الفلسطينيون بين المصالحة ونفض البيت
د. عبد الستار قاسم
تنشغل وسائل إعلام وسياسيون كثيرا بالمصالحة الفلسطينية، أي المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ويجادلون بأن الوضع الفلسطيني تدهور بسبب الانقسام القائم، وأن إسرائيل لم تكن لتجرؤ على الإمعان في سياساتها العدوانية وتحديها لولا غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية. وعلى مدى سنوات ينشط الوسطاء وأصحاب الإصلاح في مجال المصالحة، ويلحّون على الحركتين بضرورة الاتفاق إنقاذا للقضية الفلسطينية وللحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. من اليمن إلى السعودية ومصر، إلى أشخاص من أصحاب الشأن الكبير والتأثير، لم تنجح الجهود بعد.
تخيم هذه الجدلية أيضا على قطاع واسع من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يسيئهم الانقسام ويؤثر سلبا على مختلف أوضاعهم الخاصة والعامة. شعب فلسطين إجمالا يعتصر ألما على ما جرى ويجري على الساحة الفلسطينية، ويتمنى أن تكون ساعة المصالحة قريبة لكي يرتاح قليلا، ويتمكن من التفرغ لمواجهة سياسات الصهاينة. فهل ستحل المصالحة المشاكل القائمة داخليا؟ وهل بإمكان المتصالحين أن يتصدوا للتحديات الخارجية؟
الصلح خير
من الناحية المبدئية الصلح خير لما فيه من استرخاء في العلاقات وإمكانية التعاون وتحاشي الصراعات التي تكون في العادة مكلفة للجميع. لا يمكن لمجتمع أو شعب أن يعمل بكفاءة إذا طغت الخلافات والصراعات على علاقاته الداخلية، وأخذت مكان الصدارة في قائمة أولويات الفئات المختلفة أو الأحزاب والتنظيمات. ربما لا يستطيع المجتمع حل مشاكله فيما إذا اختفت الصراعات، لكن تدهوره مؤكد في حال وجودها، ومن الأفضل دائما أن تبقى الخلافات ضمن إطارها الخلافي التحاوري، وأن يتم العمل على محاصرتها من قبل كل الأطراف حتى لا تتحول إلى قطيعة ونزاعات وصراعات.
الصلح لا يعني التوافق أو الاتفاق على كل شيء، لكنه يعني الاستمرار في الجهود نحو ذلك، أو على الأقل التعاون في المجالات المتفق عليها، واستمرار الحوار أو التنافس في المجالات موضع الخلاف أو الاختلاف. الصلح لا يعني إلغاء أحد، لكنه لا يعني أيضا استقواء أحد على آخر وحرمانه من حقوقه في التوجه إلى الناس من أجل كسب تأييدهم وحشدهم خلف فكرة معينة أو هدف معين؛ وهو لا يعني التفرد باتخاذ القرارات العامة وترك الآخرين يبتلعون آمالاهم وتطلعاتهم ورؤاهم في إدارة الشؤون العامة.
الشعب الفلسطيني يدرك هذه المسألة بصورة إجمالية، ويعي تماما أن الصلح بين فتح وحماس لا يعني إلغاء طرف لحساب آخر، لكنه يعي تماما أن مجالات التعاون تصبح مفتوحة ولو بصورة محدودة، ويصبح من الممكن محاصرة بعض الهموم الفلسطينية والتخفيف من بعضها. يتمنى الجمهور الفلسطيني أن يلتف الجميع حول أهداف واضحة ومعينة، وأن يلتفوا أيضا حول تدابير موحدة واضحة، لكن إذ لم يكن هذا ممكنا، فإنه من الممكن ألا تتجاوز الفصائل الخطوط الحمراء، وتغلّب المصلحة العامة على المصالح الفئوية.
تكرار الصراعات الفلسطينية
تكررت الصراعات الدموية بين الفصائل الفلسطنية عبر عشرات السنين حتى بدت وكأنها ظاهرة في تاريخ القتال من أجل استرداد الحقوق الوطنية الثابة للشعب الفلسطيني. حصلت صراعات دموية بين القيادات القبلية الفلسطينية قبل عام 1948، واستهلكت الجهود الفلسطينية التي كان من المفروض توجيهها ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. وقد اشتدت هذه الصراعات مع ظهور فصائل المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة حزيران بحيث حصلت فيما بينها اشتباكات مسلحة متكررة. لقد شهد الفلسطينيون قتالا دمويا بين الفصائل في الأردن ولبنان، وشهدوا جهود الوساطة وإصلاح ذات البين من أجل محاصرة النزيف. لكن فرحة الفلسطينيين بمناظر قادة الفصائل وهم يظهرون أمام وسائل الإعلام بأيد متشابكة تدل على الوحدة والاتفاق لم تكن لتدوم طويلا، واستمر مسلسل الصراعات يقضي على الفرحات والآمال.
تكرار الصراعات الدموية والقطيعة بين الأحزاب والتنظيمات يشير إلى خلل تركيبي خطير في المجتمع الفلسطيني وفي القيادات الفلسطينية. هذا أمر بحاجة إلى أبحاث علمية للوقوف على دقائقه، لكنني أكتفي هنا بالإشارة إلى أن ظاهرة الصراع الدموي لم تحظ حتى الآن من قبل الفصائل ومن قبل منظمة التحرير بالاهتمام العلمي، ولم تبادر القيادات إلى دراسته بمنهجية علمية من أجل الوقوف على أسبابه ومعالجته. يبدو أن الجميع قد استسلم للظاهرة، وبقي يتخوف من بروزها المتكرر، ويأمل بالصلح الذي يلي. وهنا يبرز أيضا تقصير الأكاديميين والباحثين الذين لم يولوا المسألة الاهتمام المطلوب، ولم يقوموا بالجهود الشعبية الضرورية لبث الوعي حول زجر الفصائل عن التمادي في خلافاتها، وإغراق الشعب بالدماء.
حصلت مصالحة بين الفصائل الفلسطينية عام 2005 في اتفاق القاهرة، وتم التوقيع على اتفاق نص على بندين رئيسيين وهما الهدنة مع إسرائيل وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. التزمت الفصائل بشق الهدنة والذي لم تكن إسرائيل طرفا فيه، لكنها لم تنفذ الشق الثاني، واستمر الخلاف الذي كان يستنزف الدماء. وتصالحت الفصائل أيضا عام 2007 في مكة، وقررت تشكيل حكومة وحدة وطنية لم تدم أكثر من شهرين. لم أكن أتوقع أبدا أن تحترم الفصائل أسس المصالحة لأن الخلافات على الساحة الفلسطينية أكبر من أن تحلها مصالحات. إنها خلافات تقوم على تناقض حاد في البرامج والتطلعات، والمصالحة لا يمكن أن توفق بينها.
المصالحة لا تردع إسرائيل
يتردد في وسائل إعلام وعلى ألسنة سياسيين أن إسرائيل تمعن في سياساتها الخاصة ببناء المستوطنات وتهويد القدس ومصادرة الأراضي وإبعاد الناس لأن الفلسطينيين منقسمون ومتصارعون، وأن إسرائيل لم تكن لتتمادى لولا أن الوضع الفلسطيني متهتك.
هذه مقولة غير صحيحة، وسياسات إسرائيل التقليدية لا علاقة لها بالانقسام والمصالحة. السياسات الإسرائيلية التقليدية مستمرة منذ زمن بعيد: قبل أن تكون هناك فصائل فلسطينية، وعندما كان التوافق الفلسطيني قائما، وعندما نشبت الخلافات والصراعات أيضا. لم تشكل الفصائل الفلسطينية منذ عام 1967 حتى الآن رادعا لإسرائيل، ولم تتوقف إسرائيل عن ممارساتها العدوانية في أي لحظة من اللحظات. ربما كانت تتوقف لحين من الوقت عن هذه الممارسات خلال الانتفاضات، لكن ليس بسبب قوة الردع الفلسطينية، وإنما بسبب أولويات المواجهة. فقط انسحبت إسرائيل من غزة بسبب التكاليف التي فرضتها عليها المقاومة، وليس بسبب الوحدة الوطنية التي لم تكن أصلا موجودة.
كان الفلسطينيون على شبه وئام في الثمانينيات، واستمرت الممارسات الإسرائيلية، ولم تنفجر خلافاتهم إلى صراعات في التسعينيات، لكن إسرائيل لم تتوقف. أي أن ردع إسرائيل عن الاستمرار فيما تقوم به لا يتوقف على المصالحة الفلسطينية، وإنما يتطلب الأمر أكثر من ذلك. وإذا كان للفلسطينيين أن يتصالحوا غدا، ويقوم قادة الفصائل بتبادل القبل، لما شكل ذلك بالنسبة لإسرائيل مناسبة لإعادة التفكير فيما تصنع.
العلة في ترتيب البيت
الانقسام الفلسطيني عبارة عن نتيجة وليس سببا، وإذا كان لنا أن نتغلب عليه فعلينا ان نبحث عن الأسباب التي أدت إليه ونتخلص منها. أما إذا كنا نبحث عن إنهاء للانقسام دون معالجة الأسباب فإن علينا أن ننتظر نشوب الخلاف مجددا وعلى وجه السرعة. أمر الفلسطينيين هذا شبيه بأمر الأنظمة العربية التي تظن دائما إن المصالحات تحل الأزمات التي تنشب بينها، فيلتقي الزعماء في المطارات وردهات الفنادق ويتعانقون ويذرفون دموع الندم على الشقاق، لكنهم يعودون إلى سابق عهودهم بعد أسبوع من اللقاء الحميم. العناق يعطي انطباعا شكليا، لكنه لا يعالج أسباب الشقاق، ويفرح الناس قليلا بلقاءات الإخوة ليعودوا للطم الخدود حزنا على حليمة.
البيت الفلسطيني يعاني من علل كثيرة تقود جميعها إلى الانقسام، وذلك في تاريخ الصراع قبل عام 1948 وبعده. هناك عقلية قبلية ما زالت متجذرة، وطغت على فكرة التنظيم حتى باتت الفصائل تتصرف وكانها قبائل على النمط الجاهلي. العقلية القبلية عقلية متحوصلة ذاتية تتغذى على المجتمع الأوسع، وتؤثر مصلحتها الخاصة على المصلحة العامة، وتلغي الشخص وتقتل فيه الإبداع والمبادرة. وكم من الأحيان تعاونت قبائل وفصائل مع عدو أو خصم نكاية بقبيلة أخرى أو فصيل، أو رغبة في الحصول على دعم لحسم خلاف داخلي.
فضلا عن العقلية القبلية، تعاني الساحة الفلسطينية من عقلية قيادية استبدادية مشابهة تماما للعقلية القيادية العربية، وهي عقلية ترخي السبيل في النهاية للفشل والهزيمة والتنابز الداخلي والاتهامات والاتهامات المضادة. هذا إن لم تكن بعض القيادات مرتبطة ارتباطا خياينا جاسوسيا بالعدو وتعمل بصورة متعمدة على صناعة الخلافات واللاقتتال تحت شعارات وطنية أو شعارات فصائلية تعصبية عمياء. وقد تمت قيادة الشعب الفلسطيني عبر سنوات طويلة بطريقة فهلوية لم تترك قيمة لعالم أو أكاديمي أو مفكر أو شيخ جليل، أو لمقوم أخلاقي أو تماسك اجتماعي، ولم يكن من مفر إلى وقوع الشعب الفلسطيني عبر السنوات في مصيدة الاقتتال والنزف الدموي على أيدي الإخوة والأحبة شركاء السلاح.
لم تلتزم الساحة الفلسطينية منذ البدء بالمواثيق الفلسطينية، وعلى رأسها الميثاق الوطني الفلسطيني، ولم تلتزم بالوحدة الوطنية إلى درجة أن الفصائل اضطرت أن ترفع شعارا يقول "الدم الفلسطيني خط أحمر." الشعب الذي يصل إلى هذا الشعار إنما يعي تماما أن مجمل ما يجري داخله يؤدي إلى الاقتتال، والشعار من هذا القبيل لا يعني سوى أن الشعب متجه نحو الاقتتال.
لم تلتزم الفصائل الفلسطينية بالقول إن الوحدة الوطنية أهم من كل الاتفاقيات التي يمكن أن يعقدها طرف فلسطيني مع الغير الخارجي. لقد تجرأ قادة فلسطينيون وعلى رأسهم عرفات بتوقيع اتفاقيات مع إسرائيل مست بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ولم يكن من المتوقع أن يقف المناهضون لهذه المسألة مسبحين بحمده مقدمين له الشكر. لقد دخلت الساحة الفلسطينية بالمحرمات مع اتفاق أوسلو، وحتما لم يكن من نتيجة متوقعة غير الاقتتال.
هذا ناهيك عن التدخل الخارجي المتعمد في الشؤون الفلسطينية، والذي يريد صياغة السياسات الفلسطينية. الأمم تتعاون، ولا يوجد أمام الشعب الفلسطيني سوى التعاون مع دول عربية وإسلامية، لكن الأمر خرج عن إطار التعاون لصالح الإملااءات التي تؤدي بالتأكيد إلى تأجيج الخلافات والصراعات، بخاصة أن الآخرين الأعداء باتوا يتحكمون بلقمة خبز الشعب الفلسطيني.
المبادرة المصرية
المبادرة المصرية بعيدة كل البعد عن معالجة أسباب الخلافات على الساحة الفلسطينية، بل هي تكرسها. المبادرة المصرية معنية بصورة أساسية باستمرار العملية التفاوضية وقبول الفصائل الفلسطينية بشروط ما يسمى بالمجتمع الدولي أو الرباعية الدولية. موضوع المبادرة المصرية هو الذي أجج الصراعات بالمزيد على الساحة الفلسطينية، وهو الذي ما زال يقف عقبة كأداء أمام ما يمكن أن يتمخض من وحدة فلسطينية. المبادرة لا تعالج الأسباب، وبالتالي لا يمكن لها أن تكون علاجا حتى لو وقعت حماس عليها. قد يؤدي التوقيع عليها إلى تخفيف التوتر الداخلي الفلسطيني مؤقتا، لكن الصراع سينشب من جديد. فقط المبادرة يمكن أن تنجح في حالة واحدة وهي عندما يصل الشعب الفلسطيني بصورة عامة إلى حالة بائسة من اليأس تتبخر معها آماله وآلامه، ولا يجد أمامه سوى الإنحناء طويل المدى.
والعمل
عهود الهزيمة والضعف لا توحد شعوبا بل تهزمها. الشعب الفلسطيني لا يختلف عن غيره من الشعوب، وقد حفرت الإحباطات والإخفاقات في صفوفه مختلف صنوف الشقوق والانقسام. وإذا كان له أن يتوحد فما عليه إلا أن يبحث عن أسباب القوة ليشعر بذاته وبقدرته على تحقيق الإنجازات. هذا يتطلب إعادة بناء المجتمع وفق أسس قيادية جديدة، وإعادة بناء الفصائل الفلسطينية وفق أسس أمنية جديدة تؤمن بالعمل السري القائم على ردع العدو وليس على التفاخر والتظاهر أمام الناس. من الضروري أن يحصل طلاق بين الشعب الفلسطيني وبين الكثير من الممارسات الاجتماعية والأخلاقية والأمنية، وعندها لن يكون الشعب بحاجة لقوى خارجية تنصحه بالوحدة، فهو سيجد طريق الوحدة بصورة تلقائية.
تنشغل وسائل إعلام وسياسيون كثيرا بالمصالحة الفلسطينية، أي المصالحة بين حركتي فتح وحماس، ويجادلون بأن الوضع الفلسطيني تدهور بسبب الانقسام القائم، وأن إسرائيل لم تكن لتجرؤ على الإمعان في سياساتها العدوانية وتحديها لولا غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية. وعلى مدى سنوات ينشط الوسطاء وأصحاب الإصلاح في مجال المصالحة، ويلحّون على الحركتين بضرورة الاتفاق إنقاذا للقضية الفلسطينية وللحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني. من اليمن إلى السعودية ومصر، إلى أشخاص من أصحاب الشأن الكبير والتأثير، لم تنجح الجهود بعد.
تخيم هذه الجدلية أيضا على قطاع واسع من أبناء الشعب الفلسطيني الذين يسيئهم الانقسام ويؤثر سلبا على مختلف أوضاعهم الخاصة والعامة. شعب فلسطين إجمالا يعتصر ألما على ما جرى ويجري على الساحة الفلسطينية، ويتمنى أن تكون ساعة المصالحة قريبة لكي يرتاح قليلا، ويتمكن من التفرغ لمواجهة سياسات الصهاينة. فهل ستحل المصالحة المشاكل القائمة داخليا؟ وهل بإمكان المتصالحين أن يتصدوا للتحديات الخارجية؟
الصلح خير
من الناحية المبدئية الصلح خير لما فيه من استرخاء في العلاقات وإمكانية التعاون وتحاشي الصراعات التي تكون في العادة مكلفة للجميع. لا يمكن لمجتمع أو شعب أن يعمل بكفاءة إذا طغت الخلافات والصراعات على علاقاته الداخلية، وأخذت مكان الصدارة في قائمة أولويات الفئات المختلفة أو الأحزاب والتنظيمات. ربما لا يستطيع المجتمع حل مشاكله فيما إذا اختفت الصراعات، لكن تدهوره مؤكد في حال وجودها، ومن الأفضل دائما أن تبقى الخلافات ضمن إطارها الخلافي التحاوري، وأن يتم العمل على محاصرتها من قبل كل الأطراف حتى لا تتحول إلى قطيعة ونزاعات وصراعات.
الصلح لا يعني التوافق أو الاتفاق على كل شيء، لكنه يعني الاستمرار في الجهود نحو ذلك، أو على الأقل التعاون في المجالات المتفق عليها، واستمرار الحوار أو التنافس في المجالات موضع الخلاف أو الاختلاف. الصلح لا يعني إلغاء أحد، لكنه لا يعني أيضا استقواء أحد على آخر وحرمانه من حقوقه في التوجه إلى الناس من أجل كسب تأييدهم وحشدهم خلف فكرة معينة أو هدف معين؛ وهو لا يعني التفرد باتخاذ القرارات العامة وترك الآخرين يبتلعون آمالاهم وتطلعاتهم ورؤاهم في إدارة الشؤون العامة.
الشعب الفلسطيني يدرك هذه المسألة بصورة إجمالية، ويعي تماما أن الصلح بين فتح وحماس لا يعني إلغاء طرف لحساب آخر، لكنه يعي تماما أن مجالات التعاون تصبح مفتوحة ولو بصورة محدودة، ويصبح من الممكن محاصرة بعض الهموم الفلسطينية والتخفيف من بعضها. يتمنى الجمهور الفلسطيني أن يلتف الجميع حول أهداف واضحة ومعينة، وأن يلتفوا أيضا حول تدابير موحدة واضحة، لكن إذ لم يكن هذا ممكنا، فإنه من الممكن ألا تتجاوز الفصائل الخطوط الحمراء، وتغلّب المصلحة العامة على المصالح الفئوية.
تكرار الصراعات الفلسطينية
تكررت الصراعات الدموية بين الفصائل الفلسطنية عبر عشرات السنين حتى بدت وكأنها ظاهرة في تاريخ القتال من أجل استرداد الحقوق الوطنية الثابة للشعب الفلسطيني. حصلت صراعات دموية بين القيادات القبلية الفلسطينية قبل عام 1948، واستهلكت الجهود الفلسطينية التي كان من المفروض توجيهها ضد الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية. وقد اشتدت هذه الصراعات مع ظهور فصائل المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة حزيران بحيث حصلت فيما بينها اشتباكات مسلحة متكررة. لقد شهد الفلسطينيون قتالا دمويا بين الفصائل في الأردن ولبنان، وشهدوا جهود الوساطة وإصلاح ذات البين من أجل محاصرة النزيف. لكن فرحة الفلسطينيين بمناظر قادة الفصائل وهم يظهرون أمام وسائل الإعلام بأيد متشابكة تدل على الوحدة والاتفاق لم تكن لتدوم طويلا، واستمر مسلسل الصراعات يقضي على الفرحات والآمال.
تكرار الصراعات الدموية والقطيعة بين الأحزاب والتنظيمات يشير إلى خلل تركيبي خطير في المجتمع الفلسطيني وفي القيادات الفلسطينية. هذا أمر بحاجة إلى أبحاث علمية للوقوف على دقائقه، لكنني أكتفي هنا بالإشارة إلى أن ظاهرة الصراع الدموي لم تحظ حتى الآن من قبل الفصائل ومن قبل منظمة التحرير بالاهتمام العلمي، ولم تبادر القيادات إلى دراسته بمنهجية علمية من أجل الوقوف على أسبابه ومعالجته. يبدو أن الجميع قد استسلم للظاهرة، وبقي يتخوف من بروزها المتكرر، ويأمل بالصلح الذي يلي. وهنا يبرز أيضا تقصير الأكاديميين والباحثين الذين لم يولوا المسألة الاهتمام المطلوب، ولم يقوموا بالجهود الشعبية الضرورية لبث الوعي حول زجر الفصائل عن التمادي في خلافاتها، وإغراق الشعب بالدماء.
حصلت مصالحة بين الفصائل الفلسطينية عام 2005 في اتفاق القاهرة، وتم التوقيع على اتفاق نص على بندين رئيسيين وهما الهدنة مع إسرائيل وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية. التزمت الفصائل بشق الهدنة والذي لم تكن إسرائيل طرفا فيه، لكنها لم تنفذ الشق الثاني، واستمر الخلاف الذي كان يستنزف الدماء. وتصالحت الفصائل أيضا عام 2007 في مكة، وقررت تشكيل حكومة وحدة وطنية لم تدم أكثر من شهرين. لم أكن أتوقع أبدا أن تحترم الفصائل أسس المصالحة لأن الخلافات على الساحة الفلسطينية أكبر من أن تحلها مصالحات. إنها خلافات تقوم على تناقض حاد في البرامج والتطلعات، والمصالحة لا يمكن أن توفق بينها.
المصالحة لا تردع إسرائيل
يتردد في وسائل إعلام وعلى ألسنة سياسيين أن إسرائيل تمعن في سياساتها الخاصة ببناء المستوطنات وتهويد القدس ومصادرة الأراضي وإبعاد الناس لأن الفلسطينيين منقسمون ومتصارعون، وأن إسرائيل لم تكن لتتمادى لولا أن الوضع الفلسطيني متهتك.
هذه مقولة غير صحيحة، وسياسات إسرائيل التقليدية لا علاقة لها بالانقسام والمصالحة. السياسات الإسرائيلية التقليدية مستمرة منذ زمن بعيد: قبل أن تكون هناك فصائل فلسطينية، وعندما كان التوافق الفلسطيني قائما، وعندما نشبت الخلافات والصراعات أيضا. لم تشكل الفصائل الفلسطينية منذ عام 1967 حتى الآن رادعا لإسرائيل، ولم تتوقف إسرائيل عن ممارساتها العدوانية في أي لحظة من اللحظات. ربما كانت تتوقف لحين من الوقت عن هذه الممارسات خلال الانتفاضات، لكن ليس بسبب قوة الردع الفلسطينية، وإنما بسبب أولويات المواجهة. فقط انسحبت إسرائيل من غزة بسبب التكاليف التي فرضتها عليها المقاومة، وليس بسبب الوحدة الوطنية التي لم تكن أصلا موجودة.
كان الفلسطينيون على شبه وئام في الثمانينيات، واستمرت الممارسات الإسرائيلية، ولم تنفجر خلافاتهم إلى صراعات في التسعينيات، لكن إسرائيل لم تتوقف. أي أن ردع إسرائيل عن الاستمرار فيما تقوم به لا يتوقف على المصالحة الفلسطينية، وإنما يتطلب الأمر أكثر من ذلك. وإذا كان للفلسطينيين أن يتصالحوا غدا، ويقوم قادة الفصائل بتبادل القبل، لما شكل ذلك بالنسبة لإسرائيل مناسبة لإعادة التفكير فيما تصنع.
العلة في ترتيب البيت
الانقسام الفلسطيني عبارة عن نتيجة وليس سببا، وإذا كان لنا أن نتغلب عليه فعلينا ان نبحث عن الأسباب التي أدت إليه ونتخلص منها. أما إذا كنا نبحث عن إنهاء للانقسام دون معالجة الأسباب فإن علينا أن ننتظر نشوب الخلاف مجددا وعلى وجه السرعة. أمر الفلسطينيين هذا شبيه بأمر الأنظمة العربية التي تظن دائما إن المصالحات تحل الأزمات التي تنشب بينها، فيلتقي الزعماء في المطارات وردهات الفنادق ويتعانقون ويذرفون دموع الندم على الشقاق، لكنهم يعودون إلى سابق عهودهم بعد أسبوع من اللقاء الحميم. العناق يعطي انطباعا شكليا، لكنه لا يعالج أسباب الشقاق، ويفرح الناس قليلا بلقاءات الإخوة ليعودوا للطم الخدود حزنا على حليمة.
البيت الفلسطيني يعاني من علل كثيرة تقود جميعها إلى الانقسام، وذلك في تاريخ الصراع قبل عام 1948 وبعده. هناك عقلية قبلية ما زالت متجذرة، وطغت على فكرة التنظيم حتى باتت الفصائل تتصرف وكانها قبائل على النمط الجاهلي. العقلية القبلية عقلية متحوصلة ذاتية تتغذى على المجتمع الأوسع، وتؤثر مصلحتها الخاصة على المصلحة العامة، وتلغي الشخص وتقتل فيه الإبداع والمبادرة. وكم من الأحيان تعاونت قبائل وفصائل مع عدو أو خصم نكاية بقبيلة أخرى أو فصيل، أو رغبة في الحصول على دعم لحسم خلاف داخلي.
فضلا عن العقلية القبلية، تعاني الساحة الفلسطينية من عقلية قيادية استبدادية مشابهة تماما للعقلية القيادية العربية، وهي عقلية ترخي السبيل في النهاية للفشل والهزيمة والتنابز الداخلي والاتهامات والاتهامات المضادة. هذا إن لم تكن بعض القيادات مرتبطة ارتباطا خياينا جاسوسيا بالعدو وتعمل بصورة متعمدة على صناعة الخلافات واللاقتتال تحت شعارات وطنية أو شعارات فصائلية تعصبية عمياء. وقد تمت قيادة الشعب الفلسطيني عبر سنوات طويلة بطريقة فهلوية لم تترك قيمة لعالم أو أكاديمي أو مفكر أو شيخ جليل، أو لمقوم أخلاقي أو تماسك اجتماعي، ولم يكن من مفر إلى وقوع الشعب الفلسطيني عبر السنوات في مصيدة الاقتتال والنزف الدموي على أيدي الإخوة والأحبة شركاء السلاح.
لم تلتزم الساحة الفلسطينية منذ البدء بالمواثيق الفلسطينية، وعلى رأسها الميثاق الوطني الفلسطيني، ولم تلتزم بالوحدة الوطنية إلى درجة أن الفصائل اضطرت أن ترفع شعارا يقول "الدم الفلسطيني خط أحمر." الشعب الذي يصل إلى هذا الشعار إنما يعي تماما أن مجمل ما يجري داخله يؤدي إلى الاقتتال، والشعار من هذا القبيل لا يعني سوى أن الشعب متجه نحو الاقتتال.
لم تلتزم الفصائل الفلسطينية بالقول إن الوحدة الوطنية أهم من كل الاتفاقيات التي يمكن أن يعقدها طرف فلسطيني مع الغير الخارجي. لقد تجرأ قادة فلسطينيون وعلى رأسهم عرفات بتوقيع اتفاقيات مع إسرائيل مست بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، ولم يكن من المتوقع أن يقف المناهضون لهذه المسألة مسبحين بحمده مقدمين له الشكر. لقد دخلت الساحة الفلسطينية بالمحرمات مع اتفاق أوسلو، وحتما لم يكن من نتيجة متوقعة غير الاقتتال.
هذا ناهيك عن التدخل الخارجي المتعمد في الشؤون الفلسطينية، والذي يريد صياغة السياسات الفلسطينية. الأمم تتعاون، ولا يوجد أمام الشعب الفلسطيني سوى التعاون مع دول عربية وإسلامية، لكن الأمر خرج عن إطار التعاون لصالح الإملااءات التي تؤدي بالتأكيد إلى تأجيج الخلافات والصراعات، بخاصة أن الآخرين الأعداء باتوا يتحكمون بلقمة خبز الشعب الفلسطيني.
المبادرة المصرية
المبادرة المصرية بعيدة كل البعد عن معالجة أسباب الخلافات على الساحة الفلسطينية، بل هي تكرسها. المبادرة المصرية معنية بصورة أساسية باستمرار العملية التفاوضية وقبول الفصائل الفلسطينية بشروط ما يسمى بالمجتمع الدولي أو الرباعية الدولية. موضوع المبادرة المصرية هو الذي أجج الصراعات بالمزيد على الساحة الفلسطينية، وهو الذي ما زال يقف عقبة كأداء أمام ما يمكن أن يتمخض من وحدة فلسطينية. المبادرة لا تعالج الأسباب، وبالتالي لا يمكن لها أن تكون علاجا حتى لو وقعت حماس عليها. قد يؤدي التوقيع عليها إلى تخفيف التوتر الداخلي الفلسطيني مؤقتا، لكن الصراع سينشب من جديد. فقط المبادرة يمكن أن تنجح في حالة واحدة وهي عندما يصل الشعب الفلسطيني بصورة عامة إلى حالة بائسة من اليأس تتبخر معها آماله وآلامه، ولا يجد أمامه سوى الإنحناء طويل المدى.
والعمل
عهود الهزيمة والضعف لا توحد شعوبا بل تهزمها. الشعب الفلسطيني لا يختلف عن غيره من الشعوب، وقد حفرت الإحباطات والإخفاقات في صفوفه مختلف صنوف الشقوق والانقسام. وإذا كان له أن يتوحد فما عليه إلا أن يبحث عن أسباب القوة ليشعر بذاته وبقدرته على تحقيق الإنجازات. هذا يتطلب إعادة بناء المجتمع وفق أسس قيادية جديدة، وإعادة بناء الفصائل الفلسطينية وفق أسس أمنية جديدة تؤمن بالعمل السري القائم على ردع العدو وليس على التفاخر والتظاهر أمام الناس. من الضروري أن يحصل طلاق بين الشعب الفلسطيني وبين الكثير من الممارسات الاجتماعية والأخلاقية والأمنية، وعندها لن يكون الشعب بحاجة لقوى خارجية تنصحه بالوحدة، فهو سيجد طريق الوحدة بصورة تلقائية.
الشبكات الاجتماعية
تـابعونا الآن على الشبكات الاجتماعية