويورك تايمز" على موقعها الإليكتروني مساء الأحد (5/4/2015) ـ حيث أعرب الرئيس باراك أوباما عن اعتقاده بأن "أكبر التهديدات" التي يواجهها حلفاء واشنطن من "العرب السنة" قد لا تكون قادمة من جهة "إيران المهاجمة"، وإنما "من الاستياء داخل بلدانهم". متسائلاً "لماذا لا يمكننا أن نرى عرباً يحاربون ضد الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت ضد حقوق الإنسان أو يقاتلون ضد ما يفعله الأسد؟"
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية