العثمانيون الجدد في مواجهة إرث أتاتورك
صلاح حميدة
يُعتَبَر رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية حالةً فريدةً في تاريخ تركيا، فقد نهض بها من حالة سيئة إلى أن جعلها في مصاف الدول المتقدمة في الكثير من المجالات، مما جعل الكثير من المحللين يطلقون على العقد الذي تسلم فيه حزبه السلطة في تركيا، عقد الأردوغانية، أو عقد التنمية، و لا يمكن لأي معارض أو مخالف لنهج هذا الحزب أن يجادل في إنجازاتهما.
من الواضح أنّ العثمانيين الجدد - كما يحبون تسمية أنفسهم - لديهم طموحات كبيرة لا تحدها الجغرافيا، وتستمد قوتها من التاريخ، وتتطلع لمستقبل يضمن لهم موقعاً مهماً بين الأمم، بل يحرصون على أن يتجاوزوا عقد الجغرافيا والتاريخ التي خلقت لهم بيئة معادية في محيطهم الإقليمي.
شَكَّلَ الربيع العربي أكبر تحدٍ للعثمانيين الجدد، فقد رحبوا بكافة مخرجاته، ودعوا لتبني برامج تتبنى خيارات الشعوب الثائرة، وحاولوا جاهدين إقناع حاكم سوريا بأن ينفذ مطالب شعبه، ولكن كان لهذا الشخص ومن يتحالفون معه رأي آخر فيما يخص التعاطي مع المطالب الشعبية، ولذلك وجد الأتراك أنفسهم – شاؤوا أم أبوا- في حالة خصام شديد مع هذا الشخص وحلفائه، وتطور الخلاف إلى حالة من العداء، حاول من خلاله هذا الشخص تفعيل أدواته في الداخل التركي عبر تفجيرات الريحانية وإسقاط المقاتلة التركية وبعض عمليات القصف التي كانت ترد على بعضها المدفعية التركية.
أهم التحديات التي وقفت أمام العثمانيين الجدد كانت تلك المظاهرات التي واجهتهم في الفترة الأخيرة في ميدان تقسيم وبعض المدن التركية، وهي ظاهرة غابت عن الشوارع التركية منذ فترة، ولكنها لم تغب عنها في بدايات حكم الحزب، وهو ما أثار تساؤلات عن سبب معاودتها الانطلاق في هذا الوقت، وهل قامت بسبب مشاريع تطوير الميدان، وقوانين تحديد أوقات بيع الخمور؟.
عندما فاز حزب العدالة والتنمية قبل سنوات في الانتخابات، قال أحد كبار المحللين السياسيين الأتراك:- " هذا تصويت على الهويّة" ففي تركيا صراع مستميت بين هويتين حضاريتين، إحداهما تريد الانسجام مع واقع وتاريخ تركيا وثقافة ودين الأتراك، والأخرى لا ترى نفسها إلا ضمن الحضارة والثقافة والهوية الأوروبية، وفعلوا ما لا يُفعَل حتى يقبلهم الأوروبيون في ناديهم، فلا أصبحوا أوروبيين، ولا هم يريدون العودة إلى جذورهم الحضارية، ولذلك كان مصيرهم الضعف وشبه الانقراض، ورفضهم الشعب التركي. ولذلك كانت شرارة الاحتجاجات لها علاقة بثكنة عثمانية تاريخية هدمها أتاتورك وأسس ميدان تقسيم على أنقاضها، ومحاولة العدالة والتنمية بناءها من جديد شَكَّلَ للمُتَأَورِبِين علامةً فارقةً بدفن مرحلة وثقافة وهوية، وإحياء و بناء أخرى كانوا يعتقدون أنها انتهت منذ زمن بعيد، وهذا في تقديري أحد أهم الأسباب للعنف من قبل المتظاهرين تجاه المؤسسات العامة والخاصة.
يشعر المتأوربون في تركيا أنّهم فشلوا في كل منازلة ضد العدالة والتنمية، فقد حكموا البلاد لسنوات طويلة، فنهبوها وخربوها، وساد الفساد الإداري والمالي، وأوقعوا البلاد تحت طائلة الديون بمليارات الدولارات، وجعلوا تركيا في ذيل العالم بالرغم من الذخر الاستراتيجي الكبير لها في العالم، ومما زاد في حَنَقِهِم قُدرَةُ حزب العدالة والتنمية على الصعود بتركيا في زمن قياسي، فخلال عشر سنوات فقط انتقلت تركيا نقلةً مهمةً تُسَجَّلُ للعدالة والتنمية، ولهذا يمكن فهم الطبيعة العنيفة للمحبط الذي يفتقد للقدرة على منافسة الآخرين، والذي يجد نفسه عاجزاً عن مجاراتهم، ويختبىء خجلاً عند عقد مقارنة بينهم وبينه.
يعتبر العلمانيون الأتراك من أقرب المقربين للدولة العبرية في تركيا، ومن اللحظة التي وصل فيها أردوغان للسلطة في تركيا والعلاقات في تراجع - لم تقطع لظروف موضوعية حسب رأي الكثير من المحللين- وعلى كل الأحوال أصبحت تلك الفئة من الأتراك معزولة وفاقدة للفعالية السياسية، ولم تعد الدولة العبرية تحظى بكل ما تريد من الأتراك، وبقيت العلاقة بين الطرفين أسيرة ملفات لا زال بعضها معلقاً.
نفس الفئة من الأتراك أصبحت الحليف الأكبر لبشار الأسد في الفترة الأخيرة، ولهذا التأييد دوافع كثيرة، والدافع الأول هو خصومتها لحزب العدالة والتنمية ورغبتها في تخطيء سياسته المعادية لبشار الأسد من باب ادعائها أنها تمس المصالح التركية، وأرسلت وفوداً للالتقاء ببشار، و "بَيَّنَت التحقيقات ضلوع أعضاء من أحد الوفود في التحضير لاعتداءات في تركيا" كما قال نائب رئيس الوزراء التركي.
غالبية المعارضة المعادية لأردوغان ومن حزب الشعب الجمهوري تنتمي للطائفة العلوية في تركيا، ولذلك تميل تلك الطائفة لبشار الأسد من هذا الباب، بالرغم من كونهم يختلفون مع العلويين في سوريا في بعض القضايا العقائدية، إلا أنّ محاولات بشار للحشد الطائفي في المنطقة، رغم الفروقات، استطاعت تجنيد الشيعة والعلويين في المشرق للوقوف بجانبه، إلى جانب أجزاء من طوائف اخرى.
ينتمي غالبية معارضي العدالة والتنمية ايديولوجياً للفكر اليساري، وهم يشتركون فكريَّاً – ولو ظاهريّاً- مع بشار الأسد ونظامه، وهم في نفس الوقت يشتركون معه في قيم الاستبداد والإقصاء للآخر المخالف لهم، ومارسوا هذا الإقصاء بناءً على ما ينتمون له من خلفيات فكرية وثقافية، وهذه تتناقض مع طروحات العدالة والتنمية الحاكم، فهو أعطاهم الحق والفرصة لمنافسته عبر صناديق الاقتراع، ولم يَسعَ لقمعهم واستبعادهم من المعادلة السياسية عبر القضاء والجيش، ولهذا كان طبيعياً أن يلجأوا للعنف في الشارع بعد أن فقدوا أدوات الاقصاء في القضاء والجيش التي مَكَّنَتهم من استبعاد خصومهم السياسيين سابقاً.
أحد أسباب غضب بعض المتظاهرين ومثيري الشغب هي قوانين تقنين وتحديد مواعيد بيع الخمور، وهذه ليست بدعة حتى في الدول الغير إسلامية، فهناك قوانين تحكم بيع هذا الصنف من المشروبات، ولكن أنصار سياسة " بدنا نسكر" بلا أي ضوابط ساءهم ما قامت به الحكومة، معتبرين أنّه مقدمة لقوانين أخرى مُقَيِّدَة لهم.
للعثمانيون الجدد طموحات عابرة للقارات، ويسيرون بخطوات واثقة لتحقيقها، وفيما يخص " الربيع العربي" فقد وضعوا كل بيضهم في سَلَّتِه، بالاضافة إلى خطوات واثقة لهم في البناء الداخلي بما يحقق مصالح ورغبات ومُتطلَّبات الشعب التركي، ومما لا شكَّ فيه أنَّهُم يدركون التحديات التي تواجههم، ولا يبدو أنّ الأتراك المعروفين بالتصميم والقوّة بوارد الاستسلام لتلك الصعوبات والتحديات، فقد بنوا نظاماً مستقراً اتسع للجميع، ولا مكان فيه إلا لمن يرغب بالتغيير عبر صندوق الاقتراع، وهذا ما لا يدركه بعض المرضى ب " الإخوانوفوبيا" في العالم العربي، الذين بنوا آمالاً على تلك المظاهرات.
صلاح حميدة
يُعتَبَر رجب طيب أردوغان وحزبه العدالة والتنمية حالةً فريدةً في تاريخ تركيا، فقد نهض بها من حالة سيئة إلى أن جعلها في مصاف الدول المتقدمة في الكثير من المجالات، مما جعل الكثير من المحللين يطلقون على العقد الذي تسلم فيه حزبه السلطة في تركيا، عقد الأردوغانية، أو عقد التنمية، و لا يمكن لأي معارض أو مخالف لنهج هذا الحزب أن يجادل في إنجازاتهما.
من الواضح أنّ العثمانيين الجدد - كما يحبون تسمية أنفسهم - لديهم طموحات كبيرة لا تحدها الجغرافيا، وتستمد قوتها من التاريخ، وتتطلع لمستقبل يضمن لهم موقعاً مهماً بين الأمم، بل يحرصون على أن يتجاوزوا عقد الجغرافيا والتاريخ التي خلقت لهم بيئة معادية في محيطهم الإقليمي.
شَكَّلَ الربيع العربي أكبر تحدٍ للعثمانيين الجدد، فقد رحبوا بكافة مخرجاته، ودعوا لتبني برامج تتبنى خيارات الشعوب الثائرة، وحاولوا جاهدين إقناع حاكم سوريا بأن ينفذ مطالب شعبه، ولكن كان لهذا الشخص ومن يتحالفون معه رأي آخر فيما يخص التعاطي مع المطالب الشعبية، ولذلك وجد الأتراك أنفسهم – شاؤوا أم أبوا- في حالة خصام شديد مع هذا الشخص وحلفائه، وتطور الخلاف إلى حالة من العداء، حاول من خلاله هذا الشخص تفعيل أدواته في الداخل التركي عبر تفجيرات الريحانية وإسقاط المقاتلة التركية وبعض عمليات القصف التي كانت ترد على بعضها المدفعية التركية.
أهم التحديات التي وقفت أمام العثمانيين الجدد كانت تلك المظاهرات التي واجهتهم في الفترة الأخيرة في ميدان تقسيم وبعض المدن التركية، وهي ظاهرة غابت عن الشوارع التركية منذ فترة، ولكنها لم تغب عنها في بدايات حكم الحزب، وهو ما أثار تساؤلات عن سبب معاودتها الانطلاق في هذا الوقت، وهل قامت بسبب مشاريع تطوير الميدان، وقوانين تحديد أوقات بيع الخمور؟.
عندما فاز حزب العدالة والتنمية قبل سنوات في الانتخابات، قال أحد كبار المحللين السياسيين الأتراك:- " هذا تصويت على الهويّة" ففي تركيا صراع مستميت بين هويتين حضاريتين، إحداهما تريد الانسجام مع واقع وتاريخ تركيا وثقافة ودين الأتراك، والأخرى لا ترى نفسها إلا ضمن الحضارة والثقافة والهوية الأوروبية، وفعلوا ما لا يُفعَل حتى يقبلهم الأوروبيون في ناديهم، فلا أصبحوا أوروبيين، ولا هم يريدون العودة إلى جذورهم الحضارية، ولذلك كان مصيرهم الضعف وشبه الانقراض، ورفضهم الشعب التركي. ولذلك كانت شرارة الاحتجاجات لها علاقة بثكنة عثمانية تاريخية هدمها أتاتورك وأسس ميدان تقسيم على أنقاضها، ومحاولة العدالة والتنمية بناءها من جديد شَكَّلَ للمُتَأَورِبِين علامةً فارقةً بدفن مرحلة وثقافة وهوية، وإحياء و بناء أخرى كانوا يعتقدون أنها انتهت منذ زمن بعيد، وهذا في تقديري أحد أهم الأسباب للعنف من قبل المتظاهرين تجاه المؤسسات العامة والخاصة.
يشعر المتأوربون في تركيا أنّهم فشلوا في كل منازلة ضد العدالة والتنمية، فقد حكموا البلاد لسنوات طويلة، فنهبوها وخربوها، وساد الفساد الإداري والمالي، وأوقعوا البلاد تحت طائلة الديون بمليارات الدولارات، وجعلوا تركيا في ذيل العالم بالرغم من الذخر الاستراتيجي الكبير لها في العالم، ومما زاد في حَنَقِهِم قُدرَةُ حزب العدالة والتنمية على الصعود بتركيا في زمن قياسي، فخلال عشر سنوات فقط انتقلت تركيا نقلةً مهمةً تُسَجَّلُ للعدالة والتنمية، ولهذا يمكن فهم الطبيعة العنيفة للمحبط الذي يفتقد للقدرة على منافسة الآخرين، والذي يجد نفسه عاجزاً عن مجاراتهم، ويختبىء خجلاً عند عقد مقارنة بينهم وبينه.
يعتبر العلمانيون الأتراك من أقرب المقربين للدولة العبرية في تركيا، ومن اللحظة التي وصل فيها أردوغان للسلطة في تركيا والعلاقات في تراجع - لم تقطع لظروف موضوعية حسب رأي الكثير من المحللين- وعلى كل الأحوال أصبحت تلك الفئة من الأتراك معزولة وفاقدة للفعالية السياسية، ولم تعد الدولة العبرية تحظى بكل ما تريد من الأتراك، وبقيت العلاقة بين الطرفين أسيرة ملفات لا زال بعضها معلقاً.
نفس الفئة من الأتراك أصبحت الحليف الأكبر لبشار الأسد في الفترة الأخيرة، ولهذا التأييد دوافع كثيرة، والدافع الأول هو خصومتها لحزب العدالة والتنمية ورغبتها في تخطيء سياسته المعادية لبشار الأسد من باب ادعائها أنها تمس المصالح التركية، وأرسلت وفوداً للالتقاء ببشار، و "بَيَّنَت التحقيقات ضلوع أعضاء من أحد الوفود في التحضير لاعتداءات في تركيا" كما قال نائب رئيس الوزراء التركي.
غالبية المعارضة المعادية لأردوغان ومن حزب الشعب الجمهوري تنتمي للطائفة العلوية في تركيا، ولذلك تميل تلك الطائفة لبشار الأسد من هذا الباب، بالرغم من كونهم يختلفون مع العلويين في سوريا في بعض القضايا العقائدية، إلا أنّ محاولات بشار للحشد الطائفي في المنطقة، رغم الفروقات، استطاعت تجنيد الشيعة والعلويين في المشرق للوقوف بجانبه، إلى جانب أجزاء من طوائف اخرى.
ينتمي غالبية معارضي العدالة والتنمية ايديولوجياً للفكر اليساري، وهم يشتركون فكريَّاً – ولو ظاهريّاً- مع بشار الأسد ونظامه، وهم في نفس الوقت يشتركون معه في قيم الاستبداد والإقصاء للآخر المخالف لهم، ومارسوا هذا الإقصاء بناءً على ما ينتمون له من خلفيات فكرية وثقافية، وهذه تتناقض مع طروحات العدالة والتنمية الحاكم، فهو أعطاهم الحق والفرصة لمنافسته عبر صناديق الاقتراع، ولم يَسعَ لقمعهم واستبعادهم من المعادلة السياسية عبر القضاء والجيش، ولهذا كان طبيعياً أن يلجأوا للعنف في الشارع بعد أن فقدوا أدوات الاقصاء في القضاء والجيش التي مَكَّنَتهم من استبعاد خصومهم السياسيين سابقاً.
أحد أسباب غضب بعض المتظاهرين ومثيري الشغب هي قوانين تقنين وتحديد مواعيد بيع الخمور، وهذه ليست بدعة حتى في الدول الغير إسلامية، فهناك قوانين تحكم بيع هذا الصنف من المشروبات، ولكن أنصار سياسة " بدنا نسكر" بلا أي ضوابط ساءهم ما قامت به الحكومة، معتبرين أنّه مقدمة لقوانين أخرى مُقَيِّدَة لهم.
للعثمانيون الجدد طموحات عابرة للقارات، ويسيرون بخطوات واثقة لتحقيقها، وفيما يخص " الربيع العربي" فقد وضعوا كل بيضهم في سَلَّتِه، بالاضافة إلى خطوات واثقة لهم في البناء الداخلي بما يحقق مصالح ورغبات ومُتطلَّبات الشعب التركي، ومما لا شكَّ فيه أنَّهُم يدركون التحديات التي تواجههم، ولا يبدو أنّ الأتراك المعروفين بالتصميم والقوّة بوارد الاستسلام لتلك الصعوبات والتحديات، فقد بنوا نظاماً مستقراً اتسع للجميع، ولا مكان فيه إلا لمن يرغب بالتغيير عبر صندوق الاقتراع، وهذا ما لا يدركه بعض المرضى ب " الإخوانوفوبيا" في العالم العربي، الذين بنوا آمالاً على تلك المظاهرات.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية